أزمة النقد/ أزمة الوطن (14)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

 ثلاث مقولات دالة لبيرم التونسي تنتج دلالتها منفصلة متصلة:

  • “لولا النقاد لهلك الناس ولطغى الباطل على الحق ولامتطى الأرازل ظهور الأفاضل وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال”
  • “الأغنية مدرسة تستطيع أن تعطينا قيما سليمة، أو تدس لنا سموما خبيثة، فهي أخطر أداة للنشر في هذا العصر، والمحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس لا المؤلف ولا المطرب ولا الملحن”
  • “لقد منيت مصر بعدد هائل من المؤلفين الجهلاء الذين تنقصهم الثقافة حتى العامة والذين يحفظون عددا من الألفاظ يبدلونها ويغيرونها كأحجار الدومينو”

ترسم المقولات مشهدا كاملا ثلاثي الأبعاد لحال الثقافة، تشير الأولى إلى أهمية النقد بوصفه وعيا لازما لحياة الإنسان، فيما تؤكد الثانية على دور الأغنية في تشكيل الذائقة الإنسانية، وترسم الثالثة مشهدا لما كان عليه الوضع في زمن بيرم التونسي (منتصف القرن الماضي) مما يطرح تساؤلا بحجم الأزمة: إذا كان هذا هو حال التأليف خلال هذه المرحلة فكيف يكون عليه الأمر الآن؟ مع الوضع في الاعتبار عدة عوامل ذات تأثير أكبر: تراجع التعليم – ضعف اللغة العربية على ألسنة رجال الدين ورجال التعليم ورجال الإعلام وجماعة المثقفين ومن بعدهم على ألسنة المتعلمين والموظفين وعموم المواطنين.

ولأن الناقد ليس كيانا منفصلا عن جموع من تراجعت اللغة على ألسنتهم وهبطت ذائقتهم هبوطا كارثيا، فالناقد لم يولد ناقدا، وإنما هو نتاج مؤسسة اجتماعية (أسرة غرست، ومحيط اجتماعي مؤثر ومؤسسة تعليمية نظمت وتشارك الجميع في تشكيل ذائقة الناقد مما يكون له أثره في التكوين)، فإذا ما توقفنا عند هذه المكونات جميعها نجدها فاقدة القدرة على أداء دورها وكأنها تتعمد ذلك، فالأسرة تناست سنوات قدرتها على التربية السليمة القائمة على أسس إنسانية وعلمية، والمؤسسة التعليمية يعرف الجميع عثراتها، والمحيط الاجتماعي نتاج للمؤسستين، مما يفضي إلى إدراك ما سيكون عليه حال الذائقة التي هي أساس فعال من أسس تكوين الناقد.

من الغريب إننا نتحدث دائما عن تكوين الناقد وثقافته في السابق وكأن الأجيال السابقة ستظل أبد الدهر وكأن نقاد الأمس لابد أن يستمروا لكل الأجيال.

والحال هكذا فإن سببا من أسباب أزمة النقد يكمن في ضعف الذائقة تلك التي تجد مظاهرها وأسبابها في آن واحد في عدد من مظاهر اللحظة التاريخية من أهمها: الأغنية – الإعلان، بوصفهما مظهرين يعكسان مستوى التفكير وتجليات الظاهرة في دلالتها على ضعف الذائقة وهما في الوقت نفسه يمثلان مصدرا من مصادر التذوق، ضعفهما يعني ضعف الذائقة لدى منتجهما وهو ما يترتب عليه ضعف ذائقة متلقيهما، فإذا كانت الأغنية كما يرى بيرم التونسي أخطر أداة للنشر فإنها لعبت دورها الأهم في تاريخ تجربة الوعي المصرية بداية من الثورات والحروب والمواقف الاجتماعية والسياسية حتى أصبحت بحق واحدة من مصادر الوعي ومظاهره وواحدة من أهم طرائق تشكيل الذائقة الإنسانية، وما يهمنا هنا هو لغة الأغنية بالأساس وقدرتها على تشكيل الصورة وتنمية مقومات الخيال (سنعود للإعلان لاحقا ).

مرت الأغنية المصرية بمرحلتين أساسيتين:

  • مرحلة السماع ذلك المعتمد على مساحة الشفاهية عبر وسيط محدد هو أثير الإذاعة المصرية (1934) حتى الآن، وقد لعبت الإذاعة دورها المؤثر والفعال في تشكيل ذائقة المصريين بوصفها مدرسة الفن آنذاك قبل أن تفقد الإذاعة بريقها بفعل عوامل تتمثل في القائمين عليها قبل كل شيء، فحين فقدت الإذاعة المصرية إدارتها المؤمنة برسالتها توارى تأثيرها بفعل ظن مزعوم استقر في وجدان الإذاعيين بأن الإذاعة خارج سباق المنافسة متناسين أنها الأسرع وصولا إلى المستمع والأكثر إتاحة  حيث أصبح في كل موبايل وفي كل سيارة راديو يمكن التعامل معه على مدار الساعة (أذكر إنني في عام 1986 ظهر الراديو في شنبر النظارة ) مما يعني قدرة الراديو على الحضور في كل أدوات العصر.

في هذه المرحلة تشكلت الذائقة المصرية على يد عدد كبير من كتاب الأغنية: بيرم التونسي (1893- 1961) – حسين السيد (1916 – 1983) – فتحي قورة (1919- 1977)- حسيب غباشي(1922- 1982) – صلاح جاهين (1930- 1986) – عبد الرحمن الأبنودي (1938- 2015)–عبد الرحيم منصور (توفي 1984) – محمد علي أحمد (توفي 1977) وغيرهم

في بداية الألفية الثالثة تضاءلت مساحات الإبداع في الأغنية المصرية، صحيح برز كتاب تيترات المسلسلات التلفزيونية غير أنها ذات طابع مؤقت يتابعها المشاهد وقت إذاعة المسلسل فقط ولا يكتب لها البقاء إلا إذا روج لها مغنيها بغنائها في الحفلات ( كما في أغنية “باحبك ياصاحبي” التي جاءت في تيتر مسلسل يونس ولد فضة )، والأغنية من كلمات عصام حجاج، غير أن هناك أعمالا سجلت مستوى عاليا من الفن رغم ارتباطها بعمل درامي: معظم أعمال سيد حجاب وفي مقدمتها :”أرابيسك”ومن قبله “بوابة الحلواني” – أغنية مسلسل ” أولاد الشوارع ” من كلمات خميس عز العرب، – أغنية مسلسل أهل كايرو من غناء حسين الجسمي، وكلمات أيمن بهجت قمر – يضاف إلى ذلك  أغنيات حققت مستواها الفني مرتبطة بأحداث كبرى مثلما حدث مع أغنية “إزاي” لمحمد منير من كلمات “نصر الدين ناجي” في ارتباطها بثورة 25 يناير وخاصة بعد تصويرها تصويرا جديدا يعتمد على مشاهد من الثورة.

  • مرحلة التلقي البصري المرئي ممثلة في الأغنية المصورة التي بدأت مع التلفزيون (1960) ممتدة حتى الآن ومتوازية مع الخط السماعي السابق، وهي مرحلة اعتمدت – في مراحلها الأخيرة – على الصورة وقدراتها في الإبهار على حساب الكلمات والمعاني مما جعلها تخرج في كثير من مواضعاتها عن حدود الفن.

لقد فقدت الأغنية المصرية الكثير من مقوماتها الفنية حين فقدت الكلمات عميقة المعنى الكاشفة عن خلفية معرفية وثقافية عند كاتبها متحولة من الجانب الإيجابي في مقولة بيرم الثانية إلى الجانب السلبي في مقولته الثالثة وهو ما أسهم بقوة في تدني الذائقة المصرية، يمكننا ملاحظة ذلك حين نتتبع الأغنية المصرية من الخمسينيات حتى الآن وكيف تبدل حالها من كلمات قيمة (راجع تجربة أم كلثوم وجيلها) هبوطا إلى أغنيات تكشف كلماتها عن ذائقة أقل ما توصف به ” الخراب “.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)