أحمد والى يتنصت على شارع البحر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

كان للمصادفة دورها فى اكتشاف أحمد والى، هدانى تصفح بعض مواقع الإنترنت إلى مجموعته المتميزة “المتنصتون” التى فرضت نفسها على عالمى ليلة كاملة لم يكن من السهل  مقاومة سحر الحكايات المكانية تلك المرتبطة بمنطقة محددة (القرية المصرية) بوصفها مركزا لانطلاق التجربة السردية، سيكون عليك بداية إدراك التفاصيل فى ارتباطها بمنطقها المكانى، وبعدها ستجد نفسك ملزما بما وراء النص من تأويلات ودلالات تطرح نفسها فى لحظة ما عبر أسئلة النص ومساحات التناول فى قدرتها على خلق عالم من الجمال المؤطر بالمتعة.

يمثل أحمد والى نموذجا لنوع من كتاب السرد الذين أنجزوا أو قرروا الإنجاز دون مفارقة موطنهم إلى القاهرة ونجحوا إلى حد كبير فى فرض نموذجهم الخاص سواء اهتم بهم النقاد أو لم يفكر النقد فى مقاربة أعمالهم، على سبيل المثال لا الحصر: ستجد محمد الرواى فى السويس، وستجد قاسم مسعد عليوة فى بورسعيد، وجار النبى الحلو فى المحلة، وأحمد قرنى وأحمد طوسون ومن قبلهم الراحلان نجدى إبراهيم ومحمد عبد المعطى وكوكبة من المبدعين فى الفيوم وستجد محمد عبد المطلب وفاروق حسان ومحمد عثمان وعبد السلام عارف وحسين علام ود.شرف الدين عبد الحميد وأحمد الشمسى، بالإضافة إلى كوكبة كبيرة فى سوهاج، ستجد كوكبة فى الإسكندرية : محمود عوض عبد العال- سعيد سالم – رجب سعد السيد – أحمد حميدة – محمد الجمل – عبد الفتاح مرسى – خالد السروجى وغيرهم، ستجد فى المنصورة أجيالا تتوالى ليس أولها فؤاد حجازى وليس آخرها أشرف عبد الرحمن، وستجد فى أسوان أحمد أبو خنيجر وعصام راسم فهمى، وهيدرا جرجس، وهيام عبد الهادى وفى نجع حمادى منى الشيمى، وعلى هذا النمط ستجد الكثيرين فى المنيا وأسيوط وقنا والأقصر وأسوان وسيناء مما يشكل خارطة موازية للخريطة القاهرية تفوقها فى التفاصيل وهو ما يستلزم خطا نقديا كاشفا يكتلك قدرة.

وهو ما يطرح بدوره قضية أراها ذات أهمية خاصة: أعنى قضية الجامعات الإقليمية ودورها فى مقاربة أعمال كتاب الإقليم، ففى الوقت الذى أصبحت فيه كل محافظة مصرية تقريبا تضم جامعة أو فرعا لجامعة (فى مصر الآن 18 جامعة حكومية  موزعة على 27 محافظة مصرية) وهى جامعات  تضم بدورها أقساما للغة العربية غابت هذه الأقسام عن النتاج الإقليميى على جديته وغيبت دورها فى تقييم هذا النتاج ودعمه وتطويره وتوجيه طلابها لاكتشاف مساحات الإبداع فى أقاليمهم أو اكتشاف عالمهم الأقرب (متى سيتاح لطلاب هذه الجامعات اكتشاف مدنهم إبداعيا ؟ ومتى سيحقق الأساتذة المغامرة بمحاولة الاكتشاف والقيام بدور أساسى هو من صميم عملهم ودورهم تجاه مدنهم ؟).

إن خارطة الإبداع المصرى خارج القاهرة فى حاجة لإعادة استكشاف دائمة وهو ما يمثل صميم عمل نقاد من الطبيعى أن تفرزهم جامعات تنتشر فى كل محافظة.

تتشكل تجربة أحمد والى من أربعة أعمال، مجموعتان قصصيتان:

  • ثلاث شمعات للنهر – القاهرة 1988.
  • المتنصتون – رياض الريس – بيروت 2000.

وله روايتان :

  • حكايات شارع البحر – ميريت- القاهرة
  • ديار الآخرة – الدار – القاهرة 2009.

إعادة بث الحكايات

تطرح المجموعة الثانية ” المتنصتون” فعل الأذن فى تتبع الأحداث، والأحداث ليست فعلا مجردا من أصحابه، وفعل التنصت فى تتبعه لعالم البشر يلتقط الأصوات فى دلالتها على الحدث، والمجموعة تعتمد على إعادة حكايات التنصت، عبر إعادة البث التى يقوم بها الشباب فى دكان الترزى ويجعل المؤلف من سارده منتجا لحكايات التنصت مفسحا مساحة كبرى من سرده للمتنصت عليهم، وهو ( المؤلف) يصرح بذلك فى تقديمه للمجموعة : ”  وكنتُ شرعتُ فى العمل بعد أن تخيرت العنوان وهو المتنصتون فحكيت عن المتنصّت عليهم أكثر من أصحاب العنوان، لأن المتنصّت عليهم هم المفعول بهم، وهم الحالة والموضوع، وهم فى النهاية البشر والناس، أما الفاعلون فهم واحد لا يختلفون ( وإن اختلفوا وتمايزوا فقد اتحدوا فى عرفنا بفعل واحد هو التنصّت، فاختلافهم لا يعنينا هنا ) ثم جنحت نفسى لعنوان أكثر إطالة فقلت درة الباحثين عن أخبار المتنصتين فكان ذلك مما يضفى على دور الفاعلين أهميةً بما همم فعلة ويغيُب فى هذا المتنصّت عليهم كليةً، أما العنوان الأول فقد قررت العودة إليه لما فيه من تفخيم أتت به واو الجمعة فجعلت للعنوان هيبة، وينطوى هذا العنوان على دور المتنصّت عليه بالتضمين وهو يفتح للقارئ سرداباً سيحبّ أن يلجه ويفتش فيه عن كنز،فياليته لا يخيب، وتلك كنوزى وجواهرى فلا تجعلها يارب زجاجاً ولا بللوراً يلمع دون أن يكون ذهباً حتى لايحبط عملى ولا يضيع ثوابى وذكرى لدى القارئ وهو المبتغى.”(ص 2 من المجموعة )

وتقنية إعادة البث تمر بمرحلتين أساسيتين : مرحلة شفوية تكون على  أرض الواقع وتدور تفاصيلها على مسرح مفتوح قبل أن تنتقل إلى مرحلة التدوين دون أن تفقد خصائصها الشفوية، فالحكايات سواء أكانت في سياق قصصى  أو روائى تتسم باعتمادها لغة منطوقة دون المكتوبة، وتميل إلى الحكى بصيغ أقرب إلى الشفاهية التى لم يشأ المؤلف أن يترجمها ترجمة يراها مخلة مصرحا بأهميتها في سياق الحكايات :” واعذرنى يا عزيزى القارئ أتى طعمّت حكاياتى بكثير من العامية فللعامية أحكام كما للضرورة، إذ هناك ألفاظُُ فيها توضّح وتلخّص وتبين ما تعجز عنه مفردات فصحى،وليس هذا تحيزاً لهذه على تلك وإنما قصدت السلامة فى وصول الإحساس والشعور ونقل الصورة، وإنى متخذُ لك مثلاً بعنوان مش بأيدى يا سعد أفندى فيه ذلة المرأة وانكسارها وضعفها أمام شهوتها قدام شهوة زوجها، ولو قلناها بالفصحى لفقدت معظم بل جلّ معناها، فانظر ثقل اللفظة الفصيحة وحيادها ليس بإمكانى يا سعد أفندى أو خارجُ عن نطاق إرادتى يا سعد أفندى.
دُلّنى يا من تحب الفصحى ولها تتحزب حقاً أو باطلاً، أليس تعبير مش بأيدى أكثر دلالةُ ووضوحاً وجزالةً وتعبيراً؟ فانك تكاد تراها تقلّب كفيها ووجهها للسماء دلالة العجز وتعبيراً عن الضعف. ولولا أن العامية تؤدى دوراً تفشل فيه الفصحى لما اخترعتها البشرية لأن لكل شئ قيمته التى لا ينفع معها شئُ آخر وصدق الشاعر إذ يقول لكلٍ مكانً لا يسدً اختلاله مكانُ أخيه ………… وكذا الشاعر الذى قال إن الجوهرة إذا وضعتها مكان العين لاترى …. فهى أشياء لا تشترى!” ( ص 3 من مقدمة مجموعة ” المتنصتون” ).

وفى حفاظه على الجانب الصوتى في النقل بين المرحلتين تأكيد على طبيعة الحكايات التى تستعصى على الترجمة للفصحى فترجمتها تعنى خيانة جيناتها الشعبية أو تلك الجينات التى تألفها الأذن في التلقى وتستجيب لها الذاكرة لاقترابها من مرجعية متداولة بقدر كبير إذ يمكن للمتلقى مراجعتها أو مطابقتها على ما تحمله الذاكرة من تعبيرات متداولة أو صيغ مألوفة وهو ما يسمح للسارد أن يلتقى مع متلقيه عند مساحة كبرى من التفاهم على العمل المشترك، عمل إعادة إنتاج الحكايات أولا ودلالتها ثانيا بقدر يمنح الحكاية قدرا من الثراء يبثه السارد ويجد فيه المتلقى مستويات متعددة من التلقى المثمر، والحكايات في اقترابها من عالم يبدو تحتيا يكشف عن طبيعة المكان ( القرية  أو المدينة الصغيرة ) الذى تطفو فيه على السطح أسرار المجتمع وخباياه، وهو ما يعمل على تصعيد الرمز حتى يتحول الأمر في جانب من جوانبه إلى رمزية دالة كاشفة عن طبيعة المجتمع العربى بشكل عام والمجتمع المصرى بشكل خاص حيث الأسرار أقرب إلى كونها أخبارا تتناولها المجالس التى تتحول بدورها إلى آلة إعلامية تعتمد في مادتها على جهاز مخابراتى يتطوع بنقل الأحداث وتحليلها، فالمتنصتون يجمعون الحكايات ويعيدون نسجها لتقديمها في سياق أولى ينتزعونها فيه من طقوس الليل إلى مناخ أكثر اتساعا سمح بدوره للسارد للقيام بعمله، هنا يصبح دكان الترزى مركزا للتجميع حيث تتم ثلاث عمليات متتالية : الترزى يخيط الملابس وعملية الخياطة تستلزم وقتا تتم فيه عملية نسج موازية، نسج الحكايات المعاد تدويرها ثم تأتى العملية الثالثة التى يقوم بها السارد منفردا بإعادة تدوين الحكايات وبثها عبر وسيط مكتوب يعمل على بثها لأشخاص يدخلون الدائرة ويشاركون شفويا مرة أخرى في بث الحكايات العالقة بالذاكرة عبر اختصارها في جمل شفرية تتصدر أحيانا عناوين الحكايات وتكاد تكون بمثابة المثل العربى في تداوله، من مثل : مش بإيدى يا سعد أفندى- مرتى ياحمار مرتى يابهيم – هخربش وشك والنبى لأخربش وشك، وهى عبارات تتداول حتى تأخذ سمتا أسطوريا عبر عمق دلالاتها وقدرتها على طرح مستويات تتكشف عند التعمق في الكشف عن طبيعتها وما تمثله من إشارات لعالم تتشكل ثقافته من مكاشفة عالم الآخرين، عالم شفاف حد الفضح، وفاضح حد اعتبار الفضيحة نوعا من الواقعية ثم هى في النهاية تبلور فكرة اهتمام المجتمع بالجنس وانشغاله به حتى يبدو أنه مدارا للحياة ومجالا للاهتمام على حساب الكثير من مظاهر الحياة وهو ما يؤكد رمزية القرية ودلالتها.

النص الريبورتاج

يعتمد أحمد والى تقنية الريبورتاج حيث يتحرك النص عبر مجموعة من الأماكن داخل المكان الإطار، حيث تصبح القرية بوصفها مكانا نموذجا للحركة فى مكان محدد المعالم، والسارد يطور النموذج من “المتنصتون” إلى “حكايات شارع البحر” حيث جاء المكان عاما إلى حد ما فى المجموعة  ولكنه بات محدد المعالم مقصودا لذاته فى الرواية واستعان الكاتب فى الصفحة الثامنة  برسم كروكى للبلدة، جاعلا منه – وفق الترقيم النصى – الفاصلة السردية الثانية بعد التصدير المستعار من كتاب وصف مصر، مثبتا صورة شبه فوتوغرافية للمكان بوصفه مدارا للحركة فى النص، تلك الصورة التى يحملها المتلقى حال تحركه مع التفاصيل النصية، حيث يجعل النص من متلقيه صحفيا يتابع رحلته لإنجاز ريبورتاج متعدد الملامح لمكان واضح المعالم يجد فيه علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا وعلم النفس والسياسة والدين والاقتصاد والأنثربولوجيا، يجد كل هؤلاء مادة صالحة للاكتشاف، اكتشاف مجتمع له طبيعته الخاصة ومكان له ثقافته المتميزة، تلك الثقافة التى لن تراها جادة وذات قيمة مالم تكن قادرا على استيعاب الطبيعة الخاصة لأبناء المكان والدراية بتفاصيل العالم المرسوم بعناية، ذلك العالم الذى ستدرك بعد قليل أن أحمد والى لا يرسمه بقدر ما ينظم مادة الحوار بين أبطال الحكاية على المسرح وهم يقومون بدور الرواة والمروى عنهم فى الوقت نفسه لتجد نفسك تطرح سؤالا عن قدرة الكاتب ومدى سيطرته على هؤلاء الأشخاص جميعا دون أن تسقط شخصية واحدة فى هوة المجانية أو شهوة الوجود دون مبرر.

ولا يقف التصدير المستعار من “وصف مصر ” عند مجرد كونه نصا يؤصل لمكان بعينه أو يؤكد وجوده التاريخى وإنما لأن المؤلف يعمد إلى إعادة تقديم وصف لمصر بالحكايات هذه المرة ليجعل من شخوصه شهود عيان على الأحداث التى تنطلق من يؤرة مكانية لا تكتفى بالإشارة إلى ذاتها بقدر ما تخلق مجالا حيويا للإشارة إلى وطن بكامله ومن ثم تكون للإشارات المبثوثة عبر الحكايات القدرة على التعبير عن الوطن فى لحظته التاريخية، لذا فإن حديث السارد عن الشخصيات لا يقف عند الكشف عن طبيعة الشخصية بقدر ما يطرح رؤيته للعالم / الوطن وتجربته التاريخية، فعبد الودود الذى يحب الزعيم عبد الناصر ويكره السادات لا يجعل السارد من حكايته نموذجا للأسطى عبد الودود وإنما يجعل منه المواطن المصرى عبد الودود بكل ما يشير إليه من دلالات تؤكد نموذج الشخصية المصرية التى تتقبل الهزيمة حبا فى الزعيم :” يوم النكسة كان عبد الودود على مقهى أبو فريح يلعب الطاولة، فلما سمع الخبر انصعق، لكنه لم يصدق، وقام للراديو يقلب المحطات، فتأكد.. لم يتغير حبه للزعيم، قال ودموعه تبلل خديه : خيرها فى غيرها والجايات أكتر من الرايحات، ما الدنيا منصوبة على كده غالب ومغلوب، وأثار همة الرجال على المقاهى ودق أبواب البيوت فخرج الرجال والشيوخ والأطفال يهتفون بحياة الزعيم وعدم تخليهم عن قيادته وطالبوه بالعدول عن التنحى ” (ص 151- حكايات شاع البحر ) وهو ما يطرح المشهد السياسى وانعكاساته الاجتماعية والنفسية، وعبد الرحمن الأهلاوى المتعصب يضع صورة فريق الزمالك مع صورة بيجن وجولدا مائير فى الحمام ” و مغرب اليوم الذى انهزم فيه الأهلى وكان يوم موسم رجب أخد حلة المحشى واللحم الذى لا يأكلونه إلا فى المواسم والأعياد وقذف بهما خلف سور البحر حيث القطط الضالة والكلاب… وبكت المرأة وبكى الأطفال فشتمهم ولعن سنسفيل جدودهم، هيجيلكوا نفس ازاى تاكلوا والأهلى مغلوب يا أولاد النجسة ؟ ” (ص 288 ) يمثل النموذجان / الشخصيتان علامة سردية مصغرة تطرح عالما لا يؤطر بشارع البحر بقدر ما يشير بقوة إلى عالم أوسع يتحدد بحدود الوطن ذاته ودائما تكون القرى والمدن الصغيرة محملة دون غيرها بطاقة دلاليى تفوق نظيرتها من المدن تماما كما تتفوق المرأة  والشخصية الأقرب للفطرة الأولى على غيرها من شخصيات عصرية أو شخصيات ذات قدر من التحضر فكلما كانت شخصية الإنسان والمكان أقرب إلى الطبيعة الأولى كانت أكثر قدرة على شحن طاقة دلالية ورمزية أكبر.

تفكيك النموذج

بفعل السبق الزمنى وعوامل الريادة (أحيانا ) يصنع بعض الكتاب نموذجا سرديا يقدمون من خلاله  بعض الأعمال التى يتلقاها القارئ بوصفها صياغة أمينة لنموذج يمنحه الزمن تأكيد تقدمه الزمنى وسبقه فى إنتاج سمات فنية تتحقق فى نماذج لاحقة أو تطرح نفسها على وعى أجيال لاحقة من الكتاب والروائيين وفى هذا الإطار تعد روايتا ” يوميات نائب فى الأرياف ” لتوفيق الحكيم (1937)، والأرض للشرقاوى  نموذجين للرواية المعيار حيث يقاس عليهما كل ما جاء بعدهما من نصوص داخلة فى السياق أو تتماس معهما فى المنظور والموضوع، فالروايتان قاربتا الأرض والفلاح وكانتا معزوفة على نظام مغاير غير مألوف، جاءت الأولى ” يوميات نائب فى الأرياف ” لتقدم نموذجا يجمع بين الرمزية والواقعية ويطرح منظورا مغايرا يتسم بالعمق والقوة فعلى الرغم من المساحة الزمنية الفارقة بين صدور الرواية فى طبعتها الأولى (1937) وبين اللحظة الراهنة يمكن للمتلقى معاينة واقع لم يتغير كثيرا ولم تقاربه عوامل التطور إلا ظاهريا أو سطحيا فحسب وما مظاهر الجمود والتخلف التى أشارت لها الرواية  إلا سمات راسخة ماتزال فى ثنايا المجتمع المصرى فى حين جاءت الرواية الثانية “الأرض “لتطرح منظورا ليس بعيدا عن منظور الحكيم وإن اختلفت الطرائق وتبدل الزمن وتغيرت سمات الإنسان فيه فعوامل القهر الممارسة على الفلاح بوصفه رمزا لشعب مصر وما مورس عليه من صنوف الإذلال، وقد اكتسبت الروايتان شهرة تعددت أسبابها مما جعلهما نموذجا للرواية الريفية أو رواية الفلاح، نموذج اعتمده النقاد والدارسون والقراء معيارا يطرح نفسه عند مقاربة كل رواية قاربت الريف أو وقفت عند البيئة نفسها بحيث استخدمتا نموذجا يقاس عليه، فكانت الروايات اللاحقة متطابقة أو مغايرة بدرجة ما  للنموذج، فى حين كان  لبعض الروايات القدرة على الخروج من النموذج أو تفكيكه كما فعل أحمد والى الذى  يعمد إلى تفكيك النموذج، ففى اليوميات كان السارد زائرا يمثل سلطة فوقية هى سلطة القانون، وفى كل  أعمال أحمد والى  جاء السارد مقيما، منتميا للمكان، سارد يعلى من سلطة النص فى مقابل سلطة القانون، سلطة النص الممثلة فى سلطة الحكاية / الحكايات التى يجعل منها كرنفالا سرديا يتحول فيه الجميع إلى حكائين ويتحول المتلقى إلى متصنت على الجميع، متصنت غير مشارك منفلت من سيطرة الراوى داخل النص ليقع فى أسره خارج النص فإذا كان السارد قد نجح فى السيطرة على أشخاصه داخل النص ليكونوا مادة تشكل عالم الحكايات وجعل من بعضهم (وخاصة فى مجموعته القصصية ” المتنصون” ) من يتنصت على غيرهم، فإن السارد يحكم سيطرته على المتلقى خارج النص جاعلا منه متنصتا على الفريقين وهى تقنية أصيلة فى السرد العربى تتجلى فى الحكايات العربية ونكاشفها واضحة أشد الوضوح فى سيدة الحكايات وأسطورتها أيضا  ” ألف ليلة وليلة ” حيث السارد يطرح زمنا مغايرا ومكانا بعيدا ليس بإمكان المتلقى مراجعته أو التأكد من مرجعيته مما يمنح السارد سطوة السيطرة على المرجعية، هاربا من حب الاستطلاع لدى متلقيه ومحاولته التثبت من الحكاية وتفاصيلها، ولكن أحمد والى يدخل سارده فى دائرة التحدى بتفكيك تيمة الهروب والتخلص منها إذ يروح يحكى عن أمكنة ليست غريبة وعن أزمنة ليست غابرة فى التاريخ، وإنما يضع متلقيه هناك على المحك عبر إدخاله فى دائرة الحكاية سواء بمعاينة الأمكنة ذات  الحضور التاريخى (ههيا – فاقوس – الزقازيق ) وغيرها أو بمتابعة تفاصيل الحكايات داخل النصوص ورصد حركات الأشخاص وأفعالهم لا بوصفهم أبطالا من ورق وإنما بوصفهم شخصيات تمارس حياتها بيننا وأنهم يصلحون للدخول فى الحكايات لعوامل ترجع إلى التميز، وما بين المجموعة القصصية والرواية تقف على عدد غير محدود تقريبا من الشخصيات المنتجة لسلسلة من الحكايات.

سلسلة الحكايات

فى تسلسل محكم تتوالى الحكايات وتتشابك وتتعدد ويكاد التعدد على هذا النحو يكون سمة أساسية لأنظمة عمل السرد على مدار القصص أو الروايات مع الحفاظ على الشخصيات بوصفها رؤوسا للموضوعات السردية تطرح نفسها على السارد متصدرة المشهد وفى كثير من الأحيان يتوالد السرد عبر شخصيات تطل برأسها فى حكاية سابقة لتحقق وجودها فى حكاية لاحقة، هنا يكون للشخصية دورها الرابط بين الحكايات وحتى الشخصية التى يظهر ورودها فى أكثر من حكاية لا يعنى هذا أن خيطا دراميا يتصاعد من حكاية إلى أخرى، حيث يجعل السارد من شخصياته خيطا دراميا بديلا للخيط التقليدى، ويكون تناسل الحكايات معتمدا فى المقام الأول على تناسل الشخصيات وتقاربها وقدرتها على الاشتباك مع الأحداث.

وتتأسس السلسلة الحكائية على قدرة السارد على بث التشويق عبر الحكايات المتنوعة، وهو تنوع يمنحها الحيوية المنتجة بدورها لهذا التشويق بقدر أكبر مما يجعل السلسلة قادرة على الحفاظ على متلقيها دون أن يفقد حظه من متعة متابعة عالم قد يختلف معه فى مرجعياته ولكنه يتقبله بدرجة كبرى بوصفها عالما يتشكل بصورة جمالية قادرة على إحداث قدر كبير من المتعة الكاشفة عن فلسفة الشخصيات وعمق رؤية السارد الذى يقدم عبر السلسلة وجوها متعددة للعالم، وحيث السلسلة تفصح عن ثقافية مكانية تقدم نموذجا لقصة المكان وسرديته بديلا عن المنظور التقليدى الذى كان يطرح  مكان القصة وليس قصة المكان ففى وجه من وجوه الحكى يقدم السارد عالما مكانيا لا يحكى فيه عن المكان بقدر ما يحكى بالمكان الذى يعتمده بوصفه تقنية لا موضوعا يقوم عليه الحكى وإنما يقوم به من حيث هو مجموعة من التقنيات التى يعتمدها السارد لأداء عملية السرد، والسارد حين يلتقط المساحات المتنازع عليها بين الشفوية والكتابية إنما يلتقط من المكان مجموعة النظائر المشعة القادرة على الكشف عن المكان وطبيعته لا من حيث هو مساحة جغرافية متميزة ولكنه مساحة من الرموز المشعة القادرة عن الكشف على العالم فى مستوياته المتعددة فالقرية فى مستواها الأول مقصودة لذاتها من حيث هى موضوع للحكايات فى مستواها السطحى، ولكن فى مستوياتها الأعمق تأتى القرية مقصودة لغيرها إذ تحمل قدرا من الدلالة فى رمزيتها المتدرجة عبر دوائر متوالية تبدأ من القرية وتتوالى حتى العالم الأوسع مرورا بالوطن الأصغر ( مصر) والأكبر ( الوطن العربى ) كاشفا عن مجتمع له طبيعته الخاصة حيث السلسلة تكون قادرة على تشكيل صورة مجسمة تضرب فى كل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، فقد نجح الكاتب فى جمع شتات الكثير من التفاصيل المنتجة بفعل حركة ردارية للسارد الذى عمد إلى تثبيت عدد من الكاميرات باتساع المكان ونجح فى التقاط التفاصيل الكاشفة بعمق عن العالم فى عروبته عامة وفى مصريته خاصة وهو ما أتاح له الحركة عبر الزمن فاعتماده على الخط الدرامى البديل جعله أكثر حرية فى الحركة عبر الزمن مما أسهم فى توسيع دائرة الرؤية للمتلقى.

لقد نجح أحمد والى فى وضع أسس لمشروعه السردى تقوم على استثمار طاقة المكان الحكائية وإعادة إنتاجها بقدر يثبت قدراته على ممارسة السرد و وهو ما ينبه إلى مشروع متميز يبقى للنقد أن يقاربه بالدرجة التى تضع النقد فى الاتجاه الصحيح القائم على استكشاف الأصوات الجادة، وألا يركن إلى الخرائط القديمة وليكون النقد فى اتجاهه هذا قادرا على إعادة تشكيل الخرائط دائما مضيفا إليها كل محاولة جادة لتقديم نص متميز.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)