أحمد عبد المعطي حجازى.. صوت مصر الناصع

أحمد عبد المعطي حجازي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم داود

القاهرة التى استقبلت الشاعر الكبير احمد عبد المعطى حجازى يفصل بينها وبين القاهرة التى استقبلت جيلى ثلاثة عقود على الأقل، قاهرة الخمسينيات كان يظللها غناء عظيم وثقة فى المستقبل، ورغم عراقة المدينة كان الشباب فى المقدمة، فى الحكم والشعر والرسم والسينما والموسيقى والمسرح ومعظم مناحى الحياة، حجازى بعد مجيئه من تلا محافظة المنوفية أصبح معروفا بعد نشره أربع قصائد فقط، وكتب عنه من النقاد الكبار: أنور المعداوى وعبد القادر القط ورجاء النقاش (الذى كان طالبا)، شاعر يملك عينا بريئة وايقاعا رشيقا مباغتا وقلبا عطوفا، ويشعر بالوحدة، وصوته لا يشبه أحدا رغم خروجه من صلب الرومانسيين العظام، شعر إنسانى يعرف طريقه إلى القلب، مليء بمحبة الحياة حتى لو كان الشاعر حزينا، كان يرفض المدينة القاسية، المدينة التى يبدو فيها الإنسان ضئيلا والمبانى عالية، مدينة تبنى مجدها على أشلاء هذا الإنسان، مدينة لا يوجد بها حقول ولا تستطيع أن تبحث عن الفجر فيها.

حجازى الذى عمل مصححا للغة العربية فى دار الهلال لمدة أسبوعين، وانتقل كصحفى إلى صباح الخير وروز اليوسف وزامل رفيقه عظيم الشأن صلاح عبد الصبوروأسطوات مهنة الصحافة، جاء الى المدينة من أجل الشعر، وتحقق له ما أراد، لأن الأحلام (أحلام جيله) كانت فى متناول اليد، كتب وأبدع وأثر فى الشعر العربى كله وأصبح رائدا من ضمن الرواد، واعترف محمود درويش وأمل دنقل بأستاذيته لهما، وشعر بالزهو ودعم تجربة عبد الناصر، وعانى مثل الجميع من الهزيمة وسافر الى فرنسا وتغرب، وبدأ يتردد على القاهرة من جديد، القاهرة التى تغيرت، فى منتصف الثمانينيات كانت حيوية ما بدأت تدب فى الحياة الثقافية، انتهت القطيعة العربية لمصر التى سببتها اتفاقية كامب ديفيد سيئة السمعة، وظهرت أصوات رائقة غير التى روجت لها الصحف العراقية والسورية والخليجية، باعتبارها تمثل مصر الأخرى.

فى إحدى زياراته كلفنى الشاعر الكبير فتحى سعيد رحمة الله عليه والذى اصبح رئيسا لتحرير مجلة الشعر، بإجراء حوار مع الشاعر العائد، وقتها لم أكن احترفت الصحافة بعد، ذهبت إلى بيته فى مصر الجديدة حيث يسكن فى الطابق الخامس فى بناية لا يوجد بها مصعد (والتى يعيش فيها حتى الآن)، كنت ضيفا ثقيلا يسأل أسئلة مستفزة لشاعر كبير، أحفظ قصائده التى تمسنى وأنا أتحسس المدينة بالغة القسوة، والتى كتب فيها ” سلة ليمون، الطريق إلى السيدة، مقتل صبى، إلى اللقاء”، مدينة لم يشعر بمحبته لها إلا فى قصيدة حب فى الظلام حين قال “أحس بأن المدينة تدخل قلبى”، أشعر تجاهه بقربى ما، ليس فقط لأننا “منايفة زى بعض” وننتمى للبيئة نفسها، ولكن لأن طريقته فى القنص تجعله الأقرب فى الشعر والحياة معا، والذين لا يعرفون الأستاذ حجازى على المستوى الشخصى فاتهم الكثير,

بعد ذلك التقينا فى صحيفة عربية أعمل بها، وكان يكتب لها هو والسيدة زوجته الدكتورة سهير عبد الفتاح صاحبة أجمل كتابين عن أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكنت طرفا ـ وأنا الشاب العشرينى ـ فى تقريب وجهات النظر بينه وبين الشاعرين الكبيرين محمد عفيفى مطر ومحمد صالح حول مجلة كان يفترض أن تصدر عن هيئة الكتاب اسمها “أشعار” يرأس تحريرها حجازى ومعه مطر وصالح.

استقر سنة 1990 نهائيا فى مصر، وبدأ الكتابة فى المصور ثم الأهرام، ورأس تحرير مجلة “إبداع”، التى بدأ تجربته فيها بالهجوم على الحرافيش، وبالطبع انحزت إلى الحرافيش باعتبارى واحدا منهم، هو تراجع عن محبته لعبد الناصر ولكنى لا زلت أحب عبد الناصر ولم تتأثر علاقتى به، لأن الذى جمعنى به شيء أكبر، هو يهاجم قصيدة النثر التى أدافع عنها وأكتبها، لأننى أقدر منزلته، وأعرف أيضا أنه لم يتربح من أى موقف اتخذه، جمعتنا محبته للموسيقى ولمحمد عبد الوهاب، وسهرت فى صحبته كثيرا، ولم أصادف أشخاصا على دراية بالموسيقار العظيم مثله هو والراحلين الكبيرين الدكتور عبد المنعم تليمة وكمال النجمى. يدخل عليّ مكتبى المجاور له فى الأهرام، و ويطلب منى ـ آمرا ـ تشغيل أغنية لليلى مراد لا يتذكر منها غير شطر ولكنها تطارده منذ الصباح، مرة طلب أغنية “حلو ياللى ماشى” لفايزة احمد، وعندما شغلتها بدأت الدموع تنهمر من عينيه، مرة ومرتين وثلاث، ورطات عظيمة لا تعرف كيف تتصرف فيها، وتعرف بعد قليل أن زمن غنائها استدعى بداخله ذكريات شجية.

قبل عشرين عاما تقريبا، كنت خارجا من “الأهرام” مساء، وهو على غير عادته يدخل فى هذا التوقيت، فاقترحت عليه بدلا من صعوده أن نذهب إلى مكان كان يجلس فيه دنقل ومحمد مهران السيد وبدر توفيق وصلاح عبد الصبور، مكان لم يدخله منذ 1974 سنة سفره إلى فرنسا، ذهبنا وكان المكان عامرا بالشعراء الشباب وكتاب القصة، وكان أحد الأصدقاء يشغل الموسيقى التى نحتاجها، والأستاذ حجازى فى غاية السعادة، إلى أن شغل “صافينى مرة” لعبد الحليم والموجى، أغلق الكاسيت وقرر هو الغناء، غناها أكثر من خمس مرات، وتجمع أصحاب الدكاكين المجاورة فى شارع طلعت حرب والمارة، هذا اليوم يتذكره الناس إلى الآن ويتحدثون عنه بشجن.

أنت أمام صوت نادر وقلب صافى محب للناس والحياة والغناء، رجل شريف وشاعر عظيم ينشد الألفة ويحلم للبشر جميعا، لم ينجح خصومه فى خدش كبريائه، أنت مع حجازى مع العذوبة والرقة والحنان، أنت مع خلاصة مصر المبدعة، مصر التى ترك وجدانها الآن يشكله أناس لا تعرف من أين جاءوا.

 

مقالات من نفس القسم