أحمد عبد اللطيف: الأدب لا يمنحنا حقائق مطلقة

69.jpg
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيهاب الملاح

أحمد عبداللطيف، صوت روائي مصري شاب، اختط لنفسه مساراً خاصاً ومتمايزاً عن أشكال الكتابة الروائية السائدة، استطاع عبر روايات ثلاث أن يحفر اسمه بوضوح وتألق في قلب المشهد الروائي المصري، ومن ثم العربي، واستطاعت روايته الأولى “صانع المفاتيح” التي نشرها في عام 2010، أن تحصد الجائزة التشجيعية في الأدب، وهي الجائزة الأرفع مصرياً، التي تمنح لشباب الكتاب، وحققت روايته الثانية “عالم المندل” الصادرة عام 2011 نجاحاً لافتاً، وجذبت إليه الأنظار بشدة، ولاقت اهتماماً نقدياً طيباً، حدت بكثير من النقاد إلى التبشير بروائي واعد يملك رؤية متميزة ولغة خاصة تحمل بصمة صاحبها ذي النزوع التجريبي الواعي والأصالة، التي تشي بثقافة عريضة وواسعة، استطاع توظيفها واستغلالها بمهارة وأفق واسع.

إيهاب الملاح

أحمد عبداللطيف، صوت روائي مصري شاب، اختط لنفسه مساراً خاصاً ومتمايزاً عن أشكال الكتابة الروائية السائدة، استطاع عبر روايات ثلاث أن يحفر اسمه بوضوح وتألق في قلب المشهد الروائي المصري، ومن ثم العربي، واستطاعت روايته الأولى “صانع المفاتيح” التي نشرها في عام 2010، أن تحصد الجائزة التشجيعية في الأدب، وهي الجائزة الأرفع مصرياً، التي تمنح لشباب الكتاب، وحققت روايته الثانية “عالم المندل” الصادرة عام 2011 نجاحاً لافتاً، وجذبت إليه الأنظار بشدة، ولاقت اهتماماً نقدياً طيباً، حدت بكثير من النقاد إلى التبشير بروائي واعد يملك رؤية متميزة ولغة خاصة تحمل بصمة صاحبها ذي النزوع التجريبي الواعي والأصالة، التي تشي بثقافة عريضة وواسعة، استطاع توظيفها واستغلالها بمهارة وأفق واسع.

وفي روايته الثالثة “كتاب النحات” الصادرة منذ أشهر قلائل، قدم عبداللطيف تجربة روائية شديدة التميز والنضج، بإجماع كثيرين من النقاد ومتخصصي الأدب الذين أشادوا بها وبموضوعها، واعتبرها البعض “من روايات الأفكار التي تكون جافة عادة، ولكن الروائي الشاب نجح في الجمع بين متعة الفكر ومتعة الفن، وهو أمر شديد الصعوبة”، ودفعت ناقدا قديرا إلى القول بأنها “رواية هامة ومدهشة، جديرة بالقراءة، وبالاشتباك مع أسئلتها الوجودية والفلسفية، إنها بالفعل رواية الأسئلة وليس الإجابات، رواية الدائرة وليس الخط المستقيم (الذى يبدو فرضاً نظريا ليس إلا)، مجاز سردي بديع لأسفار الخلق والتكوين، الجبر والاختيار، الحياة والموت، الحلم والواقع والزمن المراوغ، الصانع والمصنوع، المجرد والمجسّد، ولا تنسَ أبداً ما يقوله بطل الرواية: المجاز ليس ضد الحقيقة، هو طريقة مختلفة لقراءتها”.

راكمت الرواية وخلال الأشهر القليلة الماضية خطابا نقدياً لافتاً، إذ كتب عنها ما يقرب من المقالات الست، لنقاد كبار، مصريين وعرباً، ويبدو أنها مرشحة بقوة لتشغل الساحة النقدية والأدبية لفترة أخرى مقبلة.

لا تخلو أعمال أحمد عبداللطيف من مسحات من تيار “الواقعية السحرية”، ولا بأس في ذلك بحسب الناقد المعروف جابر عصفور، لو رأينا ما يدعو إلى تذكر “الواقعية السحرية” في أدب أمريكا اللاتينية، واستدعائها لقراءة أعمال عبداللطيف، فـ”كاتب الرواية متخصص في اللغة الإسبانية وآدابها، وترجم عنه روايات عديدة لخوسيه ساراماجو، فضلاً على ماركيز، وكلاهما حاصل علي جائزة نوبل، وغيرهما من كبار الكتاب في إسبانيا وأمريكا اللاتينية”.

وبحسب عصفور أيضا “لاشك أن اطلاعه على العوالم بالغة الغنى للرواية والقصة القصيرة في أدب أمريكا اللاتينية قد دفعه إلى معرفة أسرار عالم الرموز ودهاليز القص في عوالم التحول لبورخيس. أو عوالم الوهم لساراماجو، أو عوالم التبدلات في كتابات ماركيز وعوالمه المخايلة”..

 

هنا حوار مع عبداللطيف حول تجربته الروائية:

 

في روايتك الجديدة “كتاب النحات” ثمة روح سارية ومتصلة بروايتيك السابقتين “صانع المفاتيح” و”عالم المندل”.. ما يشي بغلبة الهاجس التجريبي وجرأة الطرح الوجودي والمعرفي في مشروعك الروائي البازغ.. هل تتفق مع الرأي القائل بأن قراءة منقوصة تهدد روايتك الأخيرة في حال قراءتها بمعزل عن روايتيك الأوليين؟

 

◆◆ أعتقد أكثر بأن كل عمل روائي مشروع مستقل بذاته، غير أن الكاتب هو نفس الكاتب رغم التغيرات التي تطرأ عليه لتحول بوصلة هواجسه لمكان جديد، وفضيلة الأدب أنه لا يمنحنا حقائق مطلقة بقدر ما يعطينا شكوكاً لا متناهية، وأرقاً يدفعنا نحو البحث عن الجديد، سواء في الشكل أو المضمون. لذلك، فمحاولاتي التجريبية تعني أنني كاتب “متململ” وأرفض الركون إلى شكل ثابت يؤدي في نهاية المطاف إلى تكرار نفس التجربة وكأنها مشاهد مكررة من نفس الفيلم.

بناءً على هذه الفكرة، أظن أن قراءة “كتاب النحات” منفردة لن تحتاج إلى الرجوع لعمل سابق؛ لأنها في حقيقة الأمر غير مبنية أو مكملة لهذا العمل السابق، لكنها رغم ذلك تتفق مع “صانع المفاتيح” و”عالم المندل” في النزوع إلى الفانتازيا، وتتفق مع الأولى في خلق أسطورة لتفكيك أساطير أخرى، ومع الثانية في الدخول لعمق الثقافة ومحاولة تفكيكها.

 

 

البعض أشار في قراءته لـ”كتاب النحات” إلى عملية استلهام للموروث الإنساني خاصة في جانبه الأسطوري.. كيف ترى العلاقة بين الأسطورة والأدب وإمكانية توظيف الأسطورة في الرواية المعاصرة؟

◆◆ العلاقة بين الأسطورة والرواية، لأكن أكثر تحديداً، في رأيي، مثل العلاقة بين السبابة والإبهام، التقارب بينهما من ناحية والجذر الواحد من ناحية أخرى. الأسطورة بنت الخيال مثل الرواية، وعماد كل منهما هو الحكاية. ما حدث أن بعض الحكايات في زمن ما صارت أساطير في زمن آخر، وبعض الأساطير في زمن آخر صارت قابلة للمحاكاة الساخرة في زمن متقدم.

آلهة الفراعنة وآلهة اليونان محض أشكال مثيرة للضحك عند أبناء الديانات السماوية، والشعائر الدينية عند قوم يعدها آخرون محض أفعال غريبة، والرواية في رأيي خروج من الدائرة المغلقة ومشاهدة العالم من نقطة أكثر بعداً، وكما فعلت في “صانع المفاتيح” فعلت في”كتاب النحات” فبنيت أساطيري الخاصة بعد أن فككت الأساطير التي تشغلني.

 

فريق من النقاد أدرج رواياتك ضمن تيار جديد من الكتابة الروائية سماها البعض “الواقعية السحرية العربية” الجديدة.. فيما رأى بعض آخر أنها ليست كذلك وأنها تندرج تحت الروايات التي وظفت الغرائبية والفانتازيا بنكهة “الواقعية السحرية” لأمريكا اللاتينية لمعالجة طروحات فلسفية ومعرفية معاصرة يجابهها الإنسان العربي في محيطه العام وواقعه الشخصي؟ كيف تفض هذا الاشتباك؟

 

◆◆ دعني أوضح لك أن ما يشغل الناقد لا يشغل الكاتب بالضرورة، فعملية الكتابة سابقة لحركة النقد، والنظريات الأدبية تُبنى بعد الإنتاج الإبداعي. ما يحدث أن النقاد يريدون وضع الكُتّاب في قالب جاهز، ونادراً ما يخرجون عنه لصنع نقد إبداعي، أضف إلى ذلك أن هناك روايات تجمع عناصر مختلفة ما بين السوريالية والواقعية السحرية والفانتازيا والمحاكاة الساخرة، وأظن أنه غير منصف إطلاق إطار واحد يجب أن تندرج تحته. ربما ما أستطيع أن أقوله عن كتابتي إنني أكتب طبقاً لمنظوري للفن، كتابة تتسق مع رؤيتي للعالم، دون أن أشغل نفسي بالتيار الذي من الممكن أن ينسبوني إليه، وفي المقابل أهتم بالقراءات النقدية لكتابتي.

 

ظهرت في الآونة الأخيرة أعمال روائية لكتاب شباب غلب عليها الفانتازيا والغرائبية والابتعاد عن الكتابة الكلاسيكية أو إذا جاز التعبير المعالجة الواقعية المباشرة لهموم وتساؤلات العالم.. فيما عده البعض نفورا من الكتابة الواقعية والنأي عن البناء الكلاسيكي والبحث عن أشكال جديدة.. هل يمثل هاجس تجاوز الشكل الثابت وتحطيم البناء الكلاسيكي والخوض في مغامرة التجريب ملمحاً بارزاً من ملامح تيارات الكتابة الجديدة؟

◆◆ لنتفق أولاً على معنى الكتابة الجديدة، فأنا أرى أن الكتابة الجديدة هي الكتابة الطليعية والتجريبية، الكتابة التي تبحث عن مخرج من غرفة الكلاسيكية المغلقة بإحكام، كتابة تهتم باصطياد حيوانات مهملة في الغابة وإعطائها فرصة البطولة، هي إذن بحث عن لغة وتقنية وأفكار وتناولات من زوايا مختلفة. بهذا المعنى، يمكن التأكيد على أن هناك كتاباً جدداً لا يزالون كلاسيكيين، وأن هناك كتاباً عجائز يضيفون للسرد كتابة جديدة. دعني أنظر للسؤال في مجمله ببعض الريبة فيما يخص “الكتاب الشبان” و”الواقعية المباشرة”، أولاً لأنني لا أصدق كثيراً في “الجماعة” وأرى أننا أفراد، كل منا ينجز منفرداً رؤيته حول العالم وأحداثه، ويطرح أسئلته المؤرقة له بالطريقة التي يراها أقرب للفن أو لطبيعته الشخصية، دون أن أغفل بالطبع العامل البيئي والظروف السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها مجموعة من البشر.

ثانياً، الواقعية المباشرة تعبير يتنافى مع كلمة “الفن”؛ لأن الفن هو تقديم تصور للواقع وليس تصويراً له، هو البحث عن المعنى وراء الأحداث وليس سرد الأحداث كما هي، ويمكنك أن تنظر إلى الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب لتتأكد أن أعمال الواقعية المباشرة انتهت بانتهاء واقعها أو تغير أحداثه، فيما خُلدت الأعمال، التي ناقشت أزمة الإنسان لأنها تمتعت بقدر من البعد عن الواقع. ستكون الإجابة على سؤالك، إذن، أنني (كفرد) أحاول تكسير الأشكال الثابتة، ليس فقط لأن الأشكال الكلاسيكية لا تناسب طبيعتي المتمردة على القديم بل أيضاً لأنها تعوق طموحي الفني، وربما سأتوقف عن الكتابة في اليوم الذي سأجد نفسي فيه غير قادر على تقديم جديد يرضيني.

 

منذ روايتك الأولى “صانع المفاتيح” بدا أن التعامل مع لغة الكتابة الروائية تمثل ملمحا من أهم ملامح التجديد والخصوصية في مشروعك الروائي.. لغة يتماهى فيها الشاعري مع السردي وتنوء بحمولاتها الفلسفية وأسئلتها الإشكالية، تتقاطع أحياناً وتتماس في أحيان أخرى مع لغة الرواية الوجودية وتيار العبث واللامعقول.. كيف ترى إشكالية اللغة الروائية؟ بصيغة أخرى ما مفهومك للغة وكيف ترى التعامل معها؟

◆◆ اللغة إحدى أهم مكونات العمل السردي التي تشغلني، ورغم قناعتي إلى حد ما بأن كل رواية تأتي باللغة التي تناسبها والتي تتفق مع شخصياتها وعوالمهم، فإنني لا أركن لهذه القناعة، وأبحث في مراحل مختلفة من كتابة الرواية عن لغات أخرى وأجربها. لديّ أفكار حول تمتع الروائي بالكثير من اللغات، هذا يظهر في الروايات التي تتعدد فيها المستويات اللغوية، وأرى أن هذا أحد أهم التحديات التي يواجهها الروائي، ولعله موهبة خاصة داخل موهبة الكتابة نفسها.

 

ثمة جدل حول الروائي/المترجم وثنائية الجمع بين الكتابة الإبداعية والترجمة.. فهناك من يرى أن الروائي المترجم غير قادر على الخلاص من التأثيرات الناجمة عن ممارسته للترجمة وهيمنتها على كتابته الإبداعية الخالصة.. وهناك من يفصل بين الجانبين ويرفض هذا الطرح.. ما رأيك في هذه الإشكالية؟

أراها مضحكة. هل يعني ذلك أنني ككاتب يجب أن أتوقف عن القراءة لأن القراءة قد تؤثر على كتابتي وتهيمن عليها؟ طيب، هل يعني ذلك أن الروائي لا يمكن أن يعمل طبيباً لأن تجاربه الطبية قد تؤثر على نقاء أدبيته؟ في رأي من يطرح هذه المسألة بهذا الشكل، أيهما أفضل: الكاتب المطلع على الأدب والثقافة العالمية والذي يجيد القراءة بلغة أجنبية أم الكاتب الذي لا يقرأ أو يكتفي بقراءة أبناء ثقافته؟! الكاتب المهتم بالمعرفة أم الكاتب المغلق على ذاته؟!

الكتابة ليست فقط موهبة الحكي، لأن هذه الموهبة إن لم تطعم بالمعارف المختلفة ستكون كتابة سطحية، لذلك أنا لا أرى أي جدل محتدم على الإطلاق، فالقراءة بلغة أجنبية يشبه الترجمة منها، الفارق الوحيد أن الفائدة تعم على الجميع. ولنذكر أن ساراماجو كان مترجم ديستوفيسكي للبرتغالية، وهناك العديد من الأسماء المهمة في تاريخ الأدب عملت بالترجمة، على رأسهم خورخي لويس بورخس وخابيير مارياس، بالإضافة للكاتب الإسباني الشاب أندرياس نيومان، فضلاً على كتاب عرب تميزوا في الكتابة والترجمة.

واستكمالاً لنفس النقطة، أنا فعلاً لا أفهم معنى أن الكاتب المترجم لا يمكنه التخلص من تأثير الترجمة، هل للترجمة آثار جانبية؟ الكاتب، كما يستفيد من تجاربه الشخصية وتجارب الآخرين، يستفيد أيضاً من قراءاته، والترجمة تشبه القراءة في هذا السياق. وبالنسبة لي، كان الاطلاع على الأدب الغربي وخاصة أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية أثره الإيجابي في تكويني الأدبي، لكنه أثر التصور الفني والجرأة في تناول القضايا وطرح الأسئلة وكسر التابوهات، والإخلاص لأدبية الأدب، كما ساهم في تكويني الأدبي قراءة التراث وحفظ القرآن ودراسة التاريخ والاطلاع على أساطير الثقافات المختلفة.

 

من الإبداعي إلى السياسي، الظرف الراهن لا يمكن تجنبه أو التغاضي عنه، هل من تأثيرات عنيفة ومباشرة على المبدع إزاء ما يدور حوله من أحداث كبرى يعايشها ويقع في القلب منها.. كيف يتعاطى معها، وهل بالضرورة يتحول هذا التعاطي إلى عمل إبداعي موازٍ للحدث ذاته.. أم أن على الأديب والكاتب أن ينتظر حتى تختمر الأحداث بداخله ويتفاعل معها فترة من الزمن حتى تتبلور رؤيته الفنية حال ما إذا قرر الكتابة عنها؟

◆◆ فكرة الكاتب الذي يعيش في برج عاجٍ تجاوزها الزمن، فالظروف الراهنة بما فيها من اضطرابات لا تسمح لأحد برفاهية الانفصال عنها. لكنني أوضح أنني أعتقد فيما قاله ساراماجو ذات يوم، إنه ينزل للمظاهرات باعتباره مواطناً يطالب بالتغيير لا باعتباره كاتباً، وأن واجب الكاتب في الأساس أن يكتب كتابة جيدة.

المشاركة، إذن، في اللحظة التاريخية جسدياً فرض عين، أما كيف يتحول ذلك لكتابة إبداعية، فهذه قضية أخرى. في رأيي، التورط في الواقع بشكل كلي لا ينتج كتابة جيدة، هنا يأتي السؤال الحقيقي حول الفن: كيف يمكن أن أحول حدثاً عظيماً لإبداع عظيم؟ أعتقد أن الخطوة الأولى هي البعد الزمني، والسماح بتراكم الأفكار بحرية ونضج ودون تعجل، وتسجيل ملحوظات صغيرة أو انطباعات قد تساهم في العمل الكبير عند التفرغ له. والأهم من كل ذلك، عدم الشروع في كتابة شيء قبل أن تمتلئ به. وعلى عكس ما يمكن توقعه، قد يشاهد المبدع أحداثاً عظيمة، رغم ذلك لا يتحمس لكتابتها، فقانون الإبداع يميل للفوضى.

مقالات من نفس القسم