أجنحة تحاول التحليق من “ثقوب واسعة”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 4
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام وهبان

-بعد أن تقرأ الشعر يكون هناك عادة طريقان للتعبير عما قرأت، الأول أن تتامله من بعيد منفصلا عنه وأن تضع أسلوبا ما لتحليله، والثانى أن يقودك ما قرأت وينساب داخلك كالنهر الذى لا يكف عن الجريان ولا يعوقه شيء، نهر كلما توغل فيك أنبت على ضفتيك السنابل، وديوان “ثقوب واسعة” من هذا النوع الذى أحب وأهوى.

-“ثقوب واسعة” عادة الثقوب تكون فى جدار مصمت، فنشعر أننا أمتم حرية مقيدة وأنها تتلصص منها على الحياة وعلى ذاتها، والتلصص ربما يكون اعترافاً بالواقع، ولكن فى الوقت ذاته قدرة المتلصص على أن يناور هذا الواقع ويتحايل عليه، وأيضا غالباً ما يكون للمتلصص القدرة على أن يرى مالا يراه من يملك حريته كاملة وهى قدرة منحه له الشغف والشبق للحرية والحياة.

– (إلى روحى وجسدى من علمانى الكثير من الأسرار)، هذا الإهداء له فعل القصيدة، وإضافة للديوان فهو رسالة جوهرها أنها تعترف بذاتها كاملة روحاً وجسداً، فالشعر هنا ليس ترفعا على الواقع بقدر ما هو توحد كامل فيه وتفاعل مع ماهية الإنسان وحلقة وصل بين الفناء و الخلود

– لا يمكن الدخول لعالم الديوان دون الالتفات إلي التقسيم فهو جزءان، الأول (كتاب الروح) والثانى (كتاب الروح والجسد) وكلمة كتاب توحى عادة بالقداسة والتعاليم المرتبطة بالحكمة واجبة الاتباع وأهمية التقسيم أنه سيكون مدخلا لفهم الأسلوب، اللغة و تركيب الصورة الشعرية.

– الإنسان هو ما يحدثنا عنه الديوان، الإنسان المكتمل بأشواقه وإحباطاته وعجزه المقاوم، العجز الذى يعترف بسطوة الواقع ويؤمن فى نفس الوقت أنه إله يحيا الحياة على الأرض بحثاً عن عرشه المفقود وعالمه المشتهى الذى يستحق .

***

كتاب الروح

فى هذا الجزء يغلب التجريد والخيال المسيطر الخلاق الذى يكون عالماً خاصا يهدم فيه الواقع المباشر ويحيا عالما تصوريا من صنعه هو، فلا توجد الصورة البصرية التى تستمد تفاصيلها من الواقع وهذا مناسب تماما لروح تتألم ورد فعل مناسب، فالروح عادة تتعامل برد فعل تجريدى وتعامل مع الحياة إحساس يواجه إحساساً و رؤى تواجه رؤى.

فى قصيدة “ضباب” صورة خلقها الخيال، وتجريدية تماما لقلب معذب يعى ما حوله ولكنه عاجز :-

“ملقى فى زنزانة/ تطل على جبل/ يجرى النهر أسفله/ وتغرد عصافير/ تعدو غزلان/ نمور تترقب فرائسها/ تغمر رائحة العشب المبلل المكان/ وقلبى فى تلك الزنزانة الصدئة”، وتقول أيضاً ملخصة إحساسها الحقيقي بالحياة:

“قلبى العبد/ لا يحرك عروقه كلام ملون/ ولا طرقات مفروشة بالورد/ هو يقف فقط راضيا متسامحاً”.

القلب يعى الكلام الملون ويرى الطرق المفروشة بالورود ولكنه عاجز ويكتفى بأن يكون راضيا متسامحا، قلبها السميع البصير ولكنه العاجز الحزين.

-في قصيدة “ثقل” حين تكون مسكونا بعالم متهالك ينهار حولك وتسكنك خرائبه وتشكل داخلك حياة مشوهة نسجت صورتها بتأن شديد بلغة هادئة وتجريد كامل فى تصوير مبتكر غير مألوف للتوتر و القلق والحيرة :-

(أمسك رأسي بيدى وأنظر/ أتأمل الخيوط الرفيعة /تخرج من بطون الحشرات /التواءات لا تصيبها العين المجردة/ذيولها الفضية الرقيقة/ تخرج منها حروف براقة) نحن أمام خيال قوي متسلط يخلق ما يشاء وعقل منفتح يحيا العالم بوعى وفهم حتى رأى الحشرات والحضارات التى تهدمت وقامت والحروب وأيضا جمالها المتجسد فى كونسرتات، هى عاشت الحياة مكتملة التكوين ورأتها مكتملة كلوحة موزاييك لا يمكن الاستغناء عن أى قطعة ولا لون، كل يؤدى دوره تماما لتكتمل اللوحة لا فرق بين جمال الكونسرت ولا قبح الحشرة، روح قوية قادرة على أن ترى الحياة كما هى والأجمل من رؤيها أنها قادرة أن تميز القبح من الجمال:

(تتجمع فيه حشرات/تصرخ فيه كائنات/ به تتشكل لغات/حضارات تقام/وفيه تهدم/تدور فيه حروب/وعزف كونسرتات)

في قصيدة “قلق” إنسان مرتبك قلق ولكنه يعرف قيمه ودوره في الحياة جسدا ويعى تماما قيمة هذا الحزن الخلاق و الألم المبدع:

(روحى قلقة/كومة شوك مبللة/ تسد النافذة من احتراق الأرض/ لتدخل منها  الحياة كاملة) مقطع من أجمل مقاطع الديوان واختصر كل قصائده وروى لنا فى إيجاز قصة الانسان على الأرض، الإنسان الهالك المؤله بالحزن المهزوم بالموت والخالد أبدا، بقدرته على اكتشاف الخلود فى العدم والوردة فى الصخر الميت.

فروحها كومة الشوك الجافة المبللة، لا تجرح أحدا، ولكن تخفى عنها كونا من عدم و حياة لا تملك لها أسباب البقاء فيكون البقاء ما يمنحه الألم لها فتفسح الطريق لملكوت الحياة الحقيقية أن يمر فتستمتع بالعطاء ربما يؤلمها القهر ولكنها أبدا لا تفنى.

(عنقود فرفط القهر حباته/معلقا فى الشارع بضاعة رخيصة للمارة/يلقم كل مار ما يشاء /وهو لا ينفد أبدا /تجدد حباته كل صباح)

فى قصيدة (بندول) الحياة الرتيبة التى تحركنا فيها خيوط خفية لا نملك منها فكاكا الحياة التى لا نملك فيها أى شئ حقيقى فنحن نتأرجح دوما كبندول لا نملك إيقافه ابدا ولا يستقر على شيء، لا متعة دائمة وموضع قدم فى هذا الدوار الذى لا يهدأ:

(معلقة أنا بخيوط مهترئة/لا يد تمسكها /تضعها على الأرض/لتستقيم واقفة/بندول يتأرجح /لا يجد وقتا يستقر عليه/لا أعلم كيف أصل إلى الشط)

ولكن هى لا يمكنها الاستسلام لهذا المصير رغم إدراكها العميق لماهيته ربما تخاف منه لكنها لا تستسلم ترى وتدرك جيدا المصير القادم، لكن لا تخشاه/ فالحياة هى أن تختار وتمضى أن تموت تصارع أمواج العدم لا أن تموت ذابلا بلا تجارب  ولا قدرة على اتخاذ القرار و لذة المحاولة:

(أهيئ مركبى/ وأخاف من الظلام/ أتفقد مركبى وأقلع/ لا أهتم لكوارث البحر/ للغرقى الذين يصرخون أمامى/للأشباح التى تضج فى أذنى و فى رأسى)

فى قصيدة (هذا العالم موحش وخراب) القصيدة الوحيدة فى هذا الجزء التى قدمت حلا للضياع، وهو الحب الساحر المعجز الذى لا يوقفه شيء، الحب الذي يتسلل بين خرائبها لينقذ قلبا بريئا يحاول أن يماسك فى عالم يدور بلا رحمة وفقد الجميع توازنه

(المدينة طرقاتها مهجورة/ المتاريس تسد كل المداخل/ الأسلاك الشائكة تلف الجدران)

العالم الخراب الذى لا يستطيع أحد اختراق حصاره القاسى (جربت أن أمد رأسى من وراء نافذة مزوية/غير أن تلك الظلمة السوداء ابتلعتنى)

لكنه الحب الساحر القادر  (رأسى الباكى/والعالم الموحش والخراب/نزعتنى منه ذراعاك يا حبيبى فى لحظة خاطفة).

***

كتاب الروح و الجسد

على الأرض وفى غبار معاركها تتلمس روحها القلقة ظلا ما ولا تكف عن البحث و النداء عن فردوسها المفقود والحب المشتهى.

فى هذا الجزء اللغة تستمد مفرداتها من الحياة، وهى أقل تجريدا من الجزء الأول، وتركيب الصورة بصرى ملموس من شوارع وأضواء وشجر وجسد يشتهى، وإيقاع القصيدة كله سريع بما يتناسب وحياة المدينة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

فى قصيدة “رمانة” استجداء الحبيب فى مدينة الأضواء التى بلا نور والمرايا التى لا تفسر ملامح أحد والعيون المصمتة التى لا ترى القلب المتسارع فى طرقاتها (أسفل شباكه صرخت/ إلى ارتد صوتى/ الشارع فارغ مطفأ)  وتقول:

(المدينة لم تطفأ أنوارها/ المدينة معتمة/ المرايا لم تعد مكانها/ أرى وجهى فى كل مكان يقودنى إليه/و حبيبى لم يزل نائما)

فى قصيدة “حياة” تشتهى الحب كاملا مجسدا بكامل التكوين وعند بلوغ الحلم منتهاه، تتهاوى بين ذراعى حبيبها الذى أرادت أن تكون له عاهرة تنز رغبة دافئة و لكن تسقط راقدة فى الوحدة فى نهاية شديدة القسوة

(أكون عاهرة محترفة/ لا أضع مساحيق تجميل مثلما يفترض/ مكتفية بعطر جسدى/ ينز رغبة جائعة)

وتقول (أختار رجلا واحدا/ بعناية مزاجية  مثلى/تتهاوى بين ذراعى حبيبها/راقدة فى الوحدة)

ـ قصيدة “ثقوب كثيرة وفجوات” وصل الشوق للحب منتهاه، فليست العلاقة هنا علاقة امرأة برجل يكتشف أسرارها ويحتويها لكنها علاقة امرأة تناشده بكامل انهيارها وضياعها وتعترف بالعجز الكامل عن إنقاذ ذاتها، بل تقدم له امرأة بكامل الشوق وكامل الانهيار ولا تريد منه غير العطف والحنان، فليس فارسها الذى يقفز فوق الاسوار بل هى تقدم له مفاتيح مدينتها بسهولة وحب و لا ترجو غير الاحساس بها فقط و لا نلمح فى هذه القصسيدة ما يشير إلى فروسيته ولا قدراته الخارقه بل فقط تستجدى العطف من امرأه تكمن قوتها من قدرتها على الحب

(خذ هذا الجسد بتأن/ غطه/ لا يحتاج الأمر للبطاطين/ يكفى أن تحيطه بساعدين)

وتقوده عبر دروب مدينتها بسهولة لأنها لا ترجو غير الحنان و الاحساس بقلب مهزوم، ولكن لم ينكس راياته بعد (أكمل الولوج حتى تصل إلى قلبى / ربما لن تراه كما أخبرونا/أحمر متخذا شكل القلب/ستجد عليه غبارا كثيفا/ ومخلفات حروب سابقة/ سيكلفك هذا مزيدا من الجهد/ كى تزيل هذه الطبقات/ ستصل إلى اللب تماما/ ما إن يبدو لك لون اللحم الصافى/ ليس أحمر كما أخبرونا إنه وردى)

_ في قصيدة الختام “أورجازم”، وهى كما يدل معناها بلوغ قمة الشهوة والشبق نصدم حين نرى أنه الشبق للموت، فهى تتهيأ له بكل أشكالها وكأنها تتفنن فى إمتاعه، فهى الحبيبة والعاهرة والزوجة والراهبة والعاشقة، وربما تكون هذه القصيدة مناسبة تماما للروح السائدة فى الديوان من قلب يدرك جيدا حقيقة الحياة ويدرك أيضا قيمته فيها، فأحلامه ليست انفصالا عن الواقع بقدر ما هى قدرة على التعالى عليه ووصل الأرض بالسماء والفناء بالمطلق وهكذا يكون الاحتفاء بالموت و استقباله بلا خوف ولا هلع أمرا طبيعيا .

(حينما يأتينى الموت /أريد أن أتهيأ له/كما تتهيأ حبيبة لحبيبها)

(كما تتهيأ عاهرة سأتهيأ له/ تضيء شقتها بالأحمر/ترطب جسدها/ تمسح عنه ذكرى رجال لم يمروا)

(سأستقبل الموت كما يليق بزوجة/ تنظف البيت ليلة جمعة من شقاوة الأولاد)

(كما يليق براهبة/سأستقبله/ بالبخور الذى يعبق المكان/رائحة السكينة التى تطفو فى الجو)

(مثلما تتهيأ عاشقة لعشيقها/تنتظره من خلف الشباك كى ينقر نقرتين)

***

خاتمة

هذا الديوان أخذ أجمل ما فى الحداثة الشعرية كما أرادها روادها  إدجار ألان بو، بودلير، رامبو ومالارميه، من فصل الذات عن القصيدة ليكون الشعر ملكا للجميع، فنحن لا نستدل على شخصيتها كشاعرة فلسطينية مغتربة ولكن كإنسانة تحيا عالماً من دخان أدركته بوعى ورفضت الفناء فيه بنفس الوعى أيضا.

ومن ملامح الحداثة أيضا الخيال المتسلط الذى يهدم الواقع ويعيد تكوينه بحرية تامة كمالا فى كثير من قصائد الجزء الأول خاصة، ولكنها استطاعت  أن تروض الحداثة بمعنى أن اللغة ما زالت تؤدى دورها التقليدى واللفظ يدل على معناه ولم تجرد اللغة من دلالاتها ليكون النص مغلقا غامضا بعيد عن الوجدانية ويقصد به الغموض للغموض، وهذا فى نظرى أكسب الديوان حساسية مرهفة نفتقدها كثيرا، وأيضا لم نلاحظ الإغراق فى السرد واستعمال لغه تقريرية مباشرة  ولم تفقد اللغة شاعريتها أبدا فهى أبدا تدل ولا تصف و توحى و لا تعبر.

وفى النهاية يمكن القول أن الديوان تفسير آخر لبيت الشعر المشهور للشاعر الجاهلى المخضرم تميم بن مقبل “ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر.. تنبو الحوادث عنه وهو ملموم”، فللأسف الإحساس بالحياة بما فيها من جمال نعلم أنه لن يدوم و ما فيها من فناء نعلم أنه محتوم هو مأساة الإنسان الحقيقية، ولكنه أيضا ما أعطى للحياة ضوءها الوحيد الخالد وهو الشعر.

مقالات من نفس القسم