“أبطال” يصنعون بالحلم حقائق عالمهم

شعبان يوسف صاحب "مقعد ثابت" فى القلب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ليست اللغة، وليس البناء، دافعين وحيدين تقوم عليهما رواية "وراء الفردوس" للكاتبة المصرية منصورة عزالدين، الصادرة حديثاً عن دار "العين" في القاهرة. فعلى رغم علوِّ شأن هذين العنصرين في سياق الرواية، فإن هناك عناصر أخرى تعطي العمل زخماً إبداعياً، قلما نلحظه في الآونة التي اكتظت بروايات تقوم على الاستسهال والفقر اللغوي وشحوب العالم.

وصدر لعزالدين من قبل مجموعة قصصية بعنوان “ضوء مهتز”، ورواية عنوانها “متاهة مريم”. ويشكل هذان العملان مع الرواية الجديدة محطات ثلاثاً في مسار مشروع إبداعي متميز، وعالم يخص كاتبته بامتياز، فتكاد تكون تقنية الحلم لا تفارق إبداع الكاتبة منذ أول ضربة قلم كما يقولون، لدرجة أن “وراء الفردوس” تعتبر حلماً طويلاً تتخلله بعض الإفاقات أو مجموعة أحلام يصل بعضها إلى حدِّ الكوابيس. ونلحظ أن عزالدين تضع بعض الهوامش التي تفسر هذه الأحلام، وفقاً لكتاب “تفسير الأحلام” لمحمد بن سيرين، وهو الكتاب الذي ورد ذكره أكثر من مرة في الرواية، بتدخل مباشر من الكاتبة، أو باستطراد من بطلة العمل “سلمى”، التي كتبت هذه الرواية، بدافع علاجي وبناء على نصيحة من طبيبتها النفسية.

وتعمل “سلمى” في جريدة يومية، تحديداً في قسم “نشر الإبداعات”، وكانت تتدخل بتوسع في صوغ النصوص الإبداعية. إذاً فهي مؤهلة أساساً لكتابة رواية، خصوصاً أن تاريخها الاجتماعي المشوش والمرتبك والخاضع لسلسلة حقائق فاجعة وخيالات مدمرة يستأهل أن يندرج في نص روائي مثلما كانت تُصرح “سلمى” نفسها بين الحين والآخر. فالعالم المعقد والشائك الذي يسم حياة “سلمى” هو عالم الطبقة المتوسطة التي ناضلت من أجل تكوين بعض الثروات منذ سبعينات القرن العشرين، وهي طبقة ليست مترفة بتاريخها، وأيضاً لا تقبل الشقاء بأي شكل من الأشكال. وعلى رغم الانهيارات التي تتعرض لها، تظل محافظة على هيئتها الخارجية وعلى أسلوبها الرصين في إدارة الحياة. وهذا يتجلى في والد “سلمى” الذي يتصدر المكان المرموق في الحفلات أو العزاءات، حتى يكون أول من يشهده الداخلون، وهو على استعداد لأن يوزع كل ما يملكه من أموال لئلا يفقد خصائصه التي تميز بها عند الناس، حتى لو فقدت مقوماتها الموضوعية.

الحيرة التي تنتاب المنتمين إلى هذه الطبقة، جسدتها شخصيات الرواية بجدارة، وبتفاوتات ودرجات مختلفة، بحسب شكل أو مستوى الانهيار الذي يمس كل شخصية، وبحسب الأحداث وموقع كل شخصية من هذه الأحداث. ويلعب العامل النفسي – الذي تتقن الكاتبة التعامل معه في شكل جدلي – دوراً كبيراً في تحديد مصير كل شخصية. فعلى رغم أن الشقيقتين “سلمى” و “هيام” نشأتا في بيت واحد، إلا أن مصير كل منهما اختلف عن الأخرى. “سلمى” التي تحلم بالتحرر طوال الوقت من أسر خيالاتها وحياتها، و “هيام” التي استسلمت في صيغة انسحاقية للواقع، ووافقت على أول زوج طرق بابها، خوفاً من العنوسة التي تطارد كل فتاة، خصوصاً لو أن هناك عواراً ما قد أصاب العائلة، مثل انتحار الخالة “لولا” منذ زمن قديم، خوفاً من فضيحة قد تلحق بها وبالعائلة، لأنها حملت بطريقة غير شرعية. أما “سلمى” فتعلقت بشاب إنكليزي من أصل باكستاني، يدعى “ظيا”. وعلى رغم تنكره لشرقيته، بل كراهيته لهذا البعد الشرقي في شخصيته، إلا أنها تمسكت به. ومع أن شخصيتي “سلمى” و “هيام” اختلف مصيرهما، إلا أنهما لم تتخليا عن هموم الطبقة، والنضال من أجل الظهور بمظاهر لا تعرف التساهل، أو التراجع، على رغم أن هذا التمسك يكاد يصل بـ “سلمى” إلى الجنون، واختلاط الحلم بالواقع. وهي لا تعرف الحدود الفاصلة بينهما في الحياة، ولا تحدد أين وقع هذا الحدث، وكيف، ومتى؟ هل هو مجرد حلم، أم أنه كان حقيقة؟ وتكاد الصفة ذاتها تجعل من “هيام” شخصية هستيرية، تصرخ في أبنائها بوحشية وضراوة، وتشتبك مع أخيها – طوال الوقت – على حصتها من أرباح المصنع الذي تركه لهم أبوها، وتوبخ شقيقتها “سلمى” – دوماً – على مصيرها الذي تراه أصبح تعِساً، لمجرد أنها تزوجت شخصاً أجنبياً، طالما نصحتها بعدم الاقتران به.

ومع أن “سلمى” تبدأ الرواية بحرق أوراق مهمة، كأنها تريد أن تتخلص من تاريخ ما، إلا أنها ستعيده في شكل مكثف طوال صفحات الرواية. وهذه رواية تستعذب تقنية الاستعادة والاسترجاع، على رغم الأوجاع التي تعانيها “سلمى” من هذه الاسترجاعات، خصوصاً في استعادة شخصية “جميلة” التي تظهر كقرين وكأنها سرقت كل تاريخ “سلمى”، منذ ولادتها، حتى الاسم الذي استولت عليه منذ الصغر. “جميلة” هي ابنة “صابر” الذي يُشعل أفران الطوب في مصانع والد “سلمى” وعمها “جابر”. وعندما يموت “صابر” تحت ضربات الماكينة، تدخل “جميلة” ابنة العامل مساحة طبقة “سلمى” المتميزة، عبر زواج “جابر” عم “سلمى” من “بشرى” والدة “جميلة”. وهكذا تصبح “جميلة” غريمة لـ “سلمى” طوال الرواية، وتحقق نجاحات كانت تحلم بها سلمى، بل إنها تغوي هشام ابن عم “سلمى” وتتزوجه. وطالما كان “هشام” هذا حلماً عصياً عند بنات العائلة أو الدراسة، لكن جميلة بحنكتها وغريزتها الأنثوية، تستطيع أن تجذبه نحوها وتتزوجه، على رغم محاولة الوقيعة الساذجة التي اجتهدت سلمى في أحداثها، والتي أودت بها الأمور إلى أن تحلم بأنها قتلت “جميلة”. ويلا‍حظ أن الكاتبة تتعامل مع تفسير الحلم في أعلى صوره، فالحلم هنا هو تجسيد لواقع غائب ومفقود ومحذوف من حياة البطلة.

لا تقتصر الرواية على هذه الشخصيات، بل هناك شبه مسح أو إحصاء فني لأنماط اجتماعية وفئوية ودينية في الرواية. وتكشف الكاتبة عن تناقضات هذه الأنماط، خصوصاً البعد الديني. فالجدة التي تحترم وتقدر وتهتم بمارغو وعائلتها لكونهما من طبقة رفيعة المستوى، نجد أنها لا تطيق وجود شخصية مثل “رزق” في المصنع، لأنه “نصراني” أي مسيحي، مع أن مارغو وعائلتها ينتميان الى الديانة المسيحية. لكنّ البعد الطبقي – هنا – يتغلب على البعد الطائفي، وتبرع الكاتبة في كشف هذا التناقض بخبرة “من جاور القوم”، وبالتالي بأسلوب فني رفيع، يتجنب شكل الإثارة الذي عهدناه في روايات أخرى.

والملاحظ أيضاً ان الكاتبة تمتح من العالم الاسطوري والفلكلوري بما يتناسب مع ثقافة الشخصية المحورية (سلمى)، فهي تعيد إنتاج بعض الأغاني الشعبية بتصرف، وبعض الحكايات التي تربت وتكونت من خلالها أحلام سلمى وهواجسها وأفكارها، حيث تصبح هذه الحكايات والأغاني والاساطير جزءاً لا يتجزأ من نسيج الرواية، مثل أحجبة كمونة التي تبحث طوال الوقت عن حلول. وهنا توازٍ وتقاطع إبداعي رفيع بين “سلمى” الباحثة دوماً عن حلول، وكمونة التي تحايلت على خاطفها، وهربت منه، وعادت الى أمها كما جاء في الحدوتة، أو في الرواية.

وتلعب كذلك “الحكاية” الشعبية – في الرواية – دوراً في تحديد الهوية وتحديثها، والبحث عن موقع لها في بناء الشخصية الحلمية، أو الحالمة. فعلى غرار مقولة ماكس فيبر: “إن الإنسان – دوماً – يخلق بضع أفكار ومعان، ويظل يدافع عنها”، نجد هنا الحكاية الشعبية كذلك. وتصرح الكاتبة أنها سردت الحكاية بتصرف، لتضيف إليها بعداً جديداً، وتصبح جزءاً من الهوية، أو البحث عن شكل وتضيف الى هذه الهوية.

الجنس في الرواية يأتي رائقاً وشفيفاً، من دون افتعال أو اقحام، وهو يظهر كضرورة لا بد منها. ومع أن لا إفراط في التعامل معه، إلا أنه يحدث التوازن بين شقاء الحياة من ناحية ولذتها والاستمتاع بها من ناحية أخرى، في بناء يكاد يكون صارماً، بعيداً من الارتكان الى مقولات التشظي والتشرذم. فالرواية تُسرد وتبنى في شكل ومعمار شبه صارمين، وتتسرب الأحداث بيسر ونعومة، على رغم وطأتها، وثقل معانيها. إلا أنها رواية بين الحلم الحقيقي، والحياة الحقيقية، تسردها بطلة تقف بين الغياب والوعي، والحياة والأسطورة في وقت واحد.

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم