يوم السوق

محمود عبد الهادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الهادي

بجسده الضخم إلى حد التعملق، وبشرته السمراء ذات التقاطيع غير المألوفة، وقف السيد عرفان إبراهيم أمام باب بيته وهو يُعد عربته المحملة بالخيار ليضعها على الطريق، حين أتاه صوت معاتبا من الداخل: برضو مش هتستنى لما الشمس تطلع والشبورة تخف؟

تجاهله. وضع طاقيته البنية المنسوجة من الصوف على رأسه الذي ينازع المشيب، شد الكوفية الصعيدي على وجهه، تحسس موضع نقوده في جيب الصديري، وقال بصوت خفيض لم يسمعه سواه “أصل النهاردة يوم السوق” وقبض على ذراعي عربته ودفعها أمامه حتى غيبته الشبورة.

وعلى الطريق الذي يربط قريته النائية بالمدينة التي يقام بها السوق يوم الخميس من كل أسبوع، أخذ يتسلى بما كان يتسلى به طوال عمره المديد الذي انقضى ذهابا وإيابا على تلك الطريق وهو يغني بصوته -الشجي- بعض أبيات السيرة الهلالية التي يحفظها عن ظهر قلب: “آمنت لك يا دهر ورجعت خنتني ولا كان حسابى إن الزمن خوان”.

وحينما كان صوته يتردد شجيا ثقيلا على الطريق، مرقت من جانبه سيارة لا تتناسب سرعتها مع الشبورة التي تكاثفت من حوله وجعلته لا يرى أكثر من مترين أمامه، وإذ بها ترجع إلى الخلف ببطء حتى حاذت عرفان وعربته، وطلت من شباكها عيون متطلعة  في رأس حليق يتساءل: بكام التفاح يا بلدينا؟

قال عرفان بتعجب: إيه؟

-التفاح.. بكام؟

-تفاح! لا أملك غير الخيار.

-شكلك لسه مصطبح وهتتعبني.

وانطلقت مسرعة تاركة عرفان في حيرة، فنعم هو كان في بعض الأسابيع يبيع التفاح وأسابيع أخرى تكون العربة محملة بالبطيخ أو الكرنب، كل على حسب موسمه أو على حسب مزاج عرفان وكيفه، لكن هذا الأسبوع هو للخيار.

وأكمل طريقه وهو يقول لنفسه: بلاوي بتتحدف علينا. وعندما أوشك على قطع نصف المسافة، وجد على الطريق مجموعة من الفلاحين تبكي جاموسة صفراء غارقة في عين من دماء حمراء كعين الشمس وقت الغروب. اقترب منهم وتساءل ماذا هناك فقال أحدهم وهو ما زال ينتحب: قتلوها الملاعين. قالها ثم انضم إلى الباقيين وحملوا البقرة فوق ظهورهم واختفوا بها بين الحقول والشبورة.

وتحرك عرفان وقد غلبته الحيرة؛ أي ملاعين هؤلاء؟ وما سر كل ذلك البكاء والنحيب؟ لكنه تذكر أن هذا هو يوم السوق وما ينبغي له أن يسمح لشيء أن يؤخره واستمر بالتقدم على الطريق. وبعد أمتار قليلة وجد رجال الأمن قد نصبوا كمينا، أوقفه ضابط تغطي أكتافه نجوم عجز عرفان عن عدها، أو تكاسل، منتصبا في بدلة ميري كلح لونها واهترأت ولكن لا يُخفى عن الناظر بأنها كانت بدلة بيضاء ذات شأن فيما مضى. وبإشارة من يده وبلهجة آمرة: الرخص؟

-أفندم!

-أنت أطرش؟ الرخص يا ابن الزانية!

-رخص ايه! دي عربية جر!

أخرج الضابط دفترا من جيبه وأخذ يحرر له غرامة وأمره أن يذهب لدفعها عند الضابط الآخر.

-ولكن يا باشا…

-هتدفع ولا نصادر العربية؟

تذكر عرفان أن اليوم هو يوم السوق ولا يجب أن يتأخر وقال في يأس وتسليم: أمري لله.

وبعد أن دفع الغرامة غير القليلة استمر بالتقدم إلى وجهته. وحاول أن ينسى وينشغل عن التفكير في الغرامة بالغناء مرة أخرى، وكان لعرفان صوت عذب لا يتناسب وهيئته وبنيانه الجسدي، واندفع بالغناء بصوت جميل وعالي. فأتاه صوت أنثوي ناعم تحجب مصدره الشبورة: صوتك حلو..

توقف عن الغناء فظهرت له امرأة في منتصف عمرها تتهادى نحوه بجسدها الذي يغطيه جلباب حريمي ضيق رفعته إلى ركبتيها وكأنها تدوس في ماء غير موجود. فكشفت عن سيقان لدنة بيضاء كالحليب، اقتربت حتى كادت أن تلاصقه وقالت: بتبيع بكام يا صاحب الصوت الحلو؟

-أبيع من غير فلوس لو تحبي!

فضحكت ضحكة تنضح بالجمال والغواية: شكلك بياع شاطر.

-الرزق يحب الخفية ولا إيه رأيك؟

-رأيي إني أدوق الخيار الأول.

-هيعجبك.

-لو حلو زي صوتك اوزن لي؟

-فين؟

-هنا..

-لكننا في الشارع!

-الشبورة تسترنا.

قالت جملتها الأخيرة والشفاه كادت تلامس الشفاه، وأصابعها البيضاء الرفيعة تزحف على صدره العريض، تحرك عرفان مبتعدا عنها وهو يخبرها أنه سيمر عليها وهو في طريق العودة لأنه لا يجب أن يتأخر.

-براحتك، لكن الشبورة هتكون راحت.

تركها خلفه وانطلق وهو يتقلب بين مشاعر الندم والنجاة. وبعد مرور القليل من الوقت وصل عرفان إلى أطراف المدينة، وكانت الشبورة قد بدأت في التراخي، توقف جانبا ودس يده في جيب الصديري، أخرج منه مرآة في حجم كف اليد، نظر إلى نفسه بإمعان، مرة بيسار وجهه وأخرى بيمينه، تأكد أن صورته على ما يرام، أعاد المرآة إلى الداخل وأمسك عربته وتحرك إلى عمق المدينة حيث يقام السوق في ساحتها. تختفي الشبورة تدريجيا، وكلما خفت كشفت له المدينة عن نفسها؛ بيوت متواضعة، متراصة في صفوف متقاطعة، يقف أمامها رجال بجلابيب بيضاء، منهم من نظر إليه بتعجب ومنهم كأنما لم يره، لكنه لم يكن يبالي إلا بالساحة التي تراءت له في نهاية الطريق بعد أن اختفت الشبورة تماما، فرحته بالوصول دفعته إلى الإسراع من خطواته حتى كاد أن يتعثر ويسقط هو أو تسقط من العربة بعض حبات الخيار، لكنه في النهاية ببعض الحرص وصل إلى الساحة فوجدها خالية إلا من بعض الشباب الذين يفرشون أرضها بالحصير الأخضر استعدادا لصلاة الجمعة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون