يوميات العُمر الممزّق في “فخ البراءة” لأسعد الميري

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

يُولد بعضُ الكتّاب ناضجين، مكتملي النمو، دون أن تتاح لقرّائهم الفرصة لمتابعة تشكّل وعيهم وتجربتهم من مرحلة إلى أخرى عبر السنوات، وهكذا كان الحال مع الكاتب عادل أسعد الميري، الذي بدأ نشر أعماله الأدبية وهو يناهز الخمسين. في المقابل يتأخر النضج النفسي لدى بعض الرجال حتى يظهروا في شيخوختهم وكأنهم أطفالاً يُراوحون في أماكنهم متشبثين بجنة الطفولة الحرة، وهكذا هو الحال مع بطل روايته الثالثة الصادرة مؤخراً عن دار ميريت: فخ البراءة.

لا تنبع خصوصية تجربة عادل أسعد الميري فقط من دخوله المتأخّر نسبياً إلى رحاب الأدب، ربما يرتبط بذلك الظهور المتأخر أيضاً وجهٌ آخر لهذه الخصوصية، وهو اعتماده الأساسي في كل تجاربه السردية حتى الآن على مساحة شاسعة من التجربة المباشرة والخبرة الوثيقة الحميمة بكثيرٍ من الفترات والمدن والوظائف التي تنقّل بينها خلال سنوات حياته. كان الاعتماد على ذلك الكنز المتاح في متناول يديه واضحاً وقوياً في كتابيه الأولين، إلى حدٍ توصيف روايته “كل أحذيتي ضيقة” على غلافها الأمامي بكلمة اعترافات، رغم اتباعها كل تقنيات وأساليب وطرائق التخييل الروائي الصافي، ثم أتت روايته الثانية، “لم أعد آكل المارون جلاسيه، بكلمة رواية صريحة على الغلاف، لتقترب بتجربته أكثر إلى دوائر الإبداع وتبتعد عن دوائر السيرة الذاتية والاعترافات التي كثيراً ما تتماهى حدودها مع حدود الكتابة الإبداعية. غير أن القواسم المشتركة جاءت عديدة في هاتين الروايتين، كأنهما حكاية واحدة تكمل إحداهما الأخرى، ما بين طفولة روايه ناجي في إحدى قرى الدلتا في كنف أسرة مسيحية من الطبقة الوسطة تفرط في حمايته بدرجةٍ خانقة، وبين كهولة هذا الراوي نفسه مع زوجته الفرنسية ذات المشكلات النفسية والعصبية التي ذاق عها الأمرّين. أمّا عن روايته الثالثة، فخ البراءة، فبقدر ما ابتعد فيها الميري عن “ناجيه” بهمومه الخاصة ومشكلاته، بقدر ما أكّد مرة أخرى على بعض الموضوعات الأثيرة لديه، ولو من زاوية مختلفة قليلاً، على سبيل المثال تأخّر النمو النفسي والجنسي لدى بطله، والأسرة – وخصوصاً الأم – التي تكاد تخصي أبناءها نفسياً بالإفراط في حمايتهم وفصلهم عن العالم الخارجي، وكذلك نغمته المفضلة في المواجهة الأخلاقية بين الشرق والغرب، ومقدار التحرّر والتوازن الذي يتحقق لدى كلٍ منهم.

على عكس ناجي في الروايتين الأوليين، لا يتمرّد بطل هذه الرواية على قوانين العائلة والحماية المفرطة، بل يستنيم تماماً، حتى يبلغ مشارف شيخوخته، إلى لعب دور الطفل المدلل، متخطباً كطائرٍ ضعيف الجناح في “فخ براءته”، هائماً مع أوهام لا أول لها ولا آخر، تتعلق بالطاقات الروحية واليوجا والمسير لساعات طويلة والتأمل، إلى آخر بعض تلك الموتيفات التي قد نلمح تأكيد الميري عليها في روايتيه السابقتين، وخصوصا: “المارون جلاسيه”…ومن مشروع فاشل إلى آخر أكثر فشلاً، ومن محاولة في اقتحام مجالٍ جديد إلى آخر، يبقى “بطلنا” يسير في المحل، مصارعاً أوهامه وخيالاته ومخاوفه العديدة التي يشغل الجنس قسماً معتبراً منها.

لم يتبع الميري في سرده هنا الخط الزمني المستقيم المتتابع، كما فعلَ إلى حدٍ ما في عمليه السابقين، بوضوح في “أحذيتي ضيقة”، وبشيء من المكر والدوائر الملتفة حول بعضها البعض في “المارون جلاسيه”، لكنه يعمد في “فخ البراءة” إلى حالة من التفتيت شبه الكامل للخط الزمني لحكايته، المسرودة في صيغة يوميات على لسان الشاب-الشيخ الذي تنقضي أيامه بلا حساب وهو مختبئ في قوقعته يبارز طواحين الهواء. فكأن الفصول القصيرة للرواية هي صفحات منتزعة عشوائياً من دفاتر يومياته التي تتراكم مع تقدمه في السن، مقدّمة للقارئ بغير انتظام فهذا المشروع الذي فشل قد نلمحه بعد صفحات في مهده الواعد، وهذه الهواجس الخاصة بأقدام النساء تظهر وتختفي من مرحلة إلى أخرى، وقد أتى هذا الاختيار المعماري مؤكّداً لحالة الركض في المكان الخاصة ببطل الرواية، وتأخّر النضج النفسي والاجتماعي، فكأنه لا شيء يحدث حقاً في حياته يمكن تتبعه خط سيره من البداية إلى النهاية، بقدر ما هي دوائر مفرغة صغيرة تتجاور وتتواشج أحياناً، لكنها لا تخرج كثيراً عن دوّامات نفسية ضيقة ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد. إلى جانب هذا التفتيت المتعمّد ظهرت بعض الآليات الأسلوبية الأخرى التي لم أجد له مبرراً وجيهاً، مثل تغيير شكل الخط من فقرة إلى أخرى، أو الكتابة بحروف غليظة، أو وضع خطوط تحت بعض العبارات والجمل. غير أنّ البناء المفكك للسرد واختلاط يوميات البطل لم يكن مجرد حيلة سردية بهلوانية على سبيل التغيير بقدر ما هي فاعل دلالي له دوره – جمالياً وموضوعياً – في إنتاج المعنى الكلّي لهذه الرواية، التي كثيراً ما تُشعرك بأنها أقرب إلى دراسة نفسية لحالة نموذجية من حالات الاضطراب النفسي، اضطراب ليس واضحاً بالقدر الذي قد ينذر بالخطر أو بالقدر الذي يعزل صاحبه عن مجتمعه وسياقه، لكنه هناك موجود ونشط ومحكّم كعقدة حول نفس حامله.

الإحساس بدراسة الحالة هذا يتبدى من الصحفات الأولى للرواية التي يمهّد فيها الميري لعرض حالته الخاصة بثلاث مقدمات، قبل الفصل رقم 1 والدخول مباشرة في معمعمة السرد، ثلاث مقدمات مجلوبة من مصادر ثقافية مختلفة مثل برنامج إذاعي على القناة الثقافية وكتب علم النفس والموسوعة النفسجنسية، يحاول من خلالها أن يرسم صورة سريعة وعامة لنمط الشخص الذي يتناوله سردياً على مدار العمل، وفي ثنايا السرد نفسه لا نعود لنلمح هذا البناء المنتظم المتتابع للأفكار المنطقية، إلّا ربما قرب انتهاء الرواية حين يستسلم الميري من جديد لولعه الجلي بالبحث والتوثيق وعرض الأفكار، عند تناوله مسألة الميل للتعرّي، فيلجأ من جديد للاقتباس المباشر من هنا وهناك، دون أن نستطيع أن نحدّد هل مازلنا نقلّب في دفاتر يوميات بطلنا المتلكئ المتواني أم انتقلنا بجرّة قلم إلى التعليق الخارجي والتفكير المنتظم لروائينا الصاحي المنتبه. غير أن هذا الميل ليس غريباً مئة في المئة على عالم الميري، فهو غالباً ما يسرد الواقعة ليقول شيئاً ولينقل فكرة، وحبذا لو استطاع أن يدعم فكرته تلك بالمعلومة والبينة والاستشهاد السليم، فكأن سرده يطمح إلى مصداقية العلوم الوضعية، دون أن يتخلى مع ذلك عن الهمس الإنساني ولوعة طرح السؤال ذاته مرّة بعد أخرى؛ سؤال الوجود والمغزى والمصير.

انطلاقاً من أغنية الأطفال التي كانت تتردد على ألسنة أطفال نادي طنطا الرياضي في سنة 1959: “طلّع قرونك يا كوكع… أبوك مات يا كوكع”، التي على سذاجتها وبدائيتها تلقي بضوءٍ ناعم على حالة بطلنا الذي يخفق مراراً وتكراراً في أن تطلع له “قرون”، حتى بعد أن مات الأب وغاب الأشقاء وصار شيخاً أشيب الشعر، ظل حبيس “كوكعته” هائماً مع القوى الخفية وتمارين اليوجا والتركيز الروحي، وهو العالم الذي قد نستعيد إيماءات إليهن بصورةٍ سلبية غالباً، في الروايتين السابقتين للميري…ومروراً بعشرات الحوادث والحكايات الفرعية الصغيرة، المزخرفة بأوهام وظنون بطلنا، تتكرر النغمة ذاتها بتنويعات عديدة، حتى السطور الأخيرة من العمل، الذي يمكن اعتباره بحثاً في الهواجس الجنسية الغامضة وغير المألوفة لأعزب فاته القطار ولم يمارس الجنس “الحقيقي” سوى مراتٍ معدودة، كما يمكن اعتباره أيضاً استكشافاً سردياً متميزاً لجزيرة العزلة التي نختارها بمحض إرادتنا، حين يخيّب العالم الخارجي طموحنا اللانهائي ولا نراه جديراً بعظمتنا الخاصة، وهي عظمة لا سبيل لمساءلتها مادمنا نحن مؤمنين بها، حتى ولو بقيت داخل حدود أحلامنا القاصرة.

 

 

مقالات من نفس القسم