وين يا حبيبي؟

حزامة حبايب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حزامة حبايب
يوم ماتت جدتي، انطلقت صرخات النسوة في المخيّم تشقّ السماوات الموشومة بأسلاك الكهرباء المسروقة، حزناً على المرأة التي شغلتهم بمشاكساتها، في عمرها الذي استطال على نحو لا بأس به. في اليوم الثالث للعزاء، وقد انحسر النّدب وتكاثرت النمّيمة، ارتفعت صرخات أخرى في بيت جدتي الذي لم تتبخر منه رائحتها، اخترقتْ الأكوان كلّها، وشقّت سابع سما. لقد وقع فقدٌ آخر كان أشقّ على الأنفس من فقد جدّتي: أثواب المرحومة فُقدتْ. لقد سُرقتْ.

لم تحتج نسوة العائلة إلى كثير خبثٍ لمعرفة اليد التي تطاولت على إرث جدتي؛ التي وُسدِّتْ التراب ولم يخمد النزق في عودها الصلب بعد تماماً. كانت اللصّة الجسورة قريبة العائلة البعيدة إيّاها السبّاقة إلى عزاءات نسوة المخيم، فلا تكاد تغزو عزاءً حتى يكتشف أهله، بعد توضيب أحزانهم، اختفاء طقم طناجر ألمونيوم أو صينية تيفال غير مستخدمة، كان ابن الفقيدة قد جلبها منذ سنوات لوالدته من السعودية، ولسبب ما له علاقة بالحفاظ على الغالي والجديد استخسرتها المرحومة في نفسها أو أهل بيتها. كلّه يهون إلا أثواب الحاجة! لطمتْ القريبات، الطامعات بالأثواب، وصِحْن أكثر مما صِحْن لرحيل جدتي. أربعة أثواب من بينها ثوب دجني أصيل (من قرية بيت دجن)، أبيض سُكّري بعروق عريضة، بتطريز فائر الحمرة، فائض التفاصيل، عكس صخب حياة جدتي وعنفها. تقول الأسطورة التي آمنت بها حفنة معقولة من نساء الأرض إنّ لصّة الأثواب، التي لعلّها تصطلي الآن في نار جهّنم، رقصتْ في ثوب جدّتي الدجني في أحد الأعراس، وتقافزت فوق الجميع تختال بجسدها الذي حوّطته العروق الحمراء السخية، حتى إذا ما جاء الصباح عُثر عليها ميتة. كانت بالثوب، ممدّة على ظهرها، وقد فتحتْ عينيها بذعر، كما لو أنها رأت شبحاً أو كانت تقاوم يدين حانقتين تخنقانها. كانت الرواية الأكثر منطقية هي أن جدتي لم تحتمل روحها أن ترى ثوبها الأثير على جسد غير جسدها، أو على جسد غير مستحقّ، فخنقتْ قريبتها البعيدة لصّة الأثواب. من يعرف جدّتي، يعرف أن القتل المشروع من شيمها!

لقد أحبّتْ جدّتي أثوابها، التي كانت تطرّزها بتأنيّ حكمة الجمال وملاحة الصبر حيناً وتسرّع محدثي الغرام المولّهين حيناً آخر. كان المرء يستطيع أن يقيس مزاجها من غرزتها، من التفاف الخيط على الخيط، من انعطافة الشكل، من تثاؤب شكل الوردة وانبساط بتلاتها غبطةً، أو من انحناء عنقها وتدلّيه حزناً. الأحمر في أوقاتها المبتهجة ليس هو الأحمر في فترات عمرها الكاتمة والمكلومة. على أنه في جميع الأحوال، وفي نهاية مشوار التطريز وأمزجته المتلوّنة، فإن الثوب الذي يعانق قوامها النحيل، المتين، اليابس، غير المنثني، غير القابل للانكسار هو الثوب الفلسطيني الحيّ، الناطق أبداً.

كانت أحب الليالي إليّ، وأنا طفلة، تلك التي أتشبّث فيها بطرف ثوب جدتي، أسير وإيّاها في أزقّة المخيّم لحضور عرس جارة أو واحدة من معارفها الكثيرات، يقودنا صوت غناء غير منظّم يعلو تدرجياً، حتى إذا ما وصلنا إلى مكان الصوت، انطلقت حنجرة جدتي القوية بالزغاريد، ثم كأن جميع النسوة ينسحبن تلقائياً من وسط الحجرة التي يشتعل فيها الرقص إلى الجانبين، ليسمحن لجدتي باحتلال البقعة المركزية في مساحة الرقص في الحجرة الضيقة المكتظة بالمدعوّات. تتقاطع عروق الأثواب وألوانها؛ يحتكّ القماش بالقماش، تتداخل التعرجات بالانعطافات، تلتقي الثريات المطرزة بالمزهريات المنقوشة، تتشابك طُبب خيوط الحرير؛ وحده ثوب جدتي لا يشبه أي ثوب، واللون الذي يتفجّر من عروقه لا يختلط مع أي لون آخر. تهطل تطاريز ثوبها في الغرفة مطراً أحمر، أو سيلاً عرمرماً أخضر، أو فيضان من القصب الذهبي المترف، الذي يغشى الأبصار. يرتفع صوت جدتي، ذو التضاعيف اللحنية الربانية بـ”تلولحي يا دالية يا أم الغصون العالية”. تكون جدّتي، المرأة الناحلة بالجديلة المحنّاة التي تتفلّت من تحت إيشاربها، أروع النساء.

كانت جدتي ترثي لحالي لأني “ابنة كنّتها الشامية”، كما تصفني، “يا حسرة عليك يا بنت الشامية، لن تترك لك أمك ثوباً”، تشفق عليّ، وتعدني بأن تعطيني أغلى أثوابها. “متى يُصبح لي؟”، أسألها بتوْق، وأنا أطُيل قامتي قدر مستطاع الطفولة لأطول قامتها. تجيبني بحسم: “حين أموت.” ثم أسألها، مدعيةً براءة الطفلة التي شلحتُها مبكراً: “متى تموتين؟” تضحك جدّتي بهناءة، قائلة: “لولا عتب الناس الذين قد يقولون عني مجنونة لأوصيتُ بأن أُدفن وأنا أرتديه.” ثم تنظر إلى فوق تخاطب أحداً كأنها تراه، تبسط ثوبها أمامها، غامزة: ” ألا تحبّ يا ربيّ أن أصعد إليك به؟!” تمسك جدتي يدي وترقصّني معها وهي تغني: “وين ع رام الله، وين ع رام الله، وِلْفي يا مسافر وين ع رام الله، ما تخاف من الله، سرقت قلبي ما تخاف من الله”. ألقي رأسي في حضن جدتي فأشتم رائحة لون نافر، مكتنز، متدفق، جارف.

لكن جدّتي رحلت، ولم تترك لي أياً من أثوابها، كما لم تُدفن وهي ترتدي ثوبها الأثير. ولا أتوقع، كما تنبأتْ لي، أن أرث من أمي الشامية التي بالكاد التقطت لهجتنا الفلسطينية وبعض وصفات أكلاتنا، أي ثوب.

منذ سنوات وأنا أدقّ أبواب نساء المخيم، أشترى أثوابهن القديمة، لعلّي أقع على أحد أثواب جدتي، أقلّب عروق الأثواب، أشتم تطاريزها النافرة بجلاء وبهاء، أعيد صوغها، أرممّها، أصلح ما تمزّق منها واهترأ. أرتدي الثوب الأسود بالعروق الخمرية العريضة، أو ربما النيلي بخيوط القصب الذهبية، أو الأسود المقصّب بالفضي. أقف أمام المرآة، أمسك بيدي جدتي، نكمل من حيث توقفنا: “وين يا حبيبي، وين يا حبيبي، تاركني ورايح يا حبيبي، حظّي ونصيبي، حظي ونصيبي، ريتك من الله حظّي ونصيبي”.

ثم أنظر إلى فوق غامزة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون