ولوج “جنة الشياطين” انتصار للحياة والسينما

ولوج "جنة الشياطين" انتصار للحياة والسينما
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
  أحمد رشوان ليس من السهل على مجموعة من السينمائيين الشباب تثبيت أقدامهم في عالم السينما بعد فيلمين روائيين فقط، إذ أصطلح أن يتحدد الأسلوب أو الاتجاه بعد أفلام عدة. ولكن المخرج أسامة فوزي، وكاتب السيناريو مصطفى ذكري كسرا القاعدة، وبعد أن أنجزا سوياً "عفاريت الاسفلت" 1996، عادا بفيلم "جنة الشياطين" 1999 والذي لا يمكن اعتباره مجرد استكمال لخط اختطفاه فحسب في "عفاريت الإسفلت".

“جنة الشياطين” يحمل بلورة لأفكار سابقة، وثورة على كل الكلاشيهات ليس فقط في الحياة والسينما ولكن أيضاً في تراث الفرجة والتلقي، ما قد يشكل صدمة لمعظم المشاهدين تفوق الصدمة التي تلقوها في “عفاريت الاسفلت”، وهي صدمة مطلوبة حتى يفيقوا، ربما تبدأ حاسة التذوق الفني في النمو، ربما يستطيعو فيما بعد تقبل الشريط المختلف، أو أي شريط يتعارض مع منطق حكي “الحواديت” الذي اعتادوا عليه بحكم التراث.

الموت في “جنة الشياطين” هو المحرك الدرامي، وهو الحدث الجلل، ويلقي بنا ذكري في يم فيلمه المأخوذ عن رواية جورج أمادو الرجل الذي مات مرتين منذ مشهده الأول والذي نرى فيه طبل محمود حميدة نائماً على كرسيه وعلى وجهه ابتسامة ساخرة.. لا… ليس نائماً،، بل ميتاً.. اليقين المخادع الذي يجعل كل الشخصيات تتحدث إلى رجل ميت منذ المشهد الأول وحتى المشهد الاخير.. يلهون معه، ويشربون.. ينهرونه، ويسترضونه.. ليس بمنطق أنهم مخدرون أو سكارى، وإنما بمنطق رفض الموت.. السخرية منه.. السخرية كتميمة سحرية ضد الخوف من الموت / رهبته / غموضه.

يشاركهم طبل في خلخلة اليقين بابتساماته وعبوسه.. قهقهاته ومداعباته بإبهام القدم واللسان.

طبل ليس إلا الوجه الآخر لموظف محترم من وجهة نظر طبقته البرجوازية الصغيرة بالطبع اسمه منير رسمي، لكنه قرر أن يتمرد على حياته الزائفة، ويلفظ طبقته وأسرته، ويعيش الحياة التي اختارها لنفسه. اختار اسماً جديداً وأصدقاء جدداً.. ثلاثة شباب يجمعون بين الملامح البريئة الغريبة والأفعال الشيطانية العنيفة: عادل سري النجار، نُنه عمرو واكد بوسي صلاح فهمي، وعاهرتان: حُبة لبلبة، شوقية صفوة.. هؤلاء الخمسة يشكلون عالم طبل الجديد.

أما عالم منير فلا نراه إلا من خلال حياة أسرته.. الابنة سلوى كارولين خليل، الزوجة نادية منحة البطراوي الأخت وديدة منحة زيتون، وأخ الزوجة حليم رأفت راجي عبرهم نشاهد منير في أحاديث الذكريات والصور الفوتوغرافية، ولم يلجأ ذكري إلى مشاهد الفلاش باك وهو حل درامي سهل ولكن غالباً ما يعتريه الضعف، واختار الحل الاصعب، كيف نرفض حياة منير القديمة دون أن نراه في هذه المرحلة، ونتعاطف معه في حياته الجديدة التي لم نر منها ملمحاً سوى موته. نرفض الموت ابتداء لكننا نضطر لاحقاً إلى تصديقه، نضحك ونبكي مثلماً تفعل شخصيات الفيلم في المشهد الواحد.

التناقض الحاد هو مفتاح الولوج إلى “جنة الشياطين” يفتح قوسي التناقض بثنائية عامة وكبرى الحياة / الموت، ثم تتدرج العموميات إلى ثنائيات أخص، وتتشعب إلى تفاصيل عدة ومشاعر متباينة.. الحب / الكراهية، العنف / البراءة، العقل / الجنون، الضحك / البكاء، التقاليد البالية / التمرد.

أما تعامل أسامة فوزي مع هذه الثنائيات تقنياً، فبدا متبلوراً في أسلوب تقطيع المشاهد الى لقطات، والتدرج من اللقطة العامة إلى الكبيرة مع تدرج الانفعال ثم انقلابه الى النقيض.. وساعد في سلاسة الانتقال براعة المونتير خالد مرعي ايقاعيا. في المشهد الاول لظهور حُبة وهي تخيط الشق في جلباب شوقية، والدموع تنهمر من عينيها، وتخبرها فيه حُبة عن وجود أسرة لطبل وأهمية ابلاغهم بوفاته، ثم تبدأ الابتسامات في تخلل الحوار وسرعان ما تتحول الابتسامات الى ضحكات قوية عندما تطلق شوقية نكتة تقترح فيها شكل ايصال معلومة موته الى أهله. وفي مشهد آخر حينما تنفرد سلوى بأبيها طبل بعد خروج الطبيب، تبادل سلوى عبوس طبل بضحكاتها وإخراج لسانها، وحينما تحاول دفع إبهام قدمه إلى داخل الحذاء دون جدوى، تتبدد ابتسامتها بينما يبدأ طبل في الابتسام.. تجلس على كرسي هش فينهار الكرسي، تنفجر سلوى في البكاء بينما تزداد ابتسامه طبل اتساعاً ويحرك ابهام قدمه حركة راقصة ليسخر منها، هكذا لعب اسامة وذكري على الهارمونية بين الانفعالات المتناقضة صعوداً وهبوطاً. اما اختيارهما لهذا الشكل المجرد في بث الافكار، والاعتماد على مسرحة الصورة فينبع من طبيعة الافكار الذهنية وصعوبة تحويلها الى صور حية، كما أتاح لهما التجريد انتزاع الشخصيات من جذورها، فلم يكن لازماً عليهما إبراز تاريخ الشخصيات أو خلفياتها الاجتماعية ليتم التركيز على فكرتي الموت – التناقض بشكلهما المجرد، وأكد هذا الجو إضاءة طارق التلمساني الليلية والذي تعامل مع أماكن التصوير كخشبة مسرح يحكم خطة الاضاءة فيها الموقف الدرامي وانفعالات الممثل وليس مصادر الاضاءة المفترضة، ولكن هذه المسرحة لم تمنع الفيلم من أن يتخذ في بُعد منه نقداً اجتماعياً عنيفاً يسخر فيه من التقاليد الزائفة للطبقة المتوسطة، المغالاة في تجهيز منير للدفن من نعي الجريدة الى موكب السيارات الفارهة ومروراً بتابوت من خشب الارو، وملابس فخمة وأسنان جديدة.

مظاهر خادعة، ونفوس خاوية.. مشاعر زائفة فجميع افراد اسرة طبل لا يحبونه.. مفاهيم مغلوطة وخصوصاً فيما يتعلق بمفهومها القاصر الضيق للاخلاق والفضيلة.

ليس فقط التعرية التي يعريها لهم صناع الفيلم، بل كذلك النقد الموجه لهم من وجهة نظر شخصيات الطبقة الدنيا التي انخرط فيه طبل، فنسمع على لسان حُبة “طبل من عيلة محترمة وكان له وظيفة وبيت.. بيرجع بميعاد وينام بميعاد” وتقول حُبة ايضاً وهي تتأمل صورة منير سابقاً “فين السنتين الدهب.. كنت لسه هنا موظف محترم.. سنانك كلها كاملة”. أليس هذا النظام الزائف والروتين الممل جزءاً من تكوين هذه الطبقة، وكمال المظهر الزائف أيضاً هو سمة من سماتها؟ السخرية التي تحملها كلمة محترم كمفردة للوصف.

كما يحمل أبناء قاع المدينة رؤية متفائلة متشبثين بالحياة رافضين الموت، مرددين كلمة طبل الحي أبقى من الميت لذلك نجد أن الفيلم تشي لقطاته بالحياة رغم قتامة جو الموت بفضل روح الهوام، وبخاصة الاصدقاء الثلاثة، وكأن الحياة هي الأكثر مقاومة وقدرة على الانتصار من الموت.

التحول الدرامي الاساسي ينصب على شخصية سلوى فقط وكأن ذكري / اسامة اتخذاها معبراً من عالم منير إلى عالم طبل، فالجنون الذي وسمت به أبيها قد اصابها فخطت بدورها خطوات نحو التمرد، فهي ترفض ابلاغ الشرطة حين سرق الاصدقاء الثلاثة جثة أبيها، بل تنبري في الدفاع عنهم “حتقولهم أيه؟ واحد خرج من صحابه”، وتؤكد سلوى تمردها “إحنا عملنا اللي علينا، بس طبل مش عايزنا، عايز صحابه”، ثم تضيف “عندي فكرة.. ما تخلي الصندوق للعيلة.. يمكن أي حد فيكم يموت على غفلة” وكأنها تعلن توبتها وتعتذر عن كل يوم انتمت فيه الى طبقتها.

اسامة فوزي كمخرج يثب خطوات وخطوات على المستوى التقني ليتعامل مع هذا النص / السيناريو. ونجد البلاغة البصرية في مشهد تغسيل طبل إذ تستعرض اللقطة الجسد في لقطة بواسطة الكرين، ثم تفاصيل الصور الفوتوغرافية بالابيض والاسود اسفل زجاج المائدة من خلال الماء والصابون المستخدم في الغسل، وكذلك لقطة النهاية حيث تندفع العربة في النفق المظلم، بينما ينقلب وضع الكاميرا على الكرين – وهي لقطة شديدة الصعوبة – لتصور السيارة في وضع مقلوب وتختفي العربة داخل الظلام، ويصاحبها ايقاعات فتحي سلامة في ثاني تجاربه مع موسيقى الافلام ولكنها تجربة شديدة النضج إذ تواءمت الموسيقى مع رؤية الفيلم وتمازجت مع الحدث ولم تصاحبه أو تعلق عليه.

البناء الصارم لسيناريو مصطفى ذكري يجعل من الصعوبة بمكان النفاذ عبر ثغرة هنا أو ثغرة هناك، فالسمة المميزة هي وحدة الاسلوب، وأي تفسير له ينبغي أن يكون تفسيراً جوانياً أي يخضع لمنطق الفيلم ولا يمكن تفسيره وفقاً لأي منطق آخر خارجه. وحوار ذكري أيضاً شديد التميز على مستوى بنائه الهندسي وعلى مستوى تفرد لغة شخصياته، وقدرته على تحقيق التجانس بين المتناقضات داخل المشهد الواحد.

التمثيل في “جنة الشياطين” أحد الملامح البارزة ويتميز بالاختلاف كباقي جوانب العمل، لم يكن من السهل على حميدة القيام بدور رجل ميت. ليس فقط لأن انفعالاته محدودة، بل لأنه يضرب كل قواعد النجومية عرض الحائط ويتحمس لتمثيل دور أحبه. عمرو واكد، ساري النجار، صلاح فهمي في أول تجاربهم للوقوف أمام الكاميرا أثبتوا ان في داخلهم طاقات تمثيلية ومهارات اكتسبوها من العمل في المسرح الجامعي، وورش الممثل العديد التي تدربوا فيها ومازال الطريق أمامهم بفضل موهبتهم، ووجوههم البكر المتفردة والتي لم تحرقها شاشة التلفزيون بعد.

كارولين خليل تلبست شخصية سلوى وقبضت على تفاصيل شخصيتها، وحافظت بحرفية على انفعالاتها ولم تنخرط في دوامة الاداء المبالغ.

منحة البطراوي، منحة زيتون، ماجد الكدواني، رأفت راجي، تامر حبيب، كمال سليمان، خالد صالح.. رغم محدودية مساحة أدوارهم إلا أن دقة اختيارهم من قبل أسامة فوزي وبراعة توجيههم واجتهادهم في رسم ملامح شخصياتهم امران يلفتان.

أما محمود حميدة كمنتج فإقدامه على هذه التجربة رغم صعوبتها ورغم كونها مغامرة يعكس مدى عشقه للسينما ومدى استعداده لأن يكون أحد صناع السينما المختلفة. فهو لم يبخل في تمويل هذا الشريط الصعب وأتاح له كل الإمكانات لأن يخرج بهذا المستوى التقني الراقي. لذا سيصبح الفيلم أحد علامات السينما البارزة، كما سيحفظ وينضم للقوائم التي تحوى أهم الافلام في العالم.

إن محمود حميدة وأسامة فوزي ومصطفى ذكري لا ينصب دورهم فحسب على الفكر والتفرد والتقنية، بل تنبع الاهمية من تمسكهم بتهمة ممارسة الفن السينمائي بشكله الحقيقي واستعدادهم لفعل أي شيء من أجل صنع شريط بجد. نعم.. في “جنة الشياطين” فعلها حميدة وأسامة وذكري.. فهل سيفعلها آخرون؟

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم