وحيد الطويلة.. واللعب بـ”حذاء فيلليني”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جابر طاحون

اسحب ذيلًا قصيرًا، فقد تجد في نهايته فيلًا”.

هذا ما يقوله فيلليني وما أتى به وحيد الطويلة كتصدير لروايته “حذاء فيلليني” قبل أن يبدأ حكي ما حدث بالضبط. يبدأ صانع “ألعاب الهوى” مستعيرًا حذاء فيلليني، ليبدأ لعبته الروائية في مغامرة سردية، برواية ما حدث بالضبط.

لا يحكي عن التعذيب، فمائة رواية كتبها كُتاب من بلاد شتى، ولم تُشف غليل أحد، ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب.

لا أحد يعرف ما حدث بالضبط. الأشياء السيئة تحدث، فقط حين تحدث لنا نكتشف أننا كنا موتى وانتهينا.

ليس على أحد أن ينتظر عدلا من أحد، حتى العدالة، عليه ألا يضع ثقته فيها.

بلاد لا تسع سوى القهرة والظلم، بلاد لا تتسع سوى للضباط والمخبرين والبرمجية والقوادين.. بالطبع هم لا يعذبون أحدًا، هم يعلمونهم كيف يحبون الوطن بطريقة رشيدة.

المعاناة تطول كل بعيد ومنسي، وفيلليني لم يخفْ جحيم دانتي، رغم كون الواقع يتعدى الحلم والكابوس.

فيلليني الذي يؤلف أفلامًا من رأسه دون ورق ولا مخطوط.. فيلليني هذا محظوظ، لو كان في بلادنا لسحلناه، ولك أن تسأل المخرجين في بلادنا، إنهم وطنيون، ولا يستطيع واحد منهم أن يطرح فكرة، مجرد فكرة من رأسه.. فيلليني سيد الاختلافات والاختلاقات، الستار الذي ينسل من ورائه وحيد الطويلة ليخوض مغامرته.

البحث عن حقائق الحياة أسهل من تذكر المشاعر.. لا أحد يملك الذكريات، بل الذكريات هي التي تملكه. انفتاح الذاكرة ومحاولة وإغفال حدث أو بتره.. فقدان الإرادة.. العاهة المستديمة في الروح.

مُطيع” أمام نفسه، بعد مواجهة طويلة وقاسية، في قبو، في وجه الجلاد.. هل يقضي عليه بطريقته، هل يجعله يدوق طعم الموت؟ أم لا يجب “أن نأتي بالسيء من الماضي لنضعه أمامنا”؟

مُطيع”، “مُطاع” فيما مضي، قبل أن يدخل قبوا لا يعرف كيف دخله، ولا كيف كان سيخرج منه.. قبو كان يجعل فكرة الحياة مستحيلة.

مُطيع” الذي خرج، بوجه آخر، على مقاس اسمه الجديد “بحواجب منتوفة بغل، لم تسترد عافيتها، وتهتهة خفيفة باللسان”، يستطيع فقط أن يخفيها حين يتحدث لمرضاه.

جلاده لم “يحسن نهايته، رغم أن جعبته، ممتلئة، لم يعرف التوقيت.. التوقيت مهم جدًا لللاعبين بمصائر البشر

ملامح الجلاد لا تكشفه في الغالب، لكن ملامح الجلاد المخصي واضحة للعميان.. امرأته بالطبع لم “تفكر في قتله، وإلا لما أتت به لطبيب. كان من الممكن أن تضع مسدسه بيده ليقتل نفسه. هي تريد أن تتفرج عليه كقرد في قفص”.

هو الذي أخذها من بيتها بعد امتحان البكالوريا، تاركًا أبوها مكسورًا.

ماذا يفعل “مُطيع”؟ يعالجه؟ يعذبه؟ كيف يهرب من القضبان الباردة وصوت القيد في الزنزانة؟ الذاكرة التي لا يملك سواها، تطارده الأصوات، كثيرة متشابهة، تختلط عليه ويجرها قيد ثقيل.

الزنزانة التي هو حبيسها.

القبو الذي لم يكن يقدر حتى أن يذرع مساحتها ذهابًا وإيابًا.. هل على الواحد أن يقتل حتى لا يُقتَل؟

عالم السجين، العالم المغلق.. لكل سجين حياته الخاصة قبل السجن، ويبقى الأمل الوحيد لحياة بعد السجن، العالم الداخلي للسجين، العالم المفتوح على الاحتمالات بكل ظلاله وقسوته. مدى مرارة مد جسر لصلة مع الآخرين، مرارة تواصل إنسان كان معزولًا عن العالم.

المرأة دومًا لغز محير، والمشكلة قد تكون ليس ما تخفيه، بل ما تظهره.. ليست المرأة كالرجل، حيلتها الأثيرة الصبر في انتظار المسرات والأحزان.. المرأة وحضورها جسدًا وروحًا، وجدلية العلاقة بين الجسد والروح، بين السطح والعمق.

الجسد الذي ربما قد يكون مفتاحًا، الجسد الذي يبدو بابًا لدخول عالم تارة، ومنفذ طوارئ للهروب تارة أخرى.

الإيروتيكية وحضورها الواضح، وعدم اقتصار فاعليتها على انتاج الشبقية، بل توزعت الفاعلية على الانكشاف الحسي والمعنوي في مفردات العالم الغائب والحاضر على السواء.. نوع من المواجهة الضمنية لظواهر الكبت المفروضة، أو محاولة للتغلب على سطوة الموت والهزيمة وذوبان الجسد.

الإيروتيكية التي تعلو فوق مبدأ اللذة المجردة ذاتها، سعيًا لامتصاص وجمع الخيوط، للخروج لحيز أوسع، أو ربما بحثًا عن المطلق، كون الجسد وعاء الروح.

لعبة الأسماء، واستعارة اسم فيلليني واللعب بحذائه.. مُطاع ومُطيع.. مأمون الذي كان لا يراه -على الأقل ليس في هذه الحياة- مأمونا، ومرارة اسمه، كيف يكون مأمونًا، وهو قد اعترف عليه؟ غياب اسم الجلاد، كدلالة إضافية لغياب سلطته وتمسيخه.

لعبة الأسماء وملاعبة الحقيقة والصدق بالإيهام، وتدخل الزمن في سرد دوامي لولبي، والشهادة على الحاضر بالماضي والماضي بالحاضر.

العذاب المباشر والمعاناة اليومية، وصورة الجلاد والقهر.. البعدان الرأسي والأفقي، للولوج إلى البؤرة التي يعاني منها الجميع.. المعاناة من القهر، دون إدعاء سلطة وسطوة المعرفة.

توصيف الشخصيات ومكانتها داخل الإطار المرسوم لها، والإحالة لأن تكون نموذجًا، ويتحول النموذج -الشخصية النموذج- إلى مفرد بصيغة الجمع، بنص تعبير “أدونيس”.

اللغة هاجس دائمًا، بكل ما تحمله من مضامين، وخصوصًا اللغة الروائية.. أية لغة أقدر على التعبير؟ أية لغة أبسط؟ أية لغة أنسب لكل شخصية؟ وهنا يمكن وصف اللغة بالساحرة، اللغة الخفيفة، يمكن وصف اللغة بالوسطى والوسيطة. الوسطى، بتفصيح العامية واستخدام ألفاظ سهلة، والوسيطة، كونها وسيطا بين الشخصية ومدلولها.

ميل السرد إلى توثيق كثير من منتجاته الحكائية، والحدثية، والتوافق بين الشخصية وملفوظها.. الشعرية المتسللة خفية داخل السرد.. السرد المتراوح بين البنية الصوتية والبنية التصويرية.. البنية التصويرية والكتابة السينمائية بامتياز.. سينمائية حضور فيلليني.

التنوع في استخدام الضمائر: المتكلم لجعل الخطاب ذاتيًا، والغائب لجعله موضوعيًا، وعدم اللجوء الصِرف للراوي العليم، لترك الحكاية تنمو.

تطويع البناء، لإغواء التحول. التهكم على سطوة السلطة ومحاولة الغوص في حفرياتها.

ثيمة القهر بعيدًا عن التشنج الأيدلوجي. الانسلاخ من الفرض الروائي كإطار، لمتابعة حدث أو مجموعة أحداث بعينها، والميل لمجموعة من الخطابات التي تتوازى حينًا وتتقاطع حينًا.

كتابة ليست بمجرد كتابة للمواجهة، مواجهة تاريخ القمع، وإنما محاولة أكبر للانسجام معه، لتفنيده، وتجاوزه من دون تعسف، أو الانجرار لمزيد من القهر والعنف واللامعقول، والوصول لصيغة تساعد على ذلك.

حذاء فيلليني”، متواليات حكائية، تسأل ولا تجيب، تجيب دون سؤال، البعد عن الحسم والخجل من التحريض.. نص روائي إشكالي بامتياز؛ تتخلى فيه الكتابة عن قناعها وتصبح مكاشفةً وفضحًا.

وحيد الطويلة، لا يكتب أدبًا محافظًا.. يكتب أدبا (مهاريا) كما يليق بلاعب محترف، أو بـ(صنايعي) قد تشرب مهنته وخبرها (صنعة الرواية) لاعبًا بحذاء فيلليني.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم