وحيد الطويلة في أحمر خفيف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صلاح فضل

‏وحيد الطويلة كاتب روائي متميز‏,‏ يعمل في جامعة الدول العربية‏,‏ ويعيش في تونس منذ عدة أعوام‏,‏ لكنه يستحضر من هناك روح قريته الأم‏,‏ الرابضة في أراضي الدلتا‏,‏ ليعزف على ايقاعها منظومة من الحكايات الريفية الموجعة‏,‏ تتعايش فيها الأحلام والاساطير‏,‏ وتتخللها المواقف الطريفة المسنونة‏,‏ لنماذج بشرية عجيبة‏,‏ اختمرت وتضخمت في مخيلة مغترب منقوع في الشجن‏,‏ يستحضر الوطن من براثن الفانتازيا في مبالغات مدهشة‏.‏

هكذا نجد روايته الجديدة أحمر خفيف وهي تجترح طرافتها المميزة في العنوان والمطلع والختام وكل الصفحات‏,‏ إذ تسجل في الورقة الأخيرة المقاهي التي كتبت عليها ابتداء من مقهى السقيفة بتونس‏,‏ لصاحبته نجوي‏,‏ التي تعلق غلاف رواية ألعاب الهوي ـ وهي عمله السابق ـ على الحائط و تحكي للزبائن كل ليلة أحد ـ أي في سهرة الاسبوع ـ عن المصراوي الذي كتبها‏ ، وكأن كاتبنا بهذا التفصيل الزخرفي الموشى يحاكي الفنانين التشكيليين‏,‏ وهم يرسمون في ذيل لوحاتهم بورتريها مصغرا لهم‏.‏

يورد المؤلف عقب ذلك اسماء المقاهي السبعة التي شهدت مولد روايته في تونس وقطر‏,‏ المفارقة البارزة في هذا المشهد ان هذا النوع من الكتابة علي وجه التحديد من العسير ان نتخيله وهو يتخلق وسط الضجيج وحضور الآخرين في المقاهي‏,‏ فهو استقطار لعطر الماضي‏,‏ واعتصار لثمالة الذاكرة‏,‏ وتعتيق لعوالم الواقع المتوهم إنه كتابة سردية مغايرة للمألوف‏,‏ تحكي عن أشخاص وأحداث مغلفة بالأسطورة ومشبعة برذاذ الشعر‏,‏ لنعد الى مطلع الرواية الذي يمثل مشهد احتضار طويل‏,‏ يمتد عبر النص بأكمله‏,‏ فيجعل من البطل كائنا خرافيا عجيبا شهور تمر ومحروس كأنما اختار المستشفى مقرا أخيرا‏,‏ بيتا ومقبرة‏,‏ لا يزيد ولا ينقص‏,‏ المحاليل معلقة‏,‏ الخيوط مفتوحة يبن جسده والحياة‏,‏ واصلة بين روحه والموت‏,‏ والقرية تركت حالها ومالها ونفرت اليه‏..‏ شهور يدعون له‏,‏ كبير البلد‏,‏ حبيبها وحاميها‏,‏ والكبير لا يهان حتى ولو من موت‏,‏ نشف الزرع والبهائم علي وشك الهلاك‏,‏ تعطلت مصالح الخلق‏,‏ والدعوات ترفع في الصلوات وخطب الجمعة‏,‏ الدعوات التي كانت تصله بالشفاء صارت تكال له بالراحة والرحمة‏.‏ وأهل القرية علي قدم وساق‏,‏ مأزومون كثور يدور بعيون مفتوحة في ساقية‏,‏ كغريق يتعلق بعود قش.

ودعك من ابنته إنصاف وهي تناجيه وتطارحه العزيمة كي يطرد ملاك الموت‏,‏ والطبيب الذي حار في ذلك الكيان الأسطوري الخارق لقوانين العلم في مقاومته للموت واحتضاره الذي يجعل من حياة القرية مجرد هامش على صفحة الوجود بدونه‏.‏

البلاغة القروية:

تتوالي إثر ذلك فصول مروية علي لسان الراوي العليم‏,‏ لكنه لا يوظف صيغة الغائب‏.‏ بل يعمد الى خطاب القارئ وكأنه يريد أن يضفي مسحة ملحمية على القص‏,‏ فصول دموية ممعنة في عنفها‏,‏ لإخوة يحترقون‏,‏ ورجال جبارين يحترفون القتل والسرقة واللعب بالحياة‏,‏ وفصول أخري غزلية تطفح بالشبق‏,‏ وتحفل بالاشارات الجنسية الفاضحة للرجال والنساء‏,‏ للزيجات والاشواق والاهواء‏,‏ في فضاء بعيد المرمي‏,‏ شاحب الملامح‏,‏ تتردد فيه اصدقاء الاسماء‏,‏ والصفات ذاتها‏,‏ مثلا فرج الاسود الذي يبرر لونه بأطرف قصة عن جدينا سام وحام‏,‏ وكيف ان كلا منهما ـ في زعمه ـ قد هطل عليه المطر وهو يمضي في الطريق يحمل نسخته المخطوطة من المصحف الشريف‏,‏ أما حام فقد خبأها في طيات ثيابه فنجا بلونه الابيض‏,‏ لكن سام فقد صوابه‏,‏ ووضع المصحف علي رأسه يحتمي به من المطر‏,‏ سال الحبر على وجهه وجسده‏,‏ ومن يومها وقد دمغ السواد بشرته وذريته الي الأبد‏.‏

تتوالي النماذج والحالات العجائبية الاخري‏,‏ مثل عزت حركات أو الدكتور عزت الذي لا يشبع من معشوقاته الحقيقيات والوهميات‏,‏ كان مولعا على وجه الخصوص بالممرضات وقد خلعن عليه لقب الطبيب دون أي دراسة او شهادة ـ لكنه لا يرتدع‏,‏ وحتى إن شبع تتقلب بطنه فجأة‏,‏ يشعر بزوجته دودة تلعب في بطنه‏,‏ وان خبأ,‏ وحتى ان تنقل‏,‏ ينتقل سريعا من وردة لأخرى‏,‏ عزت برق لمع‏,‏ يقطع الوعود والوفاء لأخريات‏,‏ وعيادات الاطباء اكثر من الهم علي القلب‏,‏ وهن غادرنه‏,‏ إن كن موجودات أصلا‏,‏ رغم كثرة الصور ونفحات الجبن القديم والعسل

ولا تقتصر الفتنة على الرجال‏,‏ فهذه غزلان أرملة طروب علي الطريقة القروية‏,‏ … وجهها الحليب راح ينشف منذ وفاة زوجها حبيبها‏,‏ زوجها عشيقها‏,‏ رفعت الطرحة الشبكية أعلى فمها‏,‏ فتركزت الاضواء علي العيون والحاجبين والمناخير النبقة‏,‏ وتركت لفمها أن يعلن اكتمل البدر حتى ترخي الطرحة لأسفل‏..‏ بعود ملفوف لا تتغنج قاصدة‏,‏ لكن اشياءها تكاد تنفرط منها في كل اتجاه فتخلب لب الرجال.

بيد أن ابرز ملامح هذه الكتابة السردية أنها توغل في مسارين متوازيين على ما بينهما من مفارقة واضحة‏,‏ اولهما صناعة النماذج البشرية وأسطرتها وتحويلها الى رموز تجاوز دلالتها المباشرة في كثير من الاحيان‏,‏ فمحروس يكاد يطير من غرفة الانعاش الى أفق الزعامة‏,‏ وفرج الاسود المصاب بالجذام يرمز لليل‏,‏ وعزت علامة الشطارة والجسارة‏,‏ اما المسار الموازي فهو هذا الاسلوب البليغ نصف الشعري‏,‏ بجمله المكثفة‏,‏ وعباراته المجازية‏,‏ ومطالعه المأثورة وسطوره المنقوصة‏,‏ مما يطرح مساحة كافية للدهشة من تجاور هذين المسارين وما يشفان عنه‏,‏ عالم القرية الموغل في عاميته‏,‏ وعالم الصور التعبيرية المسرف في فصاحته‏,‏ وتظل متعة التراسل بين هذين الطرفين منبعا ثرا للشعور بالطرافة التي لا تصل الى الفكاهة‏,‏ والمتعة التي تنبثق من الفن الطازج الجميل‏.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم