همس النجوم.. مازال لدى محفوظ الكثير ليقوله لنا

موقع الكتابة الثقافي art 8
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كريم محسن

وكأنها التحية الأخيرة، لكن قدومها متأخرة في النهاية، لا يعني أبداً ضعف بنيانها أو رَداءة جودتها. نجيب محفوظ هنا عملاق كما اعتدناه، يرسل إلينا رسائل مشفرة في ثماني عشرة قصة بديعة، يخبرنا من خلالها أن موته لا يعني النهاية، لكنه خالد وباقٍ في الوجدان، بالإبداع والكتابة العذبة، العابرة للأزمان.

يخطفنا محفوظ إلى عالمه من جديد، يضعنا في قلب الحارة ثم يأخذنا في رحلات بين الواقعية والفانتازيا، يعزف لنا موسيقى تتسرب عبر الكلمات، ويغني لنا في صفحات قليلة، حكايات جديدة عن أهل حارتنا.

في قصة “نبقة في الحصن القديم”، يحكي محفوظ عن نبقة، المتمرد على الزاوية وإمامها، الجريء المغامر، الذي يواجه أهل الحارة بعيوبهم بدون خوف. بعد موت أبويه، وبلوغه العاشرة، رحل نبقة في زيارة للمجهول، وعاد بقوة ومعرفة، يواجه بهما محاولات شيخ الحارة لجعله ينصاع لسلطة القانون، ورغبة الإمام في عودته للزاوية مرة أخرى. يرفض نبقة العودة إلى الزاوية والانفصال عن العالم، ويصيح في الإمام بدون خوف: “عُد، أنت، إلى زاويتك، أما أنا، فلا زاوية لي”.

ينبض النص المحفوظي بالحياة، يرفض الأركان والزوايا، ويمرر لنا الحب والمرح، ويؤكد بكل الطرق على أهمية الفن كنوع من الخلاص الأرضي، خلاص من قاتلي الحياة وكارهيها. لا يقدم لنا محفوظ دروسا أخلاقية، ليس وظيفة الأدب توجيه سلوكنا، إنما البحث عن الحياة والكشف عنها في تسترها الدائم، خلقها ورسم خطوط جديدة من خلال كتابة تنضح بالتعددية والتنوع.

ها هم أهل حارتنا في قصة “نصيبك في الحياة” قد سيطرت عليهم ظاهرة غريبة، الكل يبكي بدون سبب، من الفطاطري إلى ست أم على والخفير، ماذا أصاب أهل حارتنا؟

بسط الحزن جناحيه على حارتنا فحجب السماء والنور، وإذا بالأمر يتصاعد إلى مفتش الصحة المتعالي عن الأوضاع، فيهبط من منزلته ليتفقد أوضاع أهل حارتنا، وإذ به يصاب بعدوى البكاء، حتى يقترح حسن الآلاتي صاحب بيت الغناء والطرب، أن يأخذ المفتش معه إلى البيت ليستريح، وتنتهي القصة بالمفتش وهو يرقص على إيقاع النغم والطبل ناسيا البكاء والهم، وتحيط به ضحكات أهل الحارة.

هكذا يقدم لنا محفوظ الحياة، نغمة لا تتوقف، علينا فقط الإنصات جيدا لها حتى نستطيع التقاطها من وسط التشويش والضجيج.

“ولا أنسى يوم سألت صديقا من أهل العمر والخبرة: ” ما هذا الذي يجري تحت أعيننا؟”.

فأجابني الرجل بأسى “الظاهر أن الأزمنة التي تمر بالناس تمرض وتموت مثل بقية المخلوقات”.  

-من قصة “السهم”، مجموعة همس النجوم/نجيب محفوظ.

يرسل لنا محفوظ إشارة حتى نلتفت للماضي، ونبحث في جعبة التاريخ عن حل للفترة السوداء التي تمر بها حارتنا، ومن خلال قصة السهم، يشير محفوظ للحصن القديم القائم فوق القبو، المهمل، رغم أن فيه طوق النجاة. أنطلق من الحصن القديم سهم وخلص الحارة من المعلم بركات، فهل يعجز عن تخليصها من بؤسها؟

دائما نجد محفوظ مولعا بمفارقات الحياة وتناقضاتها، ولم تغب تلك السمة عن قصص المجموعة، فنجد مثلا في قصة ” شيخون”، شاب عاد بعد غياب، يدعي الحكمة والاتصال بالغيب، ويَعد الحارة بالمستحيل، حتى يقبض عليه في نهاية القصة لهروبه من مستشفى المجانين.

يستمر محفوظ في اللعب معنا بخفته المعتادة ولغته الأصيلة المزخرفة، ويتطرق أحيانا لمواضيع طرحها سابقا، مثل غياب العدل والبحث عن معناه، لكنه يُلبس أفكاره حلة جديدة، فتكتسب معاني متعددة. فنجد ذكية في قصة “مطاردة”، تعود إلى الحارة بعد غياب عام، وعلى يدها طفل، وتبدأ في مطاردة المعلم عثمان بفعلته وتهربه من تحمل مسئولية الطفل، حتى ينصاع لرغبتها. وفي قصة “ابن الحارة” يعود أيضا إلى تيمة العدل الضائع، غير المتحقق.

تحمل أغلب قصص المجموعة بعض العناصر المشتركة، أهمها الحصن القديم القائم فوق القبو، نجده يتكرر معنا باعتباره رمزية مكثفة داخل النص، في قصص مثل “نبقة في الحصن القديم” و”ابن الحارة” و”السهم” وغيرها. وطبعا لا تغيب عن القصص عناصر العالم المحفوظي، مثل الشيوخ والفتوات والأولياء.

مع اقتراب عيد ميلاد أديب نوبل، صدرت مجموعة “همس النجوم” عن دار الساقي، ثماني عشرة قصة تنشر للمرة الأولى في كتاب، تبدأ المجموعة بمقدمة للصحفي محمد شعير، وتنتهي بمخطوطات لبعض قصص المجموعة، كتبها محفوظ بخط يده، وفي المنتصف تتدفق الموسيقى المحفوظية .

 

 

 

مقالات من نفس القسم