هلوسات الضحية أمام جلاده برواية “حذاء فيلليني”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كمال الرياحي

ظل التعذيب موضوعا صعبا في أدب السجون والمعتقلات غربا وشرقا، كما ظل يعيش غالبا في مدونة ضعيفة أدبيا باستثناءات قليلة دفعت به إلى مناطق سردية ممتعة، وفي هذا الحقل الجدلي من الأدب تتنزل رواية “حذاء فيلليني” للروائي المصري وحيد الطويلة الصادرة حديثا عن دار المتوسط.

ويرجع ضعف هذا الصنف الروائي في وجه من وجوهه إلى كون تلك الكتابات في الأغلب سيرا أو مقاطع من سير أصحابها، وأغلبهم لم يكونوا مبدعين، لكن مؤسسة الأدب الرؤوفة تقبل بوجودهم داخلها وتتحول إلى ملاجئ لهم في ما يشبه التكفير عن ذنب لم تقترفه، أو نتيجة فراغات تسبب فيها ندرة هذا النوع من الكتابة، إلى جانب ما يشعر به عدد من حكام الأدب في فهمهم للأدب نفسه باعتباره منوطا بمسؤوليات أخرى غير الانتظارات الجمالية، كالدفاع عن قضايا الإنسان الكبرى تحت راية الأدب الملتزم.

وتروي “حذاء فيلليني” حكاية مطاع، وهو معالج نفسي تعرض للتعذيب في المعتقل من دون تهم جادة، ليجد نفسه بعد سنوات وجها لوجه مع جلاده، حيث تزوره في عيادته زوجة الجلاد العجوز وتخبره أنه كان يعذبها طوال فترة زواجهما التي دامت أكثر من عشرين سنة، وتحرضه على تعذيبه لكي تنتقم مما فعله بها.

يجد المعالج نفسه أمام فرصة للانتقام من الوحش الذي دمره جسديا ونفسيا وجعله يقضي بقية حياته في ملاحقة الكوابيس، في مقابل صوت آخر داخله يدفعه إلى المسامحة كي لا يتحول إلى وحش مثله.

وهكذا يبدأ المأزق ويتصعد بين جسدين جريحين، جسد الجلاد الطاغية العاجز، وجسد الضحية الذي استعاد عافيته لكن ذكريات التعذيب تثقل كاهله، أما صوت العقل الذي يظهر متأخرا فيرفع قناع الضمير وإكراهات مهنة الطبيب النفسي، حيث يقول الراوي “مهما استبد بي الانتقام أو غلبتني شهوة النصر فلا ينبغي أن أراه إلا مريضا يستحق العلاج ولو لم يستحق الرحمة”.

 

صورة الجلاد

تقدم الرواية بالتفصيل سيرة الجلاد وتفننه في إيذاء الآخرين بدافع الدفاع عن السيد الرئيس الطاغية، وتضع القارئ أمام صورة بشعة لوحش تخلص تماما من كل ما يربطه بالآدمية في تلذذه بتعذيب ضحيته، حيث يستدعي الكاتب كل فنون التعذيب التي ازدحمت بها موسوعات التعذيب والاعتقال لتتجسد في هذا الضابط، فبعد انتهائه من تعذيب المعتقلين يعود إلى بيته ليحول زوجته بدورها إلى ميدان آخر للاضطهاد الجنسي.

انشغل صاحب رواية “ألعاب الهوى” بتقديم صورة المعتقل الاستثنائي عن السجن العادي، فنحن أمام تجربة اعتقال في سراديب أمن الدولة، حيث يقترن الاعتقال بقبو التعذيب، ويصبح خبر إلحاق المعتقل بالسجن في حجم الإفراج.

ففي القبو يركل المعتقل بالأحذية العسكرية ويهشم أنفه وفكه وينتف حاجباه ويغلف رأسه بالبلاستيك حتى يشارف على الاختناق، ثم يدفع إلى الثلاجة ليتجمد، ويؤمر يوميا بكتابة سيرة حياته بالتفصيل للاعتراف بأشياء مضحكة ولا عقلانية.

تقدم هذه الصورة نموذجا لمعتقلات الأنظمة الشمولية العربية، ولولا الإشارة الطفيفة للنظام السوري وإطلاق اسم “فيلليني الشام” على البطل لأصبحت الرواية كونية المعالم، وربما لذلك أشار الروائي إلى صدام حسين ومعمر القذافي، خاصة أنه كان يتحرك في فضاء أيديولوجي خاص يشير إلى التيار القومي ودكتاتوريته بشقيه البعثي والناصري.

 

رؤية سينمائية

وتذكرنا الرواية بفيلم “البريء” لأحمد زكي ومناخاته، كما يذكرنا الضابط المتوحش بدور الممثل محمود عبد العزيز مع فوارق في الحياة الخاصة التي تتطابق بالرواية وتتنافر في الفيلم.

ويمكن القول إن رواية “حذاء فيلليني” هي عمل ضد العسكر أولا، ورواية تأملية في الجسد والتعذيب والحب والحقد ثانيا، وذلك من خلال منظور معالج نفسي أمّن بدوره الطريق لتكون رواية نفسية خالصة تعكس هلوسات الأنا الجريحة أمام فرصة الانتقام من الجلاد في مقابل سلطة الأنا الأعلى بضمائره المهنية والإنسانية.

ويستعين صاحب رواية “باب الليل” بعالم السينما تقنية ومناخا فيدفعها إلى منطقة آمنة من التجريب الفني لا يعرقل القراءة ويحافظ على تدفق السرد حرا، ليبقى فيلليني بتاريخه الفني والأيديولوجي أيقونة ذكية تظهر وتختفي، وذريعة فنية متميزة لتقليب مواضيع شتى داخل تيمة سوداء خانقة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم