هدوء القتلة : خيوط حريرية بين الخيال والواقع

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد اللطيف

يراهن الروائي طارق إمام في روايته الأخيرة " هدوء القتلة" ( التي صدرت طبعتها الثانية ) علي أن يصنع من حبات الرمل المتناثرة جبلاً متماسكاً ، تظل كل حبة فيه تسند الحبة الأخري حتي يتم التشييد فتتضح ملامحه . ففكرة روايته ، علي حداثتها ، لا تستطيح وحدها أن تنشيئ عالما روائيا رحب الأفق ، إلا أن التفاصيل الصغيرة والحكاوي القصيرة أقامت هذا العالم .

يقوم العمل علي هذه المفارقة في الذات الإنسانية التي تكتب الشعر بيد وتقتل بالأخري ، ويبدأ هذا الصراع مع العنوان نفسه ، حيث أن الهدوء لا يعرف طريقه إلي قلب القاتل إلا إذا كان من هؤلاء الذين يقتلون علي عقيدة راسخة . إذن فقد بدأ السرد مبكراً ، ورحلة الغوص في النفس البشرية بدأت من العنوان ، الذي دعمه الغلاف الذي عكس روح العمل بصور قليلة : دمية صغيرة تعبر عن البراءة ، صورة جانبية لرجل باللون الأبيض والأسود ، والخلفية لرجل يرتدي جاكيت مفتوح لمنتصفه . وكلها صور تستطيع أن تراود القاريء أثناء قراءة النص ، للبطل نفسه .

تبدأ ” هدوء القتلة ” بتسليط الضوء علي المكان ، مدينة القاهرة ، التي يصفها بأن أحدا لا يعرف حقيقتها سوي القتلة ، فهُم من يدركون مدي صغرها ، وسريعا ما ينتقل لتاريخ الدماء فيها . هذه المدينة يشاهدها البطل ، الأن ، من خلال شرفة في الطابق الثالث والعشرين . وهنا نلاحظ أن الرواية تبدأ بصوت البطل ، الذي يستمر في الحكاية علي طول العمل ليكون الراوي العالم بكل شيئ ، من أحداث وشخصيات وأبعاد نفسية ، ورؤي يعبر عنها فتكتسي بثوب المتأمل . وربما يصلح الفصل الأول كمقدمة لما تدور حوله الأحداث فيما بعد ، حيث لعب دور المرجعية بالنسبة للقاتل . ففي هذا الفصل يحكي لنا عن الناسك الحليق ، ويرسمه لنا بتفاصيله ” حليقا بما يليق برجل رأي الله كثيرا في مناماته وعرف أقصر الطرق لتجنبه . في أذنه اليسري قرط معدني علي هيئة ثعبان مجنح يتدلي علي كتفه ، ومكان أذنه اليسري … ثبت قماشة ” . وانتقل لوصف المكان الذي عاش فيه ناسكه ، حيث ” الفئران تتقافز في حجره ، تلتهم فتات الخبز الذي تبقي من طعامه ، وبيده المقدسة تعود أن يملس علي فرائها المنحولة …” . وبالاضافة للفئران التي ترافقه ، نجد النمل والسحالي ، كما تدخل النسور لتنذر بموت قادم أو لتنبه بجثمان فاحت رائحته . ولعل أهم ما في حياة هذا الناسك هو هذا ” المجلد الضخم : تاريخ غرامه السري ” ، القادر علي إسالة دموعه أو بث القوة فيه من جديد ليستعيد هيئة الديكتاتور القديم الذي كانه . وهذا المجلد الضخم ، الذي لعب دور البطل المختبيء علي طول الرواية ، هو مخطوطه الدموي المقدس ” الذي ظنه ذات يوم سريا ” ، والذي تركه الناسك لنسله المنتشرين في أرجاء المدينة ، و هم من صاروا من بعده ، مثله ، ” قتلة متوحدون ، ” غارقون في منامات خطرة ، لايرون وجه الله سوي بعيون مغلقة ” . وهنا يأتي صوت السارد ليؤكد أنه ” واحد من هؤلاء ” .

ويعتبر هذا الفصل التأسيسي أقوي فصول الرواية من حيث الوصف ، كما أنه امتاز بقدرة عالية علي التحليق في عالم ساحر ، لم يلامس خلاله الأرض حتي نهايته .

في الفصول التالية يهبط السارد من سمائه ليقترب أكثر من شخصياته ويسلط الضوء علي تفاصيلهم . ” ليل ” الاسكافي ، ” جابر ” ذو الساق الصناعية ، والعلاقة المتوترة بينهما ، التي يطل عليها السارد ـ البطل ، بعين المراقب . ويركز الضوء أكثر علي شخصية تشبهه ، حيث ليل ” قرر كثيرا أن يقتل جابر ” ، بيته ” ليس سوي غرفة في قلب المقابر ” له قدمان ” واحدة غائصة في الحصي والأخري معزولة في فردة حذاء عالية الكعب ” ” ليل سفك دماء كثيرة قبل ذلك ” ، ولأن الاول قاتل فهو يعرف جيدا كيف تكون يد القاتل الأصيل ” إنها تشبه يد العازف ، أناملها مخنثة ، أطرافها ناحلة ووردية ” ، ولأن البطل يعاني من انفصام في شخصيته يبدأ في مقارنة يده القاتلة بيده الشاعرة ” رغم التشابه الرهيب بينهما إلا أن الثانية تبقي آمنة ، لأنها بينما تستحضر لحظات زائلة ، تكون الأولي بالتزامن منهمكة في اخلاص في تأكيد حيوات مبتورة ” .

وبداية من هنا ينتقل للحديث عن ذاته المتناقضة ، بواقعية خالصة . يبلغ الثلاثين عاما ، يده اليمني ، القاتلة ، تستريح في قفاز قطيفي داكن ، أما الأخري ، التي تكتب القصائد ، فهي عارية وملوثة بالأحبار ، موظف في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء ، ولمزيد من الواقعية ” عندما أموت… لن ادفن هنا . سيعودون بجثماني إلي بلدتي : مقبرتي الأصلية ….ربما يعيدونني إلي المصحة ، وأهرب كالعادة … ” ، هنا ، في هذه الجملة الأخيرة ، يكمن أحد مفاتيح النص التي أبرزها الكاتب فجأة ومر عليها سريعا ، وبهذا يتضح لنا البعد النفسي للبطل : اعتاد الهروب من المصحة ( النفسية) ويقوم بالقتل بناء علي عقيدة زائفة . ولعل هذه الجملة ، السريعة البسيطة ، قد أعطت للنص منطقية لكل ما يحدث ، وجعلته ممكن التصديق ، وربطت التحليق في السماء والانغماس في المقابر بخيط حريري ، خاصة أنها جاءت بعد وقوع حوادث قتل ، ومتزامنة مع قتل احد الأبطال ( ليل ) . يحكي لنا السارد أيضا تفاصيلا متعلقة بقتل شخصياته : جابر ، المصور ، سلمي ، بائعة الورد ، بائعة اللبن ، تكرار قتل سلمي وبنفس الطريقة ، ليل … والحكاية التي تربطه بكل منهم . وخلف كل حكاية تبرز النظرة الفلسفية للأمور ، وأحاسيس الشاعر الرقيقة .

تتميز الرواية بالحكايات المرتبطة بالمجمل ، والقدرة علي وصف أحاسيس مختلفة لأناس مختلفين ، مثل ” سرب الرجال علي الكراسي المتحركة ” ” المانيكانات ” ، وقصص البطل مع قاتليه ، وأخيرا مع هناء . كما انها تدور في عالم يتراوح بين الواقع والخيال ، لعبت فيه اللغة ، بالمفردات الخاصة للروائي ، دورا كبيرا لصب المتعة في ذهن القاريء . وربما تكون القصص القصيرة هي ابرز ما في الرواية ، حيث اعطتها بعدا فلسفيا وصبت علي الراوي نفسه قدسية خاصة ، تلائم المهمة التي يؤديها ، والمقدسة من وجهة نظره .

ولم تكن الرواية في حاجة لشخصيات أخري ، ولا لتفاصيل أكثر للأحداث المروية ، لكنها كانت في حاجة لحكاوي مرتبطة بالشخصيات التي ساندت البطل ـ الراوي ، لتزداد متعة القاريء بخيال الراوي المحلّق ، وحكاويه ، التي بلا شك كانت ممتعة .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم