نجع حمادي.. مدينة الغرباء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 68
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبد الموجود

يقول رسول حمزاتوف: “من أين ينبع الأحمر؟ من الأسود ينبع، فمن قديم الأزل تسيل الدماء، بسبب الأفعال السوداء“.

نجع حمادى مدينة صناعية بامتياز. فى الأربعينيات لم يكن لها شكل محدد، وإنما كانت مساحات خضراء، فى الأغلب زراعات قصب، وذرة، وليمون، وكانت معظم الأراضى تابعة للبرنس يوسف كمال..الرجل المتعلّم، الذى ترك قصراً مهيباً تم ضمّه مؤخراً إلى الآثار، ولكن بعد فوات الأوان، فعدد من الجهات كان قد أخذ نصيبه من القصر. نادى الزراعيين حصل على الأشجار النادرة التى تعب فى جمعها بقصره، بالإضافة إلى الجرار البديعة التى تبدو أقرب فى هيئتها إلى بيضة الرّخ الأسطورية كما كان يتم تصويرها فى القصص المصوّرة، وهو أيضاً ما فعلته نقابة المعلمين، وكان عدد من موظفى جهة حكومية يستخدمون غرف القصر، ويركنون دراجاتهم على زجاجه الملوّن، ويقومون بحشر سخان الشاى فى تجويف بأحد حوائطه الخشبية

بعد إنشاء شركة السكر نزح الكثيرون من أبناء المحافظات الأخرى، من الجنوب والشمال، للعمل بها. استقروا بالمدينة، وانصهروا مع أبناء القرى المحيطة الذين وفدوا بدورهم بحثاً عن فرصة جيدة للعمل والحياة. لهذا السبب فإنّ هذه المدينة لا تملك سكاناً أصليين، ولهذا السبب أيضاً فإن هؤلاء السكان يملكون بشرة فاتحة ولساناً يتحدّث لهجة معتدلة لا تشبه اللهجة الصعيدية التى تظهر فى أعمال الدراما.

كان أبى من الأشخاص الذين فكّروا فى هجرة قراهم إلى المدينة ليكون أقرب إلى عمله، ولاعتقاده أنّ هذا هو السبيل لتعليمنا، كان الهاجس المسيطر عليه، أنّ معظم أبناء القرية يتركون تعليمهم لأسباب مختلفة فى منتصفه، وأنّ بقاءنا بقرية “القناوية” قد يُنهى تعليمنا.

فى نجع حمادى بدأ وعيى يتفتّح على الوجوه المتباينة، الموظفون الأفندية الذين يرتدون بناطيل وقمصاناً، رجال الجلاليب، السيدات المحجبات والمنقّبات، واللواتى يرتدين “البردة” (غطاء أسود يلف الجسد بالكامل ولا تظهر منه سوى عينى المرأة) السيّدات السافرات. كانت رؤية السافرات فى البداية تشكّل صدمة لى ولإخوتى، كيف تسير الفتاة بدون غطاء للرأس؟! كيف ترتدى “جيب” تكشف ساقيها؟! عرفت أنّ السافرة لا بد أن تكون قبطية فى الأغلب، ولكننى تعلّمت بمرور الوقت أنّ السفور لا يعنى أنّ أخلاقهن سيئة.

القبطية فى منتهى الالتزام، إنها تعرف ما تفعله جيداً، تخرج لشراء شىء من السوق، أو تذهب إلى الكوافير، أو العمل، أو الكنيسة، لا تنظر فى الوجوه وإنما إلى نقطة أمامها. فى مجتمع آخر كان يمكن أن تتصرّف بحرية أكبر، ولكن الإرث الثقيل، والكلام الذى لا بد أن يكون قد وصلها يجعل فكرة الاستقامة تُسيطر عليها، لن تدع فرصة تحدث للاحتكاك، وهى لا تقل أبداً فى التزامها عن المرأة التى تُخفى جسدها بأسوار القماش!

ومع التباين الذى يسم المدينة ديموغرافياً، كان هناك تباين فى النظرة إلى الأقباط، فهناك معتدلون، ومنهم أبى، كانوا ينظرون إليهم باعتبارهم إخواناً وجيراناً. لم يعترض أبى مرّة على فكرة أن أقرب أصدقائى مسيحيون، ميخائيل نعيم سامى فى الثانوية، وفيما بعد الأديبان إسحق روحى الفرشوطى، ونبيل بقطر بشارة. كنت أزورهما باستمرار فى بيتيهما بفرشوط، وكانا يأتيان إلىّ فى نجع حمادى، ولم أشعر مرّة أنهما يعاملاننى باعتبارى من دين آخر. أنا أيضاً لم أشعر بمسيحيتهما، وكنت أحب اللوحات التى يعلّقانها لمار جرجس وهو يقتل الوحش، والعذراء وهى تحمل السيد المسيح، وغيرهما.

سيظل نبيل مع عائلته هناك، غير أنّ إسحق سيسبقنى إلى القاهرة للعمل بالصحافة، ويظل والده فى فرشوط لمتابعة نشاطه التجارى. كان واحداً من أكبر تجار فرشوط، غير أن أقباطاً كثيرين جاءوا من فرشوط واستقرّوا بنجع حمادى، وأيضاً من قرية بهجورة الأقرب، مسقط رأس الفنان جورج البهجورى، القرية التى تشتهر بصناعة الملوحة (الفسيخ). لا تحتاج نجع حمادى إلى تمهيد لمعايشة أجوائها، لن تشعر أنك غريب، فالكل غرباء فيها، ويشعرون أنّ استمرارهم مؤقت.

وهناك المتشددون الذين يوصون أبناءهم بعدم اللعب مع الأقباط، وعدم دخول بيوتهم، وفيما يتعلّق بهذا لن تعدم إكليشيهات وإشاعات تتعلّق بالأقباط، منها أن رائحة السمك تُسيطر على منازلهم، وأكلهم لحم الخنزير (المورتاديلا)، وعدم غيرتهم على إناثهم من منطلق أن الخنزير لا يغار على أنثاه. والأسد الذى يخبئونه بالكنيسة لإطعامه أىّ مسلم يدخل بقدميه إليها. القبطى صاحب حصّة الأسد من الإشاعات فى الصعيد. أبناء المتشددين يلعبون لعبة غريبة جداً. أحدهم يختطف أى شىء من الأرض، عود ثقاب، ورقة صغيرة، حصاة، ويجرى بها ناحية آخر، وقبل أن ينتبه يضع ما يمسكه على رأسه ويصيح: “اللى عليه أشارة..خدّام النصارى”. والجملة لا تحتاج إلى ترجمة، ولكن وضع الهمزة أعلى الألف على كلمة “الإشارة” له علاقة باللهجة الصعيدية. هؤلاء الأبناء يسخرون فى أحاديثهم أيضاً من أولاد الأقباط الذين ينادون على قسيس يعبر الشارع باحترام شديد: “يا أبونا” فيقف ويقبّلون يده. إنهم يشاهدون آباءهم يقبّلون يد الشيوخ فى المسجد العتيق وغيره، ولا يقارنون بين الحالتين، فعقولهم الصغيرة لا تستوعب إلا الطاعة. طاعة الآباء المتشددين. كنت أشعر بالضيق حينما يأتى مدرس ليطلب من زملائى الأقباط مغادرة الفصل فى حصة الدين، كنت أستأذن أحياناً بحجة الذهاب إلى الحمام، وأبحث عنهم. فى الثانوية لم يكن لهم مكان محدد، وكنت أجدهم أحياناً يجلسون أسفل شجرة بالفناء مع مدرس العلوم المسيحى، وسبب ضيقى أنّ أقرب أصدقائى كانوا منهم، بل إنّ ميخائيل نعيم سامى هو الذى كان يتولّى الدفاع عنّى فى المعارك داخل المدرسة!

وهناك مسلمون لا يعنيهم الموضوع فى شىء. إنهم لا يكرهون المسيحيين، ولا يحبونهم، وفى الأغلب يريدون الحياة فى أمان بعيداً عن الاحتقان المتوقع فى أية لحظة.

يشكّل الأقباط النسبة الأكبر من نجع حمادى، تقريباً ما يوازى ستين بالمائة، يتحكّمون باقتصادها، فالمحال الكبرى الخاصة بالأقمشة (المينيفاتورة)، والملابس الجاهزة، والأحذية، ومعظم الصيدليات، وقطع غيار السيارات تتبعهم، ولن تعدم الأسماء المميزة التى تفوح منها قبطيتهم، شركة غبريال للأحذية، شركة لوكاس الفاوى للملابس الجاهزة، بوتيكات بُشرى، صيدلية الدكتور نصيف أمين هنتر، شركة البطل الرومانى للمشغولات الذهبية والفضية.

تجارة الذهب والفضة تحديداً يهيمن عليها الأقباط بشكل كامل. معظم الشركات تتركّز فى سوق معينة بشارع الجنينة، يقع هذا الشارع الضيّق بالقرب من النيل، ويتقاطع مع مجموعة حوار وأزقة تشبه وكر ثعابين. كل زقاق يُفضى إلى حارة، وكل حارة تُفضى إلى أخرى، والكلّ يصبّ فى النهاية باتجاه النيل وكورنيشه الضيّق. القبطى أمين، وفى الأغلب ستعرفه من كلمة “صدقنى” ولكنه ينطقها هكذا “سدقنى”، الكلمة التى يضطر أن يقولها لينهى فصالاً حاراً، والأهالى لديهم استعداد فطرى للفصال حتى فيما يتعلّق بسعر جرام الذهب والفضة.

على النيل وخلف سوق الذهب تقع الكنيسة الأقدم، كنيسة السيدة العذراء، الأخرى تم بناؤها حديثاً بالقرب من شارع 30 مارس، ومحطة السكة الحديدية، التوترات كانت تأتى على فترات متباينة، وكان أشدها فى التسعينيات، الحقبة التى نشط فيها الإرهاب بشكل بالغ، أتذكر المتشدد الذى دوّخ الأمن وقتها، والأساطير التى حيكت عنه، كيف أنه دخل على الضابط المخيف “عباس” باعتباره ماسح أحذية، وبعد خروجه اتّصل به، قائلاً له إنه كان من الممكن أن يقتله لو أراد. الذين كانوا يرددون هذه الحكاية لم يذكروا لماذا لم يُقدم على هذه الخُطوة. كانوا يقفزون ببهجة إلى حكاية سقوطه على يد سائق ميكروباص بعد مشادة بينهما، أخرج المتشدد الذى لا أتذكر الآن إلا اسمه الأول فقط “حسن” مسدسه ليقتل السائق ولكن المسدّس تعطّل، وكانت الفرصة مواتية ليسقط، إذ أن جسد السائق أقوى بمراحل. تسبّب هذا المتشدد فى ذعر غير عادى بالمدينة، ولأول مرة تصعد الأبراج الأمنية “النواطير” باتجاه السماء، وتم تخصيص برج أمام الكنيسة القديمة يقف فيه مجند أو مخبر، وتم تعلية أسوار الكنيسة. الأقباط كانوا أكثر حذراً، وأفلح حذرهم، لأن ضربات الإرهاب اتجهت إلى القطار الأسبانى الذى يقلّ أجانب ذاهبين أو عائدين من الأقصر وأسوان.

فى عيد شم النسيم كانوا يتخلون عن حذرهم. كانوا يخرجون حاملين سعف النخيل الأصفر والأخضر فى مشهد مبهج، ويتحرّكون من الكورنيش باتجاه شارع بورسعيد. يميل الأقباط إلى التحرك فى جماعات عملاً بالمبدأ الكلاسيكى “الجماعة قوة” أو”الاتحاد قوة”. من يتعرّض لمشكلة سيسعفه الآخرون بسرعة. حتى النساء أثناء ذهابهن للتعزية لا يخرجن بمفردهن، يتفقن على التقابل عند واحدة معينة، ثم يتحرّكن جماعة. يرتدين البلوزات، والجيبات، ولكن لا ألوان. فقط الأسود.

حينما يمرّ النعش محمولاً فى اتجاهه إلى الكنيسة، يخيّم الصمت وينتصر المعتدلون. الموسيقى المميّزة المصاحبة للنعش تنبئ بمقدمه من مسافة معقولة. باحترام تُغلق دكاكين المسلمين أبوابها، ويقف الجميع شاخصين لا يتابدلون الأحاديث حتى يمرّ النعش فيعاودون فتح الدكاكين.

يميل الأقباط أيضاً إلى السكن بمفردهم، من الأفضل أن تكون العمارة كلها منهم، الميسورون يبنون منازل من دورين، الأبواب مؤمّنة جيداً، ومغلقة بالسلاسل. الأبواب أيضاً تشير إلى أن القاطنين مسيحيون، فتشكيل الحديد إما يحمل صلباناً واضحة ومباشرة، أو رسوماً، أو زهوراً على هيئة صلبان. لا تعدم المدينة وجود مسيحيين يقطنون عمارات أغلبها من المسلمين غير أنّهم قلة. التجمّع الأكبر لهم فى شارع الجنينة، والشوارع المحيطة. أيضاً موجودون بكثافة فى شارعى 30 مارس، و15 مايو، والبقية موزّعون على بقية شوارع المدينة. فقراء الأقباط يسكنون فى منطقة الساحل، وهى منطقة أقل من حيث مستوى الخدمات، يقطنها العمال، والأجرية، والصيادون، وتقع على النيل مباشرة.

النيل أمره عجيب فى هذه المدينة، فمعظم المبانى الحكومية فى الجزء الأكثر غنى على الكورنيش توليه ظهرها، بعضها جعل أبوابه من الجانب أو الخلف، وبعضها وضع الأبواب من ناحية الكورنيش غير أنه حجب النيل بالأسوار العالية. المدهش أن نجع حمادى هى المدينة الوحيدة فى مصر التى يشقها النيل فى منتصفها بالضبط. كان منتظراً أن تتحوّل إلى مدينة عالمية، غير أنّ الجّهل الحكومى والشّعبى على السواء حال دون ذلك. استكان الجنوبيون إلى أنهم جنوبيون، وظلوا محتفظين بطابع حياتهم الريفى، زراعة، وتربية طيور وحيوانات، ورزق يوم بيوم، وأصبح الجزء الشمالى هو المدينة التى نتحدّث عنها.

الجزء الفقير، الساحل، لا يمتّ إلى الغنى بصلة. البيوت متهالكة فى الأغلب، والمكان أصبح ملاذاً للبلطجية والخارجين على القانون. كان نوفل “خُط الصعيد السابق” يسكن فى بداية الساحل. أسفل منزله افتتح مقهى. كان قد تعب ويُريد أن يستريح، غير أنه لم يتخلّ عن حذره لأنه كان يعرف أنّ من استخدموه سينقلبون عليه لا محالة، فالقضايا التى كانت تحاصره بالعشرات. كان يعرف أنها مسألة وقت. فى فترة الثانوية كان أبى يحذّرنى من الذهاب إلى الساحل، غير أننى كنت أذهب وأجلس فى هذا المقهى لأنه كان يعرض أفلاماً على الفيديو، ولم يكن الأمر يتطلّب سوى دفع ثمن مشروب واحد. كان نوفل يظهر على فترات بطريقة خاطفة، فى لحظة خروجه أو دخوله إلى المنزل، يُحيط به عدد لا بأس به من الرجال المسلّحين، غير أنهم كانوا يختفون بسرعة كما لو أنهم أشباح. فى القاهرة وعبر صفحات الحوادث تابعت وقائع ما جرى له حين تمت محاصرته بالدبابات وقتله وسط أعوانه. كان يعرف مصيره ولكنه حاول أن يؤجله بقدر ما يستطيع. تماماً مثلما حدث مع عزت حنفى مع تغيير طفيف فى النهاية!

فى الساحل رأيت لأول مرة حمام الكمونى المتهم الرئيسى فى أحداث نجع حمادى الأخيرة، كان فعلاً كما وصفته التقارير الصحفية، قوىّ البنيان، مزهواً بنفسه، فى جلساته كان يختلس النظر إلى ذراعيه المفتولين اللذين أنفق سنوات من حياته حتى يحوّلهما إلى بالونات منفوخة، صامت فى الأغلب. أصدقاؤه يشبهونه من حيث المنظر، لكن لا هو ولا من معه يصلحون لما تردده التقارير ذاتها عن أنه معروف بميوله السياسية. فعبر خبرة طويلة أعلم أنهم لا يفقهون شيئاً فى السياسة ولا فيما يدور حولهم.

كانت أخباره تنقطع غير أنه كان يتم الزجّ باسمه دائماً فى الأحداث الملتهبة التى تقع على فترات، اختطاف، سرقة، تعد بالضرب، اغتصاب، ولكن فى كل مرة أسمع فيها هذا الكلام أراه يسير فى شوارع النجع وكأنّ شيئاً لم يكن. كانت تظهر على الكمونى أحياناً علامات الالتزام الشكلانى. حيث يذهب بصفة منتظمة إلى المسجد الذى يتوسّط المدينة. كان اختيار هذا المسجد له ما يبرره، فبالقرب منه تقع جمعية الشبان المسلمين التى كان يذهب إليها ليُمارس رياضة “كمال الأجسام” هو وأصدقاؤه فى سبيل الحصول على مزيد من القوّة الجسديّة. وكنتُ أذهب إلى الجمعية مساء كل يوم أربعاء، موعد الندوة الأسبوعية لجماعة آمون الأدبية المنشقّة على نادى الأدب بقصر الثقافة، ولم يحدث أن تغيّبت إلا أوقات الامتحانات، وكنت أراه فى الأوقات التى يظهر بها، كان كثيرون حوله يُظهرون له الاحترام، الاحترام الموجود فى الغابات. لا أذكر أن رأيته يبتسم سوى مرّة، ابتسامة خاطفة عاد بعدها وجهه للتجهّم. الابتسامة كان سببها أنه أخطأ وفتح باب الحجرة الضيّقة التى كان ينحشر فيها ما يزيد على الخمس وعشرين أديباً أسبوعياً، ورآنا. كان مثل غيره يرى أننا نضيّع وقتنا فى أمور فارغة، الأدب لا يجلب الاحترام فى الصعيد. بل إن ارتباط شخص بالقراءة معناه أنه إما مجنون أو سيُجنّ قريباً، إذ أنّ الشخص الذى يختلى بنفسه ويقرأ كثيراً معناه أنه سيُمسّ، والجملة الأثيرة فى هذا “القراية لحست دماغه“!

لم يبد رد فعل سوى الابتسامة الخاطفة، ثم انسحب وأغلق الغرفة خلفه.

كان اسمه مقترناً بمعارك الشارع، معارك فرض القوة. وكان الكمونى على رأس شلّة الساحل، فى مواجهة شباب شارع “الشعينية” تارة، وشباب 30 مارس تارة أخرى، وأذكر أنه استخدم أنابيب البوتاجاز فى إغلاق الشارع الأخير. وكان يترك لمساعديه مهمّة نقل الإشاعات إلى الشوارع المختلفة عن جبروته فى المعركة. لم يكن أحد يشاهد شيئاً، فبمجرد اندلاع المعركة يفرّ الأهالى إلى بيوتهم، ويظل الفريقان المتباريان فى الشارع. لا أحد يعترف بهزيمته، وأنت فى يوم واحد قد تسمع حكايتيْن مختلفتيْن، واحدة عن شراسة الكمونى، وأخرى عن ولولته كالنساء بعد ضربه، مع أنّ الحكايتين عن معركة واحدة!

الموقف الذى اقتربت فيه كثيراً من الكمونى حدث بالصدفة الغريبة. كنت أسير مع خالى ممدوح بالقرب من مقرّ “البوستة”. وكان قادماً من الناحية الأخرى فى مواجهتنا تماماً..ينظر إلى عينى ممدوح ثم توقف على بعد سنتيمترات من وجهه، ممدوح، لحسن الحظ، يمتلكُ جسداً قويّاً وبأساً يليق بمحارب، ظلّا واقفين لمدة تزيد على الدقيقتين كأنهما مُقبلان على “مناقرة ديوك” حتى نظر الكمونى أمامه وهزّ رأسه متوعّداً، وسار فى طريقه، وظلّ ممدوح لدقيقتين أخريين يُحدّق فى ظهره حتى ابتلعه الشارع. كنت أفكر فى أنهما يعرفان بعضهما، ولكن ممدوح نفى ذلك مؤكّداً أنه شعر بأنّ الكمونى كان ينظر إليه بتحد بسبب جسده القوى، ويريده أن يخفض عينيه، ولم يكن ليفعل ذلك ولو على جثته. كان جميلاً ألا يتصرّف خالى بطريقة والد أجنس فى رواية ميلان كونديرا “الخلود” الذى فضّل الانسحاب عن المواجهة حينما اعترضه صبيان وطلبا منه مالاً مقابل أن يمرّ فى الطريق هو وابنته!

وبعيداً عن هذه الحكاية ستظلّ نجع حمادى مدينة لا يمتلكها أحد، سكّانها لا يشعرون أساساً بأنهم جزء منها، ولهذا لن تؤثر فيها الحوادث العابرة، لأنّ سكانها عابرون!.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم