ناصية باتا.. لعبة اسمها الحياة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 83
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد أبو زيد

بينما يسير قاسم وبيكاسو، بطلي رواية حسن عبد الموجود الأخيرة “ناصية باتا”، على كوبري قصر النيل، يشير قاسم إلى الأسدين: “أنا وانت شبه الأسدين دول مالناش لازمة”.

تلخص هذه العبارة، الكثير مما تريد أن تقوله، الرواية، عن تهميش الفرد، في ظل توحش وسيطرة المؤسسة بكافة أشكالها: الأبوية، الأسرية، الدينية، المجتمعية، الإلهية، ويصبح معها بطل الرواية، قاسم، وصديقيه بيكاسو وتمساح، تروس في ماكينة النظام، الذي لا يعرفون كيف يخرجون عنه، مع أنه يخرجهم يوميا من سياقه.

يرد بيكاسو على جملة قاسم السابقة، بالضحك، والضحك سخرية ومرارة في آن، يبدو هو الحل الناجع الذي يختم به عبد الموجود روايته: “اضحك يا عم بيكاسو”، كما أنه يقدمه في ثنايا روايته، وفصولها الأربعة والثلاثين، لكنه يأتي محملا بالوجع المكتوم من واقع محمل بالغضب والألم والقهر، فالأب عندما تعض الكلاب ابنه قاسم، لا يتعاطف معه، لكن يصفعه على وجهه، ويقول له “لو إنت إنسان متربي ما كنتش الكلاب تجري وراك”، لكن السخرية المتفجرة هنا ناجمة من تحول الإحساس بالظلم إلى إحساس بالألم، وطانيوس عندما يدرك أنه جزء من مؤسسة عقابية، وأن طيبته ليست أكثر من جبن يقول عن نفسه، بعد أن تخيل أنه بمفرده “أنا ابن وسخة على فكرة”، ولكنه يسمع صوت تمساح يأتي من خلفه “عيب، ما تقولشي على نفسك كده يا نائب”.

الكتابة، في ظن جان كوكتو، هي فن التورط. تورط القارئ في مزيج من عالم متخيل وواقعي، في ظني، وتورط الكاتب نفسه، الذي يقف هنا على ناصية الحياة، بنظرة الصقر الطائر، ليرصد تفاصيل عالم انفصل عنه لكنه يرصده كما هو، وربما لهذا  نجد أن الزمن في رواية ناصية باتا، هو الزمن بمفهومه الأوسع، قد يكون الآن، أو الغد، أو أمس، لكنه في كافة الأحوال هو لحظة القبض على النص.

لا يقدم عبد الموجود، زمانا معروفا، كما لا يقدم مؤسسات حقيقية، هو يمزج بين الاثنين، الواقعي والخيال، ليظل الخيالي هو المأزق الحقيقي للنص، وسط لحظات متشظية، مفعمة بالأسئلة.

المؤسسة العقابية، التي يقدمها عبد الموجود في روايته تحمل اسم “ا أغسطس”، وهي مزيج من مؤسسات مختلفة موجودة في المجتمع، تعمل على تهميش الفرد، وجعله ترسا في ماكينة، لا أهمية له خارج هذا السياق، أو “عامل طابونة”، لا يستطيع ترك مقعده أمام النار لأنه سيحترق في الخارج، لكنه في المقابل، يقدم مؤسسات أخرى، معروفة بالاسم، لكنه يمتح لها اسما مشابها لمؤسسته العقابية، وهي مؤسسة “31 مارس”، والتي يفهم من السياق، أنها جهاز أمن الدولة المنحل، حيث يشير الراوي إلى أن “نادي الأدب أبلغ هذا الأسبوع عن إقامة أمسية شعرية، كما أن جماعة  التبليغ والدعوة، التي ينتمي إليها قاسم، أصبحت تبلغ هذه المؤسسة قبل خروجها إلى أية قرية للدعوة إلى الله، وهو ما يشير بوضوح إلى مؤسسة عقابية أخرى، أكثر تسلطا من التي يتحدث عنها الكاتب.

هذا العالم، الواقعي المتخيل، يوازيه عالم كابوسي آخر، يذكر بالعوالم الكافكاوية، عندما تحاصر الصراصير شقة قاسم وبيكاسو،  ولا يجد الأول حلا سوى أن ينزحها بالجاروف، ويعبئها في جوال كان يحوي الأدوات التي يستخدمها بيكاسو في رسومه.

ينطلق عبد الموجود فيما مضى، من النظر إلى الكتابة إلى لعبة، لعبة تشبه الحياة تماما، وربما لهذا يقسم الرواية إلى قسمين كبيرين: الأول “الحياة”، والثاني “لعبة”، وكأنهما قوسان كبيران يضمان في ثناياهما الرواية “الحياة لعبة”، هذه اللعبة تقتضي حالة من الانفصام في كل تفاصيل الرواية، وانشطارها إلى جزءين، فالشخصيات المأزومة مقسومة ما بين طفولتها في القرية، وحياتها في المدينة، وسط شخصيات لا تفهمها تماما، وترفض التعاطي معها وفق آلياتها.

قاسم ينقسم بين شخصيتين قاسم وجهد،  تماما كما تنقسم أحداث الرواية بين مكانين الريف والقاهرة، تماما كما ينقسم قاسم في الريف بين الذي يريده، وبين الشخص الملتزم، وفي القاهرة،  بين حبه لرانيا وكرهه له، هذه الحالة الدائمة من الحيرة، غير المحسومة، وحتى في حال حسمها لا تكون بأيدي شخصيات الرواية، الريفية، لكن بيد الشخصيات الأخرى، وهو نفس ما يتكرر مع بيكاسو، الذي يشبه الفنان، الذي يقتني الكاتب محمد حسنين هيكل تماثيله، لكنه يعيش في شقة فقيرة في فيصل، الفنان الذي لا يبارى، ولا تفوته صلاة، ويقف في المسجد ليسأل الشيخ  أحمدي عن مدى حرمة نحته للتماثيل، مأزقه الخاص بالأنثى التي لا يستطيع التواصل معها تماما.

لكن هذه الشخصيات لا تنفصل عن المجتمع المأزوم أيضا، مجتمع لا يخفي عدم رضاه عن التماثيل التي يمكن أن تكون قد نزعت البركة من البيت بعد أن طردت الملائكة، مع أنه نفس المجتمع الرابض، بين تماثيل الحضارة الفرعونية، وهو المجتمع الذي يترك آثاره على شخصية بيكاسو الذي يتوقف عند منتصف العلاقة مع حبيبته، وهو يتمتم محوقلا ومبسملا، وقاسم الذي لا يعرف هل يكمل علاقته برانيا بتقاليد مجتمعه هو أم بالتقاليد التي تضعها هي، حتى  لو قبل ذلك مرات.

بناء هذه الشخصيات المأزومة، هو الذي يقودنا إلى الجملة التي قالها قاسم لبيكاسو “أنا وانت شبه الأسدين دول مالناش لازمة”، لكنه جزء  من البناء النفسي للمؤسسة التي يعمل فيها أبطال الرواية، ويعانون من قهرها، لكنهم لا يتركونها.

انضمام الشخصيات الثلاثة إلى المؤسسة، لم يحل الأزمات المتراكمة داخلهم قبلها، فتمساح يدخل مؤسسة  1 أغسطس لرفضه الشذوذ مع زميل له في المدرسة، لكنه يسقط فيما بعد في سفينة كلها شواذ، وقاسم دخل المؤسسة لأن والده أراد أن يعاقبه، لكن بيكاسو دخل خلفه لأنه أراد أن يقلده أو لأنه ظن أن كل اخياراته صحيحة.

لكن المؤسسة الأبوية، يكشفها عبد الموجود، عندما يعترف طانيوس لنفسه أن السلطة المفروضة عليه ترافق الإنسان منذ الميلاد وحتى القبر، سلطة الأب والأم والأقارب والمدرسين والمديرين والرؤساء ورجال الدين، أو كما يقول عبد الموجود في الرواية فإن تجاوز الخطوط التي يحددها لنا المسئولون عن إدارة حيواتنا يقابل في الأغلب بالاستهجان، إنهم يستهجنون ويستهجن معهم الأشخاص العاديون المجبولون على الطاعة.

هنا يتخطى مفهوم المدير، الشخص المسئول عن المؤسسة، لكنه يصبح الشيخ أحمد في المسجد الذي يكذب وينسب بطولات قاسم إلى نفسه، ومدير المؤسسة الذي يبحث عمن يهزم أمامه في الشطرنج، “أنا المدير هنا ولما أقول كش ملك يبقى كش ملك”، والأمير الذي يبحث عن أتباع يثنون على أدائه، لذا يقدم مدير المؤسسة أوامر تشبه الوصايا العشر للمعلمين في فصول الدراسة  كلها تبدأ ب “لا”، لا ترفع صوتك، لا تكن شرها، لا تسرق، لا تنافق، لا تتكاسل”، ولذلك كان طانيوس يقسو على الطلاب  في المؤسسة لا بهدف إشعارهم بالدونية، ولكن ليصل معهم إلى ناتج سليم، إنه لا يريدهم أن يتحولوا إلى جزء آخر من مجتمع العاديين، فآباء هؤلاء الطلاب الذين يدخلونهم المؤسسة يخولون المؤسسة بأن تحل بديلا عنهم.

لكن بعض الشخصيات تبدو حرية، بأن تكون جزءا من هذه المؤسسات العقابية، مثل طانيوس المقهور، والذي ينتقم من مديره في خياله فقط، فهو ضحية مؤسسة قمعية، ترى صورها في كل شيء حولنا، وأيضا الشاعر الذي ينافق مديري المجلات العربية، من أجل بضعة دولارات، فالمؤسسة القمعية ليست صنيعة من داخلها فقط، حسبما يطرح عبد الموجود، لكنها صنيعة من في الخارج، من يريدون أن يصنعوا إلها أو فرعونا.

التمرد على المؤسسة، وإلهها  يستدعي قراءة التاريخ من وجهة نظر مخالفة، تماما كما قال طانيوس “المشكلة إنك بتقرا من وجهة نظر التاريخ الرسمي، إنت بتقرا في كتب التاريخ بتاعت المدرسة، كان لازم عرابي يتخان، ده واحد بص وراه مالقاش حد أساسا ، تبقى المشكلة فيه، عرابي في رأيي كان بيقول للعالم أنا عاوز خيانة”.

يقدم عبد الموجود، رؤية مخالفة لتلك الاعتيادية، التي قدمت الصعيد مرتبطا بجماعات الإسلام الراديكالي، حيث يقدم جماعة التبليغ والدعوة، التي كانت منتشرة في الصعيد، ولكن لم يتجاوز دورها حد الدعوة إلى الله، حتى مع خروج أعضائها إلى القرى المجاورة لذلك، ويستخدم عبد الموجود، بحنكة بالغة، اللغة الخاصة بالإسلاميين حتى في صياغات جمله السردية، وهو الأمر المنتشر على طول الرواية، فيقول مثلا ” حينما استدار داهمه الشيطان، فقد تثاءب، ولكنه برد فعل سريع وضع يده على فمه، حتى لا يدخل الشيطان أو يضحك من منظره”، فضلا عن أن عبد الموجود يقدم في روايته لغة رائقة وصافية، تشبه شخوصها، وبيئتهم، لكنها في كل الأحوال مشغولة بحنكة صانع ماهر.

رواية “ناصية باتا”، تبدو للقارئ لأول وهلة، رواية سهلة القراءة، لكن سرعان ما يلتفت القارئ إلى أنه يجب عليه العودة منذ البداية، للإمساك بالنص الذي يبدو سهلا ممتنعا، ينفلت، مع التشابكات والتضافر بين مصائر شخوص الرواية، لكن هذه الصعوبة لا تقدم نصا منغلقا، بل تقدم نصا يطرح الكثير من الأسئلة، متعلقة بكينونة الإنسان ومصيره، وهذا في ظني هو دور الفن الحقيقي.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم