مي التلمساني: لست كاتبة نسوية ولا أخاف من القارئ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورها: موقع الكتابة

تشبه مي التلمساني كتابتها كثيراً، ليس فقط لأنها تسرّب أجزاء من سيرتها الذاتية من خلالها، سواء كان عن قصد في “دنيازاد” و”للجنة سور”، أو عن غير قصد كما في “هليوبوليس”، ولكن لأن مي التي هاجرت بعيداً عن “هليوبوليس” الحبيبة،  تبدو كذلك في كتابتها، إذ قررت أن تغرد بعيداً عن السرب، سرب طريقة كتابة جيلها، وسرب الكتابة الاعتيادية العربية، وأن تكون ذاتها. يكفي أن تقرأ صفحة واحدة من أي كتاب لها. لتعرف أنك أمام مي التلمساني. وهذه الفرادة والخصوصية ليست سمة كتابتها فقط، بل سمة شخصيتها، إذ يكفيك أيضاً أن تسأل أحد أصدقائها عنها ليؤكد لك ذلك بكل حب مع لمعة امتنان في العينين لها. في هذا الحوار الطويل، تتحدث مي عن مي، وعن الكتابة والصداقة والهجرة. وربما عن كل شيء.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54

ـ لماذا قررت إصدار رواياتك الثلاث في كتاب واحد، ألا يوحي هذا بأننا أمام ثلاثية؟

هناك السبب المادي البحت وهو التوفير في تكاليف إعادة الطبع. عندما فكرنا أنا وحسني سليمان في إتاحة الروايات للقراء في طبعة جديدة تصدر عن شرقيات، كان الهاجس الأول يخص التكاليف فعليا. دنيا زاد لها طبعة أخرى بيروتية أعتقد انها نفدت. وهليوبوليس في طبعة مكتبة الأسرة لم تعد متاحة في الأسواق منذ زمن. وأكابيللا التي صدرت طبعتها الأولى في 2012 كانت قد نفدت بعد عام من صدورها. هكذا في 2016 طرأت فكرة إعادة الطبع في مجلد واحد. فيما عدا هذا، هناك بالطبع علاقة بين الروايات الثلاث، منها على سبيل المثال فكرة التركيز على شخصية نسائية محورية يدور في فلكها نساء أخريات، فكرة الاستبطان والبحث عن بدائل للفقد، أو لأماكن الطفولة أو للحب، فضلا عن أن عنوان كل رواية مفتاح من مفاتيح المعنى فيها. لكنى لا أتصور أنها ثلاثية بالمعنى المتعارف عليه. اللهم إلا في علاقة كل رواية بمرحلة من مراحل الكتابة في تاريخي المهني. وشعرت عند نشر الروايات الثلاث معا أني أختم مرحلة في الكتابة وأبدأ أخرى، وقد أكون واهمة.

 

ـ أعتقد أن ما يجمع الروايات الثلاث هو المكان، هل تحبين توصيف كتابتك باعتبارها أدب مكان؟

هناك تركيز لا شك على صياغة المكان في الروايات الثلاث. أعتقد أن فلسفة المكان لها تأثير كبير على ما أكتب، سواء كان المكان هو الرحم، البيت أو الحي، مكان اللقاء بالآخر المحبوب مثلا (كما هو الحال في المكان الواقع على نهر في رواية أكابيللا) أو مكان لديه بصمة تاريخية ويربط الشخصية الأساسية بالآخرين (كما هو الحال في رواية هليوبوليس). المكان هو ما يسمح بالهروب ولو مؤقتا من الزمن، من سطوة الزمن، وهو في رأيي فكرة مجردة تنطلق من الواقع وتفتح على الأسطورة.

 

ـ هليوبوليس حاضرة في كتابتك، وتلك الفترة الزمنية التي ولت. هل تكتبين للنوستالجيا، أم للرثاء، أم للتأريخ؟

لا أكتب من باب الرثاء حتى حين يأتي على لسان البطلة ميكي جملة مثل “لم يبق لي في مصر الجديدة شرفة واحدة”. إنه تقرير حالة، مجرد تتبع لفكرة الاختفاء والتحول، فيه قدر من الحزن ولكن بلا ميلودراما. أكتب عن هليوبوليس في فترة السبعينيات للتأريخ بشكل غير مباشر لملامح طبقة تكاد تختفي، وبشكل فيه قدر من الحنين لطوبوغرافيا المكان الزائلة أيضا، فيما عدا بعض المعالم الثابتة مثل البواكي أو كنيسة البازيليك الخ.، وأكتب لتسجيل أساليب في الحياة والتعامل لم تعد ممكنة أو موجودة، مثلا العلاقة بين سيدات العائلة، حضور الخياطة في البيت لأيام متتالية لجهاز العروس، شكل التعامل مع الخادمات المقيمات، قدرة الحي على استيعاب حركة الأطفال الحرة وحمايتهم كمكان آمن، العلاقة الشخصية التي تنشأ بالمحال وبالبائعين وبالبواب وحارس المدرسة والمدرسة نفسها إلخ.

 

ـ تعبرين عن طبقة مجتمعية لم تعد موجودة بسبب تغيرات سياسية واجتماعية، وتكتبين عنها كأنك تتشبثين بها. ما الذي منحته لك الكتابة في هذه النقطة، وما الذي يمكن أن تقدمه الكتابة لهذه الطبقة، إذا كان بإمكان الكتابة أن تقدم شيئا؟

الطبقة المتوسطة التي أعتقد أنها في سبيلها للاندثار تماما والتي كانت حية وحيوية في الفترة التي أتحدث عنها في رواية هليوبوليس، لها ملامح ثقافية وعادات وطقوس هي مزيج من التقاليد الغربية والعربية-الإسلامية، ربما يكون أصدق تعبير عنها هو معمار الحي ذاته. أكاد أجزم أن معظم هذه التقاليد قد اختفى الآن. كان حي مصر الجديدة يمثل بالنسبة لطبقة بأكملها عاشت وتطورت في داخل الحي وأحيانا بشكل يكاد ينغلق على حدوده ويكتفي بذاته (ما يسمي بالهوية الهليوبلساوية) إمكانية التحديث كما يتمناها سكان الحي من هذه الطبقة، على سبيل المثال عدد النوادي الاجتماعية والرياضية في الحي يفوق عددها في أي حي آخر في القاهرة، كذلك الحال بالنسبة للمدارس الخاصة والأجنبية المعنية بتدريس الإنجليزية والفرنسية، وصالات السينما وأماكن الترفيه الخ. كانت المنظومة العامة في السكن تقوم على مبدأ الإيجار لا التمليك، وهو ما سمح لشريحة كبيرة من الموظفين وأصحاب الأعمال الصغيرة بالسكن في الحي منذ نشأته وحتى نهاية السبعينيات مع توفر القدرة الشرائية للإنفاق على التعليم الجيد وعلى الرياضة والترفيه. مع دخول مصر في مرحلة الانفتاح الاقتصادي، ومع ازدياد العمران في الحي وفي أطرافه، ومع تراجع فكرة مجتمع المساواة وإذابة الفروق بين الطبقات لصالح منظومة المجتمع الرأسمالي الحر وافتقار هذه الطبقة لأدوات تسمح لها بالاستمرار والحفاظ على الروح العامة للحي، تغيرت ملامح التحديث وتغير معها شكل الأمل في مستقبل أفضل. أصبح الأمل في امتلاك شقة على حدود الحي مثلا، أو الأمل في دفع اشتراك النادي الكبير بغض النظر عن أهمية ممارسة الرياضة، وتراجعت المدارس الأجنبية عن دورها التعليمي وانتقل الأثرياء من أبناء الحي لمدارس استثمارية بلا تاريخ. لا أعتقد أني كتبت عن كل هذه الأمور بشكل مباشر في رواية هليوبوليس، لكنها قضايا ظلت تشغلني وكان للرواية تأثير بالمعنى العام للكلمة يتلخص في إثارة بعض تلك الأسئلة ومحاولة الرد عليها.

 

ـ طيب بمناسبة التغيرات المتجمعية، أريد أن أسألك عن كتابك “الحارة في السنيما المصرية”، ألم تصل هذه التغيرات إلى الحارة، ألم تختلف حارة “ِشارع الحب” و”زقاق المدق”، عن حارة السبكي وخالد يوسف؟

بالطبع. ملامح التغيير طالت كل ركن في مصر، وإن كنت قد ركزت جهدي سواء في الرواية أو في الدكتوراه عن الحارة في السينما المصرية، على مكانين أدعي معرفة جيدة بهما، هما الحي الذي نشأت فيه حي مصر الجديدة، والأحياء التي باتت موضوع دراسة فيما بعد وتعرفت عليها من خلال الزيارة المباشرة أو البحث الأكاديمي مثل أحياء القاهرة القديمة. حارة نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف في السينما هي الأصل في ترسيخ مفهوم ابن البلد ومنظومة القيم الشهيرة التي ارتبطت به على مدار عقود، مثل الشهامة والجدعنة والأصالة والتدين بلا تشدد، والرضا بالحال إلخ. حارة خيري بشارة في يوم مر، يوم حلو وحارة داود عبد السيد في الكيت كات، اختلفت من حيث التركيز على مركزية الحارة القديمة وعلاقتها بالمسجد وبالتراث، ففي هذين الفيلمين مثلا نرى رسم الشخصيات في حارة شبرا وحارة إمبابة بشكل جديد، فيه قدر من التعاطف مع أحلامهم الصغيرة وبلا نبرة قومية زاعقة. هي شخصيات لا تمثل المصري الأصيل أو ابن البلد الأصيل بقدر ما تمثل شرائح محددة يختلط فيها الأفندي بابن البلد بالفتوة أحيانا دون تمييز. أما حارة خالد يوسف فتحاول (وتفشل) أن تعيد تركيب قيم الحارة المصرية الأصيلة كما نراها في سينما الأربعينيات والخمسينيات باستخدام كليشيهات سينمائية قديمة ونمطية (البلطجي يلعب دورا رئيسيا فيها) لتقرير وترويج العنف والاحباط المستشري في العشوائيات باعتباره اكشن وميلودراما جاذبة للجماهير العريضة. كتاب الحارة في السينما المصرية توقف زمنيا عام 2001، مع أفلام مثل ليه يا بنفسج والساحر لرضوان الكاشف، وسارق الفرح لداود عبد السيد.  

 

ـ  ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية. يبدو لي أنك تكتبين بالتبادل بين القصة والرواية، لكن في نفس الوقت لا أشعر أن هذا متعمد. كيف تسير خطة الكتابة لديك؟

ليست لدي خطة واضحة في الكتابة، لدي مشروع كتابة دائم رغم قلة النشر. الكتابة الروائية تأخذ وقتا وجهدا أكبر من كتابة القصص. القصص القصيرة تتناثر بين الأوراق حتى تتكون مجموعة أسعى لتجميعها على هيئة كتاب. وجدت نفسي مثلا اختار عنوانا من كلمة واحدة للروايات ومن كلمتين للمجموعات القصصية واليوميات ولكن بلا قصد. حتى الروايات أكتبها بقوة القصة القصيرة على شكل مشاهد وأعيد ترتيبها ولصقها لتحقق شكل من أشكال الكتابة الروائية الحرة، بعيدا عن البنية الخطية الكلاسيكية. الحرية في تشكيل النص والدخول إليه والخروج منه عند القراءة هي من الملامح الأساسية في الكتابة التي نشرتها حتى الآن والشكل الحر يساعدني على توجيه علاقة القارئ بالنصوص أيضا.

 

ـ فازت “دنيا زاد” بجائزة الدولة في السيرة الذاتية، رغم أن السؤال متأخر قليلاً، لكن هل كتبت الرواية باعتبارها سيرة ذاتية؟

بالطبع. بدأت الكتابة بعد أيام من خروجي من المستشفى وكانت بمثابة انقاذ حقيقي لي من الجنون ومن السقوط في فخ الأفكار الانتحارية. لم أكن قادرة على تحمل الألم ولولا الكتابة وإعادة إحياء دنيا زاد من خلال الرواية لكانت نهايتي. هي سيرة ذاتية تحولت لسيرة متخيلة لو شئت لأني أضفت إليها الكثير في ما بعد. الحدث وقع في عام 1995 والرواية نشرت في عام 1997، وفي خلال عامين كان الجرح قد التأم بشكل مؤقت وكنت أكثر قدرة على احتمال الحزن والتعبير عنه روائيا. لذا اعتبرتها رواية سيرة ذاتية، باستخدام المصطلح المتعارف عليه في نظرية الأدب وهو Autofiction

 

ـ طيب هل هذا الفوز، حبسك، أو وجهك ـ ربما دون قصد ـ باتجاه كتابة الذات، وهو الاتهام  ـ بفرض إنه اتهام ـ الذي رافقك طويلا؟

أقبل الاتهام بالذاتية بصدر رحب ولا يخيفني. أكتب ليس عن نفسي ولكن انطلاقا منها، مثلي مثل كتاب عظماء في مصر والعالم. فوز دنيا زاد بجائزتين واحدة في مصر والأخرى في فرنسا لم يحبسني في قالب الكتابة الذاتية، ما أخافني أكثر هو استقبال النقاد الحافل للرواية باعتبارها تقع ضمن نمط سابق التجهيز اسمه رواية نسوية أو كتابة بنات أو كتابة المرأة. قلت في حوار قديم إن الكتابة لا جنس لها وظل هذا هو اعتقادي إلى اليوم. كان هاجسي الأول فعلا أن أنفي عن كتابتي صفة النسوية. حتى وإن كانت كل الشخوص الرئيسية من النساء، إلا أن التنميط عن طريق الجندر كان ومازال يؤرقني. فيما عدا هذا أرحب بفكرة كتابة الذات، خاصة وأني ذات متعددة، وأيضا لأن الذات هي مصدر المعارف والمشاهدات والتحليلات والشكوك التي تحاصر وتبدع الشخصيات الروائية التي أكتب عنها، أينما حلت في المكان وكيفما تطورت في الزمان. الأغرب أن بعض الشخصيات التي اختلقتها من العدم هي جماع ذوات كثيرة غير ذاتي، لكنها قائمة بذاتها في الخيال ولها ثقل في الحقيقة بالنسبة لي، مثل شخصية عايدة في رواية أكابيللا. التي تكاد تعيش معي حياة كاملة وحقيقية رغم موتها في الرواية. أخاف من تكرار نفسي على أية حال وحبس الكتابة في منطقة الرائج أو المتوقع، وهذا ما أنقذني من تكرار وصفة دنيا زاد على ما أظن. 

 

ـ أعتقد أن حرية المرأة في مجتمعها، من القضايا التي تميلين للكتابة عنها. من دنيا زاد إلى أكابيللا، هل منحتك الكتابة حرية أكبر من الموجودة في الواقع؟

الحرية في الروايات مشروطة أيضا بالسياق العام وبتقاليد المجتمع حتى وإن حاولت الخروج منها ونقدها. الكتابة منحتني حرية مشروطة، أكبر من الحرية الموجودة في الواقع بلا شك، لكنها تظل مشروطة بشروط هذا الواقع. اللغة نفسها تحد من قدرة الكاتب على التعبير، خاصة في مجال الحديث عن العلاقات الجنسية ومشاعر النساء كما نرى في أكابيللا. كان علي أن أختار صيغة للكتابة عن شخصية عايدة وتعدد علاقاتها العاطفية وتصوراتها عن الجنس بشكل لا يصدم القارئ  وبشكل لا يخل بالقيمة الأدبية للنص. بمعنى إيجاد صيغة للكتابة تسمح بالتعبير عن الحب الشبقي ولكن بلا شهوانية، عن الحزن الملازم لفعل الحب ولكن بلا ميلودراما، وهكذا. وهي منطقة من الكتابة أعود إليها في الرواية الجديدة. المشكلة الحقيقية هي أن الكتابة الذاتية والتي لا تعتذر عن ذاتيتها عادة ما تشجع القارئ المتلصص على عدم الفصل بين الكاتبة وبين شخصياتها. لذلك يلزم دائما التنويه بالفرق بين الكتابة عن نفسي وهو ما يحدث نادرا، والكتابة باستخدام رؤيتي للأشياء وباستخدام تجاربي وتجارب آخرين في الحياة فضلا عن معارفي وقراءاتي وهو المصدر السائد فيما أسميه كتابة ذاتية، والفرق بين الاثنين كبير. 

 

ـ بالمناسبة، لماذا غيرت اسم رواية “أكابيلا”، بعد أن نشرتيها مسلسلة في جريدة روز اليوسف باسم “يوميات عايدة”، شمل التعديل خطوطا درامية أيضا؟ وهل من حق الكاتب أن يغير في عمله بعد نشره؟ ألا تعتقدين أن القارئ سيجد نفسه أمام عملين مختلفين؟

التغيير جزء من لعبة الكتابة. أتمنى أحيانا أن أعيد كتابة دنيا زاد وهليوبوليس، لكني لم أفعل إلى الآن من باب الكسل. “يوميات عايدة” كتبت كرواية مسلسلة ونشرت على 14 حلقة في روزاليوسف. وكان العنوان ملائما لهدف من أهداف الكتابة والنشر في هذه المجلة التاريخية بالذات وهو رد الاعتبار بشكل غير مباشر لأعمال وروايات إحسان عبد القدوس (والأفلام المأخوذة عنها بالطبع). في تلك الفترة لم تكن شخصية عايدة بنفس الثراء الذي أصبحت عليه في الرواية. بين النصين عامان كاملان، عدت للكتابة أثناءهما وللتعديل وتطوير الشخصيات المحيطة بعايدة بشكل يجعل النصين شديدي التباين لذلك آثرت تغيير العنوان. قد يهتم الباحثون في المستقبل بدراسة الفروق لكني ككاتبة للنصين احتفظت بحقي في اللعب وباستمتاعي باللعبة أيضا خاصة وأن كتابة رواية مسلسلة مازالت قيد الكتابة أثناء النشر كان من أكثر تجارب الكتابة امتاعا بالنسبة لي. كتبت أحيانا تحت الضغط، وأحيانا أخرى بدهشة من يكتشف قيمة الحرية والاسترسال دون حواجز لأول مرة.

 

ـ طيب، لو أعدت غداً نشر “نحت متكرر”، هل ستغيرين فيها؟

لا أفكر في إعادة نشر “نحت متكرر”، هي المجموعة القصصية الأولى، وأشعر أنها شديدة الغنائية إلا بعض النصوص التي لم أزل أراها جيدة. ولكن لم لا؟ ربما أعيد نشرها وتغيير بعض النصوص فيها بالحذف أو الإضافة والتنويه بذلك للقارئ. كتب عنها إدوار الخراط نقدا بديعا، ربما يصلح اليوم للنشر أيضا مع المجموعة. مسألة تحتاج لتفكير. لكني أتمنى إعادة نشر كل الأعمال بما في ذلك مجموعة “خيانات ذهنية” التي صدرت عن هيئة قصور الثقافة عام 1999 وأسعى لذلك في الفترة القادمة بالتوازي مع نشر روايتي الجديدة، الرابعة.

 

ـ طيب، بمناسبة هذا، كيف تنظرين إلى قصة “استعادة هليوبوليس” في مجموعة “عين سحرية”، من ناحية المساحة التي احتلتها، فهي أقرب إلى “نوفيلا”، وتشترك بالاسم مع روايتك “هليوبوليس”. هل هي استكمال لكتابة منطقتك الأثيرة. ما الذي تمثله لك “هليوبوليس” حتى تلح عليك هكذا؟

هي استكمال واستعادة لعالم هليوبوليس كما يظهر في الرواية بنفس الشخوص تقريبا فيما عدا إضافة مساحة أكبر لشخصية الأب التي تكاد تكون غائبة في الرواية وأردت أن تكون حاضرة في “عين سحرية”. الأب هو عبد القادر التلمساني المخرج والمنتج، لكن الشخصية تمثل أيضا تصوراتي العامة عن الأب بالمعنى العام في قصص مثل “أناقة الروح” أو “في انتظار أن يموت أبي”. فكرة الاستعادة هي محاولة لبعث الأب وبث الحياة في الحي الذي انهار واستعادة جانب من تاريخي الشخصي الذي تراجع في الذاكرة والحديث باسم آخرين ربما، بنات حي هليوبوليس، ملامح المصيف، مشاهد من المدرسة، الخ. هل تصلح تلك المشاهد لأن تندرج في الرواية؟ ربما. لو تسنت لي فرصة تعديل الرواية ودمج النوفيلا فيها ربما أفعل ذلك من باب التجريب في المستقبل.

 

ـ بدت لي راوية “دنيا زاد” كنوع من العلاج النفسي، بوصف الكتابة تدويناً. هل استمر هذا المعنى ـ لو اتفقنا عليه ـ معك في الكتابة بعد ذلك، أم تختلف علاقتك بالكتابة من نص إلى آخر؟

الكتابة هنا كان لها أثر في التئام الجرح، على الأقل في المرحلة الأولى من الكتابة. انتهيت منها في ستة أشهر بعد حادث الوفاة، ووضعتها في الأدراج سنة كاملة بعدها، ثم عدت إلى النص بروح مختلفة، كان ابني زياد قد ولد وكنت بحاجة لاستعادة النص كنص روائي بعيدا عن التجربة الذاتية. المسودات الأولى مختلفة تمام الاختلاف عما نشر. لم أنتظم في كتابة هليوبوليس بحيث تنطبق عليه فكرة التدوين، ولم تكن هناك حاجة للعلاج بالكتابة. في أكابيللا، كان الوضع مختلفا بسبب النشر المسلسل. كنت قد كتبت نحو ثلاثة أو أربعة فصول فقط من الرواية حين بدأت نشرها مسلسلة، وجاء الانتظام في النشر حافزا لاستكمال النص واتمامه. تجرية ثرية وفريدة بالنسبة لي، أحببتها كثيرا لكنها لم تتكرر. ثم أعدت كتابتها بالكامل مرة ثانية عند نشرها ككتاب. لكل رواية إذن سياق مغاير في الكتابة وفي عمليات التركيب والتبديل والتعديل. القاسم المشترك في كل الكتابات هو عنصر الزمن بما أني أكتب الرواية عادة على مدار عامين، وعنصر التفكيك والتضحية، حيث أعيد تركيب وفك الرواية مرات ومرات قبل النشر كما أضحي بصفحات كثيرة منها حتى أتجنب الترهل والتكرار والثرثرة. وأحتفي كثيرا باللغة وبخصوصيتها أيضا، تعجبني مثلا فكرة أن تحيل اللغة العربية لصيغ أوروبية كما يظهر مثلا في عنوان أكابيللا وفي متن الرواية أيضا.

 

ـ أنتِ مهمومة بالهوية، سواء بتتبعك لهوية “ابن البلد” في كتابك عن الحارة في السينما المصرية، أو هوية المرأة في أكابيلا، أو هويتك الشخصية في “للجنة سور”، أو هوية المكان المتآكلة في هليوبوليس. إلى أي مدى تغير كل هذا في السنوات الأخيرة،  ما أكثر ما آلمك تآكله؟

لا أعتقد أن الهويات تتآكل، أعتقد أنها تتبدل مع الزمن وتزداد حسما واقصاء للآخر في بعض الأحيان. هوية ابن البلد كما قدمتها السينما المصرية في رأيي هي هوية اقصائية بالدرجة الأولى، وأكثر من عاني من هذا الاقصاء هو شرائح الطبقة المتوسطة في المدن. أما هوية هليوبوليس كمكان فتظل حاضرة في الذاكرة وفي التفاصيل اليومية حتى وإن تبدلت في الواقع بحكم الانهيار العام الذي أصاب المجتمع ككل. أما هوية سكان هليوبوليس فيصعب الحديث عنها باعتبارها ثابتة، بل هي تتبدل عبر العصور من حي الأجانب في الثلاثينيات والأربعينيات لحي الطبقة المتوسطة والثرية في الخمسينيات وحتى السبعينيات لحي الانفتاح الاقتصادي والشرائح التي نتجت عنه في الثمانينيات، الخ. تجربة الهجرة في كتاب اليوميات “للجنة سور” تجربة تتخطي حواجز الهوية الثقافية اللازمة الأحادية لتنفتح على تعدد الهويات ودوره في تشكيل وعي جديد بمكاني في العالم. لا شك أن العودة لمصر بشكل منتظم جعلت التساؤل حول كوني امرأة مصرية عربية مسلمة حاضرا في الأذهان، ومصدر شك وريبة لدى المصريين ولدي الكنديين على السواء. تلك الهويات المفتوحة مازالت تؤرق الكثيرين، وقد أردت أن أقول من خلال الكتاب إنها قضية عامة وليست خاصة، قضية هنا وهناك والسعي نحو الاستقرار والسعادة القصوى باتت من المستحيلات. في هذه الحالة لا أعتقد أن هويتي الثقافية قد تآكلت، بل أعتقد أنها أصبحت أكثر ثراءً وأكثر تعقيداً وهذا أفضل كثيرا بالنسبة لي كإنسان وككاتبة.

 

ـ لماذا يضايقك وصف “كاتبة نسوية”. وهل مشكلة هذا الوصف في ظنك، هو “الكاتبات اللائي يوصفن بذلك”، أم “نوعية الكتابة”، أم “النظرة الذكورية في الوصف”؟

يضايقني لأني لا أعتبر نفسي امرأة فقط. أنا انسان قبل كل شيء ولدي في تكويني الشخصي وفي خيالي وفي حياتي اليومية مؤشرات تؤكد أني امرأة ورجل في الوقت نفسه لا بالمعنى البايولوجي ولكن بالمعني النفسي والاجتماعي والثقافي ومعظم أدواري في الحياة تصلح لأن تكون دورا لرجل أو لامرأة. فلماذا الحصر في جندر بعينه؟ هذا على المستوى الشخصي، أما على مستوى الكتابة وهي نتاج لما أنا عليه، فلا أرى مبررا لحصر الكتابة تحت هذا المسمى إلا في حالات بعينها، حالة وجود نقد نسوي فارق يستطيع بحق استخراج ملامح نظرية وابداعية مغايرة للسائد في الحديث عن كتابات النساء، وهو أمر نادر حقا. وحالة النضال في مجال المجتمع المدني من أجل حقوق المرأة والذي يستخدم الابداع للتدليل على مشكلات اجتماعية من شأنها أن تغير أوضاع النساء في المجتمع للأفضل. مثال الحالتين الذي أشير إليهما ينطبق مثلا على رواية مثل “الباب المفتوح” للطيفة الزيات. من منطلق النظرية النسوية يمكننا مثلا أن نتحدث عن قيمة الاختيار في الرواية، أو نتخذها مثالا لتشجيع المرأة على العمل السياسي أو على أهمية أن يكون للمرأة دور فعال في اختيار من يمثلها في سياق الدعوات النسوية لتحرير عقل وفعل النساء. هذه قراءات ممكنة ومشروعة لكنها ليست القراءات النقدية الوحيدة التي تسمح لنا بفهم هذه الرواية وغيرها من كتابات نساء مصريات أو عربيات. فضلا عن أن تعبير أدب نسوي أصبح يفتقد إلى الدقة لأنه يطلق على كل وأي كتابة تكتبها امرأة حتى لو كانت كتابة ذكورية تستند لمنظومة الهيمنة الذكورية وتدعمها. لا أجد فرقا والحال هذه بين كتابات النساء والرجال طالما هي داعمة للقهر أو مروجة له. في نهاية المطاف، أظل وفية لفكرة أن الكتابة لا جنس لها، وأن موت الكاتب الذي تنبأ به بارت في الخمسينيات ينبغي أن يقودنا اليوم لإعادة التفكير في علاقة النص بالكاتب وعلاقة الجندر بالنص.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 32

 ـ معظم أدباء جيلك، التسعينيات، يعيشون خارج مصر الآن، أنت، أحمد يماني، ياسر عبد اللطيف، إيمان مرسال، ميرال الطحاوي، إبراهيم فرغلي. هل يمكن القول إن هناك جيل جديد من أدباء المهجر، وهل تعتبرين نفسك “كاتبة مهجر” بهذا المعنى؟

نعم ولا. الهجرة تجمع بيننا وهناك بلا شك تشابهات تجعل امكانية المقارنة متاحة لمن يحب. لكن علاقتي بمصر لم تنقطع رغم مرور واحد وعشرين عاما على الهجرة. أعتبر أن للهجرة أثرا واضحا في إطار الخبرة والمعرفة بالآخر وفي اختيار موضوعات الكتابة وفي النظر للعالم بوصفه مكانا أكثر رحابة وتنوعا وقربا، كأنك تنظر من أعلى ناطحة سحاب فترى أحياء المدينة كلها وكأنها كتلة واحدة وكنت تظنها على الأرض بعيدة ومتنائية. الاختلاف بين كل من ذكرت وكتاب المهجر في بدايات القرن العشرين يخص المسافة أيضا. في هذا الجيل، لم يعد أحد يتردد كثيرا في الحركة وفي السفر، باتت المسافات قريبة ووسائل التواصل الافتراضي متاحة وإن كنت أشعر أحيانا بالانفصال عن ذاتي وعن محيطي الحميم وأنا خارج مصر، لكني سرعان ما أنتبه لأني أيضا أشتاق لبيتي في كندا ولنمط الحياة المستقرة الذي يسمح به العمل بشكل آدمي في بلدي الثاني. المهجر موضوع للكتابة لا شك، لكنه لا يرتبط قسريا بمعاني النفي.

 

ـ هناك اعتقاد لدى معظم الأدباء العرب أن تحققهم يأتي من خلال الترجمة والتواجد في الخارج، لكني أراكِ تفعلين العكس، حيث تحرصين بشدة على وجودك في مصر، والنشر فيها، والتواصل مع الأجيال المختلفة. هل هذا فقط بسبب الحنين إلى الوطن، أم لأن الاعتقاد الموجود لدينا حول “التواجد” مغلوط بالأساس؟

نوع الكتابة التي أسعى لتحقيقها ليس بالضرورة جذابا للناشر الغربي ولا للقارئ الغربي. ربما ينبغي أن نفتح أسواقا جديدة للكتاب العربي خارج أوروبا، في آسيا وافريقيا مثلا. مؤخرا ترجمت دنيا زاد إلى الفارسية وكانت الترجمة مصدر سعادة حقيقية لي. عموم القراء في سوق الكتاب الغربي متخمون بالترجمات من لغات العالم، لا يقدم لهم العالم العربي سوى النذر اليسير من الانتاج المترجم قد لا يمثل 3 بالمئة من الأعمال المترجمة عن لغات أجنبية، وعادة ما يرتبط النص الذي يقع عليه الاختيار للترجمة بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد العربي الأصلي. المكان الوحيد الذي لم يزل يهتم بالإبداع العربي في عمومه هو فرنسا، لذا تجد تنوعا هائلا في أساليب الكتابة العربية المترجمة إلى الفرنسية حتى وإن غلب عليها الطابع التاريخي والسياسي. تحققي جاء ويأتي من الكتابة باللغة العربية لقارئ هذه اللغة، أما الترجمة فتفتح مساحة إضافية للتواصل مع آخرين في أماكن مختلفة من العالم، لكنها لا تحقق اشباعا كاملا. مع ملاحظة أن تواجدي ككاتبة مترجمة مازال ضئيلا على مستوى التوزيع، لكنه متزايد على مستوى الأبحاث الأكاديمية ورسائل الماجستير والدكتوراه، على عكس العالم العربي حيث يتحقق التواجد بين القراء ويندر التواجد في قاعات التدريس والمناهج الأكاديمية.

 

ـ هذا يدفعني لسؤالك عن مفهوم “التحقق” لديك؟ هل في الداخل أم في الخارج؟

التحقق مسألة صعبة جدا ونسبية تماما. لم أشعر بعد بالتحقق بمعنى النجاح والانتشار الخ. أهتم بالتواجد ككاتبة في سياقات المجال الإبداعي المختلفة، سواء في اللقاءات العامة أو في الصحافة والإعلام والنقد أو في المجال الأكاديمي وأشعر بتحقق نسبي على هذه المستويات وبترحيب ممن يمارسون العمل في كل هذه المجالات. لكني أشعر بالنقص على مستوى الانجاز الأدبي في الداخل، في داخل مصر وفي داخل العالم العربي. أشعر أني لم أنجز بعد عملا فارقا رغم شعوري بالرضا عندما يتعرف البعض على بصمة تخصني في الكتابة. بصمة العوالم الحميمة، أو اللغة المفتوحة على الشعر دون إطناب… في الخارج، استقر بي الحال كأستاذة جامعية، وعادة ما يندهش الطلاب والزملاء حين يعرفون أني أكتب الرواية. التحقق يكاد يكون قيد خطوات منى، لكنه أشبه بسور ممتد وكلما سرت بموازاته امتد أكثر.

 

ـ فيم يختلف القارئ المصري عن القارئ الأجنبي بالنسبة إليك، لو افترضنا أن الكاتب يعرف بعض قرائه؟

أدركت من خبرة اللقاء بالقراء في مصر والعالم العربي والعالم الغربي منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم أن كل تصورات مسبقة عن القارئ هي تصورات ذاتية، مغلوطة، محاصرة بعدد لا بأس به من التوقعات والأوهام. القارئ المتوقع في مصر وفي العالم واحد، لديه توقعات تخص الحدوتة ولا تخص الفن. القارئ غير المتوقع هو من يدهشك بسؤال يكشف ذائقة فنية خاصة، أو معرفة وخبرة بالأدب، سلبا أو إيجابا مع ما أكتب. وهو قارئ نوعي ونادر. المصري والعربي يتلصص أكثر على حياة الكاتب العربي بحكم الثقافة المشتركة، الأجنبي يتلصص على المجتمع وعلى السياق، لا يعنيه بالضرورة علاقة النص بالكاتب، فقد أعلن موت الكاتب منذ الخمسينيات، لكن تعنيه حياة المجتمعات والشعوب وتاريخها وكثيرا ما يعمم النموذج الخاص ويعتبره مؤشرا على الجماعة ككل.

 

ـ قرأت لك مرة كلامك عن تلقي الأدب العربي في الغرب، وأن المترجمين يبحثون عن نصوص معينة، تتناول قضايا معينة، وبدا لي غريباً لأن جميع أعمالك ترجمت إلى لغات كثيرة. هل يؤرقك هذا الأمر أثناء الكتابة؟

لا أفكر في قارئ عربي أو أجنبي أثناء الكتابة، أفكر في مدى مصداقية ما أكتب واتساقه مع رؤية ما للشخصيات وللعوالم التي تنتمي إليها تلك الشخصيات. أحتاط كثيرا فيما يخص الحديث عن المحرمات الدينية أو الجنسية وفي ذهني القارئ العربي، لكني أحتاط لأسباب فنية وليس فقط لأسباب رقابية. أصادر على النص وعلى المشاعر لا لكونهما صادمين ولكن لو شعرت بالمباشرة أو بالغنائية والبكاء على الذات. أفضل عادة الاقتصاد والاختزال على الثرثرة، وربما يقربني هذا من بعض القراء الغربيين ويلفت نظر بعض الناشرين لما أكتب من منطلق فني… لا أدري حقا! الروايات الثلاث مترجمة إلى الفرنسية نظرا لاهتمام الناشر بترجمة ونشر كل رواية كتبتها. أما دنيا زاد فقد نشرت بثمان لغات، في مقابل هليوبوليس التي ترجمها روجر آلن إلى الإنجليزية منذ عامين ومازال يبحث عن ناشر بلا جدوى. رفضتها دور نشر أمريكية وبريطانية وفي اعتقادي أنها ربما لا تحقق توقعات الناشرين عن أدب النساء المكتوب بالعربية.

 

ـ طيب، من هو القارئ الذي يكون في ذهن مي التلمساني عندما تكتب؟

سؤال معقد، لا أفكر فعليا في قارئ بعينه. لكني بعد الانتهاء من عمل ما أحب أن يقرأه زوجي وليد الخشاب وصديقي منتصر القفاش وصديقي جمال القصاص. أستضيء بقراءتهم للنص، وربما بشكل مضمر أكتب وهم في ذهني كأول قراء للعمل. لكنهم قراء أعرف ذائقتهم ويعرفون كتابتي ولدينا مساحة من الحرية في الحوار تسمح بحذف الزائد ومراجعة ما يحتاج لمراجعة. لكن القارئ المجهول هو من يظل حاضرا في ذهني أثناء الكتابة، وأتمنى أن يظل مجهولا حتى أسعى إليه بلا خجل وبلا تردد.

 

ـ هل تخافين من القارئ؟

ليست لدى أية شبهة خوف في العلاقة بالقارئ. هو المجهول الذي أسعى دوما لمخاطبته، وهو الصديق الذي أسعى دوما لإقناعه، وهو الحليف الذي سيأخذ صفي لو قامت معركة مع السلطة، وهو السلطة التي أذكرها أن للكاتب اليد العليا على النص.

 

ـ أنت تنتمين إلى عائلة فنية. هل هذا هو ما ورطك في الفن، وحب السينما، أم أنك اكتشفت أن في الفن ما يمكن أن يضيف إليك كروائية، أم أنك تحبين الفنين بغض النظر عن كل هذا؟

العائلة وذاكرتها القريبة والبعيدة لها تأثير بلا شك على البدايات. منذ اكتشاف محبة القراءة وغواية السينما وحتى الانخراط في موجة الكتابة الروائية. لا سبيل لإنكار ذلك. أحب اسم التلمساني وتاريخ العائلة. أحب أن أنتمي إلى هذا الاسم وهذا التاريخ. الأدب والسينما أساس في علاقتي بالعالم، أنظر إلى العالم من خلالهما، وأفهم الكثير عن نفسي وعن الناس ليس فقط من خلال التجربة الحياتية ولكن أيضا من خلال الفن. هما وسيط لا شك في فاعليته وتأثيره على ما أكتب، وكذلك الفن التشكيلي والموسيقى بدرجات متفاوتة. عايدة في أكابيللا فنانة تشكيلية وتهوى الموسيقى الكلاسيكية. فيها منى الكثير على هذا المستوى، وفيها أيضا ملامح من أبي في محبته للأوبرا ومن عمي كامل في بوهيميته.

 

ـ تحولت روايتك “أكابيلا” إلى فيلم سينمائي، ما مدى رضائك عما تم تقديمه في الفيلم؟ ولماذا لم تكتبي السيناريو بنفسك؟ خاصة أن المشكلة الأساسية التي أشار إليها معظم النقاد كانت في السيناريو؟

لم يعرض علي كتابة السيناريو واكتفيت بقراءة ملخص الفيلم ولم أشاهده مكتملا حتى الآن مع الأسف. لكني أراها تجربة مثيرة خاصة وأن شباب السينمائيين لم يلتفتوا بعد لكتاب التسعينيات وربما تكون مشكلة الحصول على الروايات أمرا قائما ومن هنا ضرورة إعادة النشر.

 

ـ بمناسبة السيناريو، كانت لك تجربة قبل سنوات في تحويل رواية “تصريح بالغياب” لمنتصر القفاش إلى فيلم، إلى أين انتهى هذا السيناريو؟ ولماذا لم تكملي في مجال السيناريو؟

انتهيت من كتابة السيناريو في نهاية التسعينيات وعقدنا جلسات عمل مطولة مع منتصر وكان من المفترض أن يقوم بإخراجه طارق التلمساني، ولكننا لم نوفق في العثور على منتج. قرأ السيناريو المخرج الصديق محمد خان آنذاك وأبدا عددا من الاقتراحات.. ثم عرض الفيلم على عدد من شركات الانتاج بلا جدوى. كانت مقدمة السيناريو قصيدة لفؤاد حداد اختارها طارق واستلهم منها عنوان الفيلم. اليوم أصبح من المستحيل خروج السيناريو للنور لأن أحداثه تدور في مدرسة تمريض عسكرية وأحد أبطاله بطل من أبطال حرب أكتوبر… أعتقد أن الرقابة الحالية لن تجيزه. كانت تجربتي الوحيدة في مجال كتابة سيناريو فيلم طويل لكني أكتب أحيانا بروح السيناريو، والعلاقة بالسينما لا تكف عن ادهاشي واثارة الأفكار أثناء الكتابة.

 

ـ ما علاقتك بالسريالية الآن. هل هي محض علاقة عائلية، خاصة بعد أن انطفأت المدارس السريالية في العالم، هل هي رغبة في استعادتها مرة أخرى خصوصاً أنك شاركتِ في ندوات ومؤتمرات أخيرة حولها، وتعملين على بحث حول السورياليين المصريين وجماعة الفن والحرية؟

أفكر في المقام الأول في ضرورة الحفاظ على تراث العائلة، لذلك أعكف حاليا على تجميع مقالات كامل التلمساني في مجال الفن والسينما بهدف نشرها في كتاب. أشعر بمسؤولية هائلة أمام هذا التراث وأسعى للحفاظ عليه قدر المستطاع، خاصة وأن أعمال كامل التلمساني في التصوير والرسم نادرة وتتعرض لمحاولات تزوير مستمرة نجحت في بعض الأحيان في إيقافها أو فضحها. أما جماعة الفن والحرية وحياة كامل التلمساني وعلاقته بالجماعة فهي ملهمة بالنسبة لي على المستوى الفني البحت حيث ساهمت في تحريك الساكن والراكد في مجال الفن آنذاك، وحتى اليوم ونحن نستعيد انجاز هذه الجماعة من خلال المعارض والكتابات النقدية. أهتم بتاريخ السرياليين أيضا لأنها جماعة ناهضت أشكال الفاشية والعنف العسكري والمؤسسي في أوروبا وفي العالم في أوج الحرب العالمية الثانية وأتصور أننا في أمس الحاجة اليوم في ظل الفاشيات العسكرية والدينية المنتشرة في منطقتنا العربية لاستنهاض هذه الأفكار من جديد والعمل على نشرها لمقاومة تلك النزعات التدميرية المعادية للديمقراطية وللإنسان.

 

ـ أعتقد أن علاقتك بالصورة الفوتوغرافية مهمة جداً. أفهم طبعاً وجود مصورين مهمين جداً في عائلتك. لكن كيف ترى مي الصورة. كيف ترى نفسها من خلال الصورة؟

الصورة الفوتوغرافية (والصور السينمائية أيضا) هي ثبات الذاكرة، أهتم بها في سياق اهتمامي بالذاكرة وليس بالتاريخ. في عائلتي اهتم بالتصوير عمي حسن وابنه طارق وهما أقرب أفراد العائلة إلى قلبي وروحي ولهما تأثير إيجابي على عملي ككاتبة وكأكاديمية. يتميزان مثل أبي بالصمت والتروي وصحبتهما فيها غذاء دائم للروح لا غنى لي عنه رغم وفاة عمي وأنا بعد في سن المراهقة. اهتماماتنا مشتركة أيضا، ولدينا نفس الإيمان القوي بأهمية الفن والصورة في ربط الإنسان بنفسه وبالعالم. تظل الصورة أيضا مصدرا من مصادري في الكتابة عندما تخونني الذاكرة. أثناء كتابة هليوبوليس وبعد نشرها سعيت لاقتناء كل كتاب التي نشرت سواء بالعربية أو باللغات الأجنبية عن الحي خاصة الكتب المزودة بالصور، كما شاركت في كتاب صدر في مئوية مصر الجديدة عام 2005 يضم أهم الصور الأرشيفية عن الحي ومنها صور من أرشيف الأفراد والعائلات. الصورة بصفة عامة ملهمة ومثبتة للذاكرة وهي وسيط لا غنى عنه في عالمنا المعاصر.

 

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 33

 3ـ

ـ عقب ثورة يناير كان لك دور سياسي بارز، من خلال مبادرة “مصر دولة مدنية”، موقعاً وتحركاً في محافظات مصر. من يزور الموقع الآن  سيفاجأ بتوقفه. هل ماتت الفكرة، أم نجحت في هدفك، أم تراجعت لديك الرغبة في التغيير؟

كانت المبادرة فردية إلى حد بعيد، بدأتها من كندا مع عدد صغير من الأفراد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة ، ثم عدت إلى مصر في مايو 2011 للاستمرار في دعم الفكرة التي بدأنا بالترويج لها عقب سقوط مبارك ودافعنا عنها حتى نهاية 2013 وهي المناداة بمدنية الدولة ضد الحكم الديني وضد الحكم العسكري. كانت التوجه العام آنذاك يسعى نحو ترسيخ ودعم التفاهم القائم بين الإخوان المسلمين والدولة المصرية ممثلة في المجلس العسكري من أجل الالتفاف حول مطالب الثورة، وكنا نعتقد كمجموعة صغيرة بلا انتماء حزبي وبلا حضور في المجتمع المدني أن أحد أهم المطالب (الحرية والكرامة الإنسانية) سيظل في خطر مستمر طالما كان الحكم دينيا أو عسكريا. وهو ما أكدته الأيام فيما بعد تحت حكم الإخوان وبعد سقوطهم. كانت مبادرة فردية بتمويل فردي والموقع نفسه أنفقنا عليه أنا وزوجي من مالنا الخاص بما في ذلك انتاج فيديوهات قصيرة للتوعية بمعنى دولة مدنية ولتمويل جولاتنا في القاهرة وخارجها.  توقف الموقع بسبب ضيق الموارد والتضييق على الحريات. لم نصل للهدف الذي قامت من أجله المبادرة، لكنها نجحت في تحريك الماء الراكد فيما يخص المادة الثانية من الدستور وفيما يخص النضال ضد المجلس العسكري وذلك لمدة عامين ونصف على الأقل، كما أن المبادرة دعمت الاحزاب المدنية الجديدة وكان لها أثر على خطاب الأحزاب الدينية التي قامت بعد الثورة والتي أصبحت تنادي بمدنية الدولة للتغطية على توجهها الإسلامي. في النهاية لا أتصور أن حلم التغيير يموت طالما نحن أحياء وطالما الظلم قائم.

 

ـ سافرتِ الصعيد ـ في ذلك الوقت ـ وعقدتِ مؤتمرات، كيف تقيمين تلك التجربة، إلى أي مدى ترين أنك نجحت في تغيير شيء هناك؟

النجاح محدود بحدود التجربة. زيارات قصيرة للصعيد بتمويل ذاتي وبدعم بسيط من حزب المصريين الأحرار لم يكن لها أثر في خضم المعارك الطاحنة التي واجهها التيار المدني من تيارات الثورة المضادة الدينية والقمعية. لكن التجربة كانت مثيرة بالنسبة لي ولمن رافقني في تلك الفترة حيث بدا لنا أن المجهود الفردي يؤتي ثماره ولو في حدود وأننا نستطيع المطالبة بالتغيير كأفراد حتى لو لم تدعمنا جماعات وكيانات كبرى. يهمني أن أقول في هذا السياق أن بعض من رافقني في التجربة منذ بدايتها اكتفي من الدعوة لدولة مدنية بإسقاط حكم الإخوان المسلمين واستسلم سريعا لوهم الأمن قبل الديمقراطية.

 

ـ هل كنتِ تتحركين وقتها بصفتك الروائية مي التلمساني، أم الناشطة السياسية؟

لم أكن يوما ناشطة سياسية. كنت دائما مي التلمساني الروائية والأكاديمية. يعنيني الترويج لبعض الأفكار مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية وحقوق المواطنة، لكني لا أستطيع العمل من خلال هياكل العمل المدني في مصر، كما أرفض الانتماء لحزب حتى لو تقاربت أفكاري مع مبادئ بعض الأحزاب القائمة. أفضل حريتي ككاتبة وكعاملة بالمجال الثقافي والتعليمي على الانتماء لهيكل.

 

ـ بالمناسبة، هل فقدت أصدقاء بسبب تحولات السياسة في الثمانية أعوام الماضية؟ وهل ندمت على ذلك؟

بالطبع، فقدت الثقة في الكثيرين، ورأيت تحولات غير مبررة في اليسار وفي التيارات الليبرالية، واحترمت تخبط البعض خاصة بعد أحداث رابعة التي اعتبرتها كارثية على مصر وعلى التيار المدني، كما تنازلت عن الكثير من الأوهام مثل وهم التغيير الديمقراطي عن طريق تكوين أحزاب والمشاركة في الاستفتاءات ووهم تحالف قوى اليسار. فقدت العلاقة بكثيرين من أقاربي أيضا، وعدنا للحديث مؤخرا باتفاق مضمر أن ننحي السياسة جانبا. لم أندم على فقد أحد لأني كسبت نفسي وآخرين ممن ظلوا ثابتين على المبادئ المشتركة والأساسية مثل حقوق المواطنة في التعليم والصحة والحريات العامة وممن ظلوا يدعمون مطالب الثورة وينادون بحق الشهداء والمسجونين السياسيين ويصرون على الأمل. هؤلاء أعتبرهم عائلتي وناسي.

 

ـ إلى أي مدى تغيرت مصر عقب ثورة يناير في رأيك؟

للأفضل في مجال خروج بعض الشرائح من النساء للمجال العام وخروج بعض الأقباط من سيطرة الكنيسة. للأسوأ في مجال الحريات العامة والفنون وعلاقة النخبة المثقفة بالنخب السلطوية. ثمة تغيرات ملموسة يلاحظها المهاجر بصفة عامة مع كل عودة لمصر، تشمل مثلا تحسن الطرق والكباري وهي انجازات دأبت الحكومات السابقة والحالية على استخدامها لبيع فكرة الاستقرار والرخاء للناس، كما تشمل التغيرات الأمنية التي طرأت على مراكز الثورة في وسط المدينة، والسيطرة التامة على وسائل الإعلام. كلها مؤشرات ضعف وقمع لا تخفى على أحد، لكن الصمت بات سمة من سمات العصر وكأن كل ما هتفنا به في ثورة يناير ضاع في الفراغ وحلت ديستوبيا الدولة محل يوتوبيا الثورة.

 

ـ هل تنظرين إلى مصر بعين الغريب العائد، أم عين المقيم؟

لا أشعر باغتراب عن مصر، لكن البعض ينتهز فرصة العودة لتذكيري بأني غريبة. لم يعد يضيرني هذا كثيرا ولم أعد أرغب في الدفاع عن نفسي. أنا مقيمة ومصر لم ترحل عني يوما واحدا. كل ما في الأمر أن المسافة تسمح بالتنفس، هواء الحرية النقي في كندا يعطيني أملا ويقيني عذاب اليأس الذي يعاني منه بعض أصدقائي، عن حق وعن تجربة، لكني أحتمي منه بالغربة. وربما يكون هذا من حسن الطالع حتى أستمر في العمل وفي الأمل.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 34

4 ـ

ـ هل أنت راضية عن دورك كأم؟ وهل الأم المثقفة الروائية، تختلف عن غيرها في رأيك؟

هو دور اخترته وأعيشه أيضا بشكل يومي رغم أن الولدين شهاب الدين وزياد غادرا بيت الأسرة منذ ما يزيد عن خمس سنوات، أحدهما يعيش بين انجلترا ومصر والأخر يعيش في تورونتو. أعتقد أننا أحسننا تربية الولدين أنا ووليد. شهاب انتهى من رسالة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا وهو كاتب مقال مدهش وباحث متميز، وزياد يخوض الآن معركة التمثيل للمسرح والتلفزيون والسينما باللغتين الإنجليزية والفرنسية في كندا ويحلم بأن تعرض عليه أدوار تعيد الاعتبار للعرب في السينما العالمية. لا شك أننا شجعنا الولدين على الاهتمام بالفن والأدب وكان لهذا أثر جيد على نشأتهما، ولا شك أن التعليم في كندا ساعدنا في تلك المهمة. عانيت أحيانا من الانفصال عنهما في الطفولة وفي الشباب بسبب كثرة أسفاري ورغبتي في الانعزال مع كل مشروع رواية جديد، وعانوا معي من عدم اهتمامي بالأدوار التقليدية للأم، مثلا كرهي للطبيخ (!!) وعدم اكتراثي بحضور حفلات المدرسة واجتماعات مجالس الآباء والذهاب لنزهة في الحدائق العامة كل نهاية أسبوع. الروتين القاتل للعائلات الكندية لم أستطع التواؤم معه أبدا، لكني قمت بالدور في حدود قدراتي وتعودنا جميعا على الاستقلال وفي الوقت نفسه على ضرورة مد خطوط المحبة والترابط كأسرة صغيرة مهاجرة. لا شك يتذكران كلمتي الشهيرة: مالناش غير بعض! ولا شك يدركان أثرها اليوم وهما ينطلقان للعالم.

 

ـ ماذا ورث شهاب منك؟

الحساسية المرهفة، الدعم الأسري، مبادئ اليسار، حب المعرفة، السرحان، العيون، العصبية، النوم في أوقات متأخرة من الليل، كره الوظيفة، السعي للحصول على وظيفة، حب الناس والاندماج رغم الخجل، الكتمان، حب مصر.

 

ـ وزياد؟

الحساسية الفنية، الخجل، مدارة الخجل بالابتسام والصمت، حب التغيير والمغامرة، الاستمتاع بالأشياء اليومية الصغيرة، فرحة اقتناء الملابس الجديدة، فرحة البحث عن بيت، الابتسامة، المرونة في التعامل مع المواقف الصعبة، كره الوظيفة، حب الحركة، الدفاع عن الحق وعن الأقليات.

 

ـ هل فكرت يوماً في العودة والاستقرار في مصر؟

 

أفكر في ذلك منذ هاجرت إلى كندا سنة 1998، ولم أكف عن الرغبة في العودة. التنفيذ رهن الأوضاع السياسية. لكن بيتي وسيارتي في مصر، وكتبي وأوراقي وأوراق أبي وعائلتي في مصر، وأصدقائي الأقرب لقلبي في مصر، وحلم التغيير في مصر.

 

ـ لك أصول جزائرية، هل بحثت عنها؟ هل تشعرين بها إذا جاز التعبير؟

بالطبع، الأصول الجزائرية بالنسبة لي هي هجرة قبل الهجرة. هي تلك الرابط الأسطوري بأرض غير الأرض وشعب غير الشعب، لكنه قريب وحبيب. شعب عربي وأمازيغي ومسلم وعثماني وناطق بلغات ولهجات متعددة. أعتقد أنني متعددة منذ مولدي وليس غريبا أن أشعر بثراء الانتماء لثقافات مختلفة عبر الأصول وعبر التعليم الفرنسي وعبر الميلاد وعبر محل الإقامة. زرت الجزائر العاصمة مرة واحدة وأتمنى العودة لزيارة تلمسان. أشقاء لي في هذه المدينة يكاتبونني من وقت لآخر ويطلبون مني أن أرسل لهم رواياتي أو يعلقون على حوار لي في التلفزيون الأمازيغي، هذا التواصل البسيط الحنون يملأ قلبي فرحا.

 

ـ من الأقرب إليك من جيل التسعينيات؟

منتصر القفاش. أشعر باحترام لإنجازه الأدبي وتواصل حقيقي وعميق مع كتاباته. لكني اقرأ للجميع. أحب كتابات ياسر عبد اللطيف وأحمد يماني وفاطمة قنديل وإيمان مرسال وهيثم الورداني وسحر الموجي وميرال الطحاوي وغيرهم ممن أتابعهم عن بعد أو عن قرب كلما سنحت الفرصة.

 

ـ ما أقرب الأماكن إليك في هليوبوليس، سواء تلك التي كانت موجودة أو لم تعد موجودة؟

الكوربة بلا منازع هي أحب أماكن الحي إلى قلبي. شانتييه مكاني المفضل للقاء الأصدقاء أو الأهل، وجروبي والأمفتريون بدرجة أقل. وقاعات السينما مثل سينما روكسي وسينما نورماندي… وإن كنت لا أرتادها بكثرة وأفضل عليها قاعات السينما الأحدث. أحب السير في محور ميدان الاسماعيلية حتي الكوربة، والتجول في منطقة شارع هارون الرشيد لشراء مستلزمات البيت كما اعتدت في الطفولة. أحب المرور بالسيارة أمام قصر البارون، وعبور نفق العروبة باندفاع من تعرف طريقها جيدا. أحب أيضا المرور بمناطق محيطة بقصر الطاهرة وشارع الخليفة المأمون وميدان المحكمة وشارع الحجاز. لا تستهويني منطقة الكلية الحربية على الإطلاق وحدودي تنتهي عند ميدان سانت فاتيما. أحب كل كنائس الحي القديمة وأحب منطقة ميدان الجامع والميريلاند وغرناطة. أما أقرب الأماكن لقلبي فلم يعد له وجود، إنه مكتب أبي المطل على ميدان أبي بكر الصديق.

 

ـ ما الذي تفتقدينه في مصر؟ ما أول الأماكن التي تحرصين على الذهاب إليها عندما تعودين؟

أفتقد مكتب شرقيات وحسني سليمان، 5 شارع محمد صدقي. كان المكان الأول الذي أحرص على زيارته حال وصولي للقاهرة منذ أن هاجرت وحتى اغلاق المكتب منذ ما يزيد عن عام ونصف. أفتقد نادي الشمس، لم يعد مكانا يصلح للنزهة والاستجمام والاستحمام من وجهة نظري. أفتقد منطقة وسط البلد بعد أن تم تعقيمها أمنيا. أفتقد النيل في منطقة أسوان ووادي الدوم في العين السخنة وبحر اسكندرية في الشتاء. أفتقد بيت أبي بعد أن غاب عنه كل من أحب، أبي أولا وأمي ثانيا وهي الآن مقيمة في بيت للمسنين وأخي خالد مؤخرا.

 

ـ معظم صداقاتك في الوسط الثقافي قديمة وطويلة، لماذا لم تحصلي على صداقات جديدة في الفترة الأخيرة؟

هناك صداقات نشأت واستقرت في مرحلة الثورة وما بعدها. أعتقد من أهمها بالنسبة لي صداقتي بهشام أصلان وهو الأقرب إلى قلبي، كما كان ابراهيم أصلان قريبا مني دون أن نلتقي كثيرا. وصداقتي للشاعر زين العابدين فؤاد وزوجته الحبيبة جوسلين. وهناك صداقات ترسخت بسبب التواصل على المستوى الفكري والإنساني مثل صداقتي بكرم يوسف مديرة دار نشر الكتب خان. وصداقات خارج إطار الصداقة اليومية، منها صداقتي بمارسيل بروست وجيل دولوز وادوار سعيد وهم بعض ناسي وعلاقتي بهم تتجدد مع الزمن ومع القراءة وإعادة القراءة. لكن بالتأكيد البعد عن القاهرة معظم شهور السنة يفقدني بوصلة التواصل مع الكثيرين وأعوضها عادة بالكتابة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

 

وهل هذا متعلق بطبيعتك الشخصية؟

أعتقد أن معارفي كثيرون وصداقاتي قليلة واستثنائية. الحال نفسها في كندا، حيث لدي صديقة هي بعض عائلتي وهي الكاتبة منى لطيف غطاس، ولدي صديقان مقربان بالجامعة أحدهما أستاذ في مجال الدراسات السينمائية والأخرى استاذة علوم سياسية وهناك معارف كثيرون غيرهم وصداقات قديمة تتباعد بسبب الانتقال من مدينة لمدينة. تشغلني مسألة الدوام في الصداقة وكتبت عنها، لكن طبيعتي رغم المظاهر هي طبيعة مندفعة في اتجاه تكوين صداقات جديدة ومندفعة أيضا في سرعة بترها والتنازل عنها حين يتضح أنها قائمة على مصلحة ما أو أنها صداقة هشة مشروطة بشرط لم يكن واضحا لي منذ البداية.

 

ـ كلمة عن خالد التلمساني؟

هو شقيقي الأصغر بعام، وهو من تركنا ورحل في حادث سيارة منذ أشهر قليلة، في سبتمبر 2018، عام الحزن على خالد. هو شقاوة العيال في مصر الجديدة، وأسرار الحب الأول في حياة كل منا، هو من تلقى علقة نيابة عني وهو رفيقي في لعب الشطرنج مع أولاد الجيران، هو ذلك العملاق الذي أشب على أطراف أصابعي لأقبله، وهو أبو العيال المهموم بعد أن فقد رأسماله في مصنع لم يكتب له الاستمرار بعد الثورة، وهو الشجار الدائم حول حال السياسة وحال البلد، وهو الإيمان الذي لا يلين بأننا أحسن حالا في مصر من أي مكان في العالم، هو خفة الدم حتى آخر نفس، وهو سرعة البديهة والضحك المتواصل في حضرة طارق وفي وجود أمي، هو السؤال الذي يظهر على شاشة الكمبيوتر في آخر الليل: أختى الحبيبة انتي كويسة؟ وهو ساعات كاملة من الحديث عن الأمس والغد، عن الحلم والحقيقة، عن السينما وأسرار النجوم، عن أبي وعن أخي الأكبر، عن حبه لزوجته وأولاده، عن هوايته للرسم، عن رواياته المكتوبة بالعامية، عن سيناريو المسلسل الذي أكمله قبل الوفاة وكان فخورا به. هو أخي الصغير الذي علمته أصول الأدب على المائدة والذي علمني ألا أحمل هما، ولو حملته أن أتحدث عنه وألا أكتم الحزن. باسمه كتبت غرفة من غرف بيت التلمساني، البيت الذي أتمنى أن أستضيف فيه في المستقبل القريب الروائيين والشعراء وكتاب السيناريو، وباسمه زرعت شجرة مانجو في ساحة البيت أتمنى أن تكبر وتصبح في حجم شجرة المانجو التي كنا نجلس تحتها في عزبة التلمساني بنوى القليوبية. هو الباقي في الذاكرة وهو السند لأمي ولأولاده حتى في الغياب وهو الفنان الذي لم تعطه الحياة فرصة حقيقية ليثبت نفسه للعالم.

 

ـ ما الذي يخيف مي التلمساني؟

العنف النفسي والبدني، الكره، النسيان.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم