معلق في الفراغ

الشاعر عيد صالح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عيد صالح

  كيف تكون البداية وكيف أخطو على صراط مشتعل ومتى وأين كانت اللحظة الفارقة هل اختارتنا الكتابة أم اخترناها..؟ هل هي هبة السماء أم لعنتها هل هي شقاء المبدع أم جنته..؟ وهل تستطيع بعد رحلة الألف ميل أن تصف الخطوة الأولى ربما على رصيف الزمن وخريفه ينتابك الزهو فتروح تروج لأكاذيب عن طفولتك العبقرية وعن ينابيعك السماوية وعن إرهاصاتك وشياطينك وملائكتك وسدنتك وحراسك في مملكة الشعر التي أنت أميرها المتوج وفارسها الذي لا يشق له غبار بيت أو تتصدع له جدران قصيدة أنت إذًا في مأزق الكتابة الغواية الذات الأنا الماضي الحاضر غابة وأحراش وحشائش ومستنقعات أشجار السنديان والنخيل الجسر والنهر والزورق والعصفور والأفق البعيد.. البعيد لكنك منذ البداية تنازعتك الأهواء وتشعبت بك السبل حتى أدخلتك بيت العنكبوت لم تجد طريقك وخلاصك حتى امتد بك الزمن وما زلت في انتظار القصيدة التي لم تولد بعد مصلوب أنت في دوامتك وفراغك في صخبك وصمتك في موتك اليومي على شفرة العالم والناس والبنايات والأرصفة والشوارع التي تضمنا بقسوة وتلقينا فوق صخرتها بلا هوادة صغارا كنا تلقفتنا يد الأزهر الهائلة تعلمنا الحب والشعر والكلمات وعلى ضفتي النهر نتمدد بسيقاننا النحيلة في مياه الفيضان نتقاذف الحكايات والأشعار من امرئ القيس والمتنبي وأبي تمام للبؤساء وروكامبول نذرف دموع المنفلوطي تحت ظلال الزيزفون وننشد أشعار سيرانودي دي برجراك تحت شرفة روكسان.

في معهد دمياط الديني حفظنا ألفية ابن مالك وتهنا في شذور الذهب وتنقيح الأزهرية الجديد وأوضح المسالك عالم الجواهر والكنوز لكنه الصدر تملؤه الثورات والحكايات المشايخ والأصدقاء البنات واليشمك الذهبي تبارك من خط تلك الملامح يا أيها الصب رفقا بقلبي الذي أنهكته الجروح ليست دمياط المدينة فقط كانت “الشبول” قريتي البعيدة حيث انطلاقات الصباح المدجج بالبراءة والشقاوة والندى والأريج وحيث بحيرة المنزلة وأسماكها التي يلونها الفيضان وجزرها المتناثرة ومراكبها الشراعية وبورسعيد وبورفؤاد، وحيث كانت تلك الأماكن مهبطي وهواي وحيث كانت تلك الروح المتمردة الكبيرة تسكن جسدا ناحلا لم يتحقق في أية هواية مارسها من كرة القدم والصيد في النهر والبحيرة ومحاولات التمثيل الفاشلة في فريق التمثيل بمعهد دمياط الديني.   

وفي رواد ١٩٦٤ بداية رائعة مع يوسف القط ومصطفي الأسمر وكامل الدابي ومحمد النبوي سلامة والسيد الغواب والأستاذ سعد الدين عبد الرازق كانت بداياتي قصصية لكنهم قرؤا قصصي موزونة وأشعاري محكية هكذا أعطوني خيط الشعر وبوصلته لكنهم تركوني في غابة الاختيار أعاني ازدحام النص ووقوفه على حافة السرد /الشعر.

كانت طموحاتنا هائلة وأشواقنا تطوحنا في عنان السماء ثم تعود وتلقي بنا على صخرة الواقع في هموم الحياة/ الدراسة /الطب /الجيش / الوظيفة، الحياة التي تلتهم المبدع والإبداع تطحنه وتبتلعه في جوفها وهي هي الحياة التي تصقله وتجلوه وتصوغه حكاء ومنشدا، الحياة التي نعشقها ونذوب فيها بشرا ومدنا وأنهارا وسماء وأقمارا وشموسا وأمطارا وأودية وسهولا وتلالا…!!.

     نحن جيل لا يدعي البطولة ولا يستعذب الهزائم ولكنه الجيل الذي اجتاحته الأحلام العظيمة والانكسارات الرهيبة، جيل جمال عبد الناصر وجمال حمدان وصلاح عبد الصبور نحن وأعني بها أمثالي ممن سقطوا من تصنيفات الأجيال حيث ننتمي عمريا وبالنشر لجيل الستينات (بدأنا النشر في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي نشرت أول قصيدة لي في مجلة الأدب لأستاذنا أمين الخولي في مايو ١٩٦٥) إلا أننا لم نعرف إلا في السبعينات كانت مرحلة المد الثوري في الستينات في كل المجالات قبل أن تُضْرَب في هزيمة 1967 لينهار الحلم القومي وحتمية الحل الاشتراكي، ومع ذلك كنت أكتب بعض القصائد لتذاع في برنامج كلمات على الطريق ترفض الهزيمة وتنادي بالمقاومة والتحرير كنت أزور الجبهة وأنا طالب وحضرت معركة رأس العش مع القوات ورأيتهم يطورون الـ آر بي جي المضاد للدبابات في حرب الاستنزاف المجيدة.

     انقطعت لفترات عن الكتابة لأسباب كثيرة لأعاودها عام 1976 لأكتب وأنشر في الكاتب عند صلاح عبد الصبور وأدب ونقد ومنها لإبداع للدوحة للبيان الكويتية الخ الخ.

     ظللت عزوفا عن طباعة ديوان حتى شجعني صديقي د. يسري العزب وأعطيته ديواني الأول وبعد 3 سنوات أكتشفت أنه ضيعه وأعطيته ديواني الثاني “قلبي وأشواق الحصار” لينشر عام ١٩٩٠ ثم “شتاء الأسئلة” ١٩٩٥ و “سعفة من زمن

جريح” 1997، و “أنشودة الزان” 2002، و “خريف المرايا”  ٢٠٠٨ ثم “رحيق الهباء” 2010، و”سرطان أليف”  2011و

“ماذا فعلت بنا يا مارك”2015 ، ثم الديوان التاسع “ربما في صباح آخر 2018، وتحت الطبع كثيرون “مروا من هنا”.

     مفتون أنا بالصورة لا باعتبارها كلا أو مضمونا ولا بجمالها وظلالها وألوانها ولكن لأنها جمال الشعر وفتنة القصيدة لأنها التجسيد الحي لما يتجلى لحظة الكتابة الصورة هي الوعاء والثوب والجسد معا هي الأعضاء المتحركة في ديناميكية النص الجميل الساحر الغامض، وربما كنت من أوائل الذين كتبوا المشهدي واليومي والسردي ولكن بعدنا عن منافذ النشر وعزوفنا عنه وإقليميتنا كل ذلك ألقى بنا في سلة الإهمال والنسيان ليس بكاء ولا ادعاء وليس وقت النفي والإثبات للسبق والتأصيل.. سبق من.؟ وتأصيل ماذا..؟ وكل شيء طالته آلة الدمار والعبث.

     مفتون أنا بالنص النثري في تجلياته وفي الحرية التي لا تحدها أطر أو نمذجة أو تكرار تلك الكتابة المنطلقة المنعتقة من أغلال العمود المستهلك والمحملة بماضي لم يعد هنا وصحراء عمرت حتى في بلادها وخيام وجمال وحداة لا زالت تعربد في قصيد بادية تركب الآن الليموزين والنفاثات تلك الازدواجية في الشخصية التي تعيش سرعة الضوء وتختصر العالم والماضي والحاضر في شاشة بكف اليد ومع ذلك لا تريد أن تتخلى عن أوزان جمعها الخليل ابن أحمد من البوادي وقاس عليها وبالتأكيد فاته في عصره من لم يندرج تحت بحوره وأوزانه وعلله وزحافاته ومع ذلك لا خوف على القصيدة لا حدود للكتابة لا تخوم لا فواصل أو أقواس حتى لو كانت أقواس قزح أو أطياف بورخيس أو مدن أكتافيو باث أو لآلئ شيركو بيكه سي أو عواء ألن جنسبيرج أو متاهة ماركيز أو حرافيش نجيب محفوظ.

   أُومن بوحدة الفنون التي تداخلت واندمجت بانشطارات الحداثة وما بعدها حد الإلغاء النوعي وصولا للكتابة المنطلقة المنعتقة التي لا تحدها أجناس ولا يحمي شواطئها كهان أو حراس فقط على المبدع أن يفتح سراديبه وأعطافه وخوابيه لتنطلق الملائكة والشياطين والأطفال والشيوخ والهواجس والأغنيات والصراخ والشبق والأنين والأحجيات واللوغاريتمات والثورات قطارات الموت الحياة الأمطار الزلازل والفيضانات…الخ الخ الخ.

     ليس للكتابة طقس أو حضور ليس للقصيدة مخدع أو سرير ليس للإبداع زمان أو مكان ربما أكتب في الشارع أو في الباص أو على مقهي أو في ركن بناية مهجور مزقت آلاف القصائد والنصوص حتى ما نشرته وسلم من بطشي وتحدد في ديوان أنظر إليه كجريمة اقترفتها، ويجب التخلص منها أحيانا ما تمزقه يكون هو الأفضل في عيون الآخرين ربما كان بمشيمته وسائله الأمنيوسي حتى قبل الصرخة الأولى غضا فاتنا جميلا؛ لا أدعي أن الكتابة خلاص أو بديل للجنون والانتحار ولا أدعي أنها للتحقق والفرادة لم تسقط الأيدلوجيات والمقولات الكبيرة كما يدعون ولا أقول بنبوة المبدع ولا المدن الفاضلة ولكنها الأشكال والبنى والأغراض التي تتسع لكل ما هو إنساني وجمالي بعيدا عن الفجاجة والابتذال.

…………………….

     لابد أن أشير الى مهنة الطب لا باعتبارها حرفة ولا باعتبارها رسالة، ولكن باعتبارها حياة كاملة تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات حيث يلتقي الموت بالحياة ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات عزف إنساني رائع لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك شوكة الألم الممض لا شيء أجمل من لحظات الصدق حين يتجلى الانسان ضعيفا بريئا خائفا ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة ورجاء واعد بعودة نظيفة للحياة لكنها أيضا مهنة الطب التي انتزعت عشرات القصائد والقصص والحكايات وألقت بها في قسوة داخل عنابر المرضى وأروقة المستشفيات والأسرة البيضاء؛ ولم أجد الوقت ولا الظروف لأستردها من أنياب المهنة العظيمة القاسية الرحيمة الجميلة المرعبة الحانية الباترة العجيبة العجيبة.

      توزّعت بين الطب والشعر تنازعاني واقتتلاني ليتركاني مشروعا لا أزال طبيبا نصف الوقت شاعرا نصف الوقت وفيهما للأسف تعيش ازدواجية أن ينفيك الأطباء شاعرا ويلفظك الشعراء طبيبا لكنها مهنة الطب تظل أبدا تلك المتأبية السامقة أملا غاليا في ترويضها داخل القصيدة/ النص ويظل طموحي أن أكتب الطبيب متألقا محاربا في جيش الإنسانية العظيم ضد عدو ضئيل متوحش خائن جبان يتسلل داخل الجسد ويستولي على حصونه ودفاعاته وينصب مدافعه مستعملا أسلحته الفتاكة لتتساقط الأجساد وتتوقف القلوب وتسكت الأدمغة ونقف عاجزين مكتوفي الأيدي والمشارط والأجهزة.

     ونستغرق في البكاء على المصير الإنساني الفادح يظل طموحي أن أكتب الطبيب الذي ذكرت وأعيش الشاعر في بساطته ورقته وهشاشته وقوته واندفاعه وثورته وغضبه في عبثه وإهماله في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفا خرافيا تشده وتلتهمه وتتمثله نصوصا جميلة لعينة شقية حبيبة حبيبة مارست على فترات متقطعة كتابة بعض القراءات لنصوص أحببتها لا أدعي انها نقد إلا أنني ممن لا يعترفون بأحكام القيمة التي تجاوزها النقد الحديث والذي يدعو إلى نزول الناقد من صومعته الأكاديمية إلى شارع الإبداع والوقوف علي الإبداعات الشعبية والتي لها جماهيريتها بعيدا عن التنظير والتأطير بعيدا عن القطعية والحدية لدرجة النفي والإلغاء وحيث يتعدد إنتاج النص بتعدد القراءات وتعدد هوية وثقافة ورؤى القارئ/ المنتج الجديد للنص بعد موت المؤلف وموت الناقد أيضا، ومع ذلك تظل هناك المعايير والأطر العامة للنصوص في أشكالها الفنية المختلفة.

     أرى أن الشاعر إما أن يقول شيئا مختلفا عن الآخرين وعن نفسه بألا يكررها أو يصمت وأن الشعر كثير ومتجاور ومتنوع والجودة تحكم، والموهبة تؤصل، وفي كل خير ورغم انحيازي لقصيدة النثر ربما لأنني بدأت حياتي كاتب قصة وأثر ذلك على قصيدتي بنائيا ودراميا وسرديا إلا أنني أرى أن عناصر الصورة الشعرية يجب أن لا تتوقف عند التخييل والمجاز مهما كانت الموهبة ويجب الاستفادة من المنجز الإبداعي في سائر الفنون من تشكيل ونحت وسرد ومسرح وأوبرا وموسيقى، والتي تداخلت حد الفوضى الجميلة والتشظي المدهش علينا أن نكتب الواقع الإنساني الموازي والذي تجاوز الخيال ونتلمس الجمال في القبح والكمال في النقص والنظام في الفوضى والعبقرية في الجنون والجنون في التجاوز والاندفاع أومن أن أجمل قصيدة لم تكتب وأن النص مفتوح والنهاية بداية والبداية شرك ومأزق كمخاض بكر في ولادتها الأولى.

     إنه الشعر إذا ذلك الساحر العجيب الغريب المنفلت المراوغ وسط جلجلة المشاعر يحتويك يصارعك يصرعك يشدك يزملك يضمك بقوة وحنان وجنون واندفاع.

     إنه الشعر الأبي العنيد الآسر الدكتاتور أجمل الأمراء والصعاليك والملتاثين هو الوردة والعصفور والندى والشلالات والسيول/الرياح /الزوابع /الزلازل/البراكين/الموسيقى / الصمت /الصفاء /الوداعة /البريق /البروق /الأشرعة /الزوارق /الطوربيدات /النوارس /الشواطئ /الجداول /الجنادل /الهمس /الصراخ /الرقص /الأنامل /الرحيق /الحريق إنه الشعر الوطن /الحبيبة /الإبن /الأرض /السماء /السحاب /الطيور /الأناشيد /الزغاريد /الجدّات /الأحفاد /اندفاع الصباحات /ثرثرة الجارات.

      إنه كل شيء وأي شيء ذلك الذي لا حافة له لا جدار لا أسوار لا خوف لا أمان لا يقين تتعدد الأسطح والوجوه والزوايا في المابين أنت معلق من خافقيك مشدود من روحك يا هذا يا صغير يا طفل يا عجوز يا مسكين يا غرير لست سوى شويعر يقدم أوراقه في بلاط الشعر.

     عله علك ذات قصيدة أو بيت تستطيع أن تقف به في أحد نواصي التاريخ حيث يتناقله الحفدة وما تعاقب وامتد في الزمان والمكان .

…………………

*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم