مرآة 202

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يتردّد اسمي قليلًا في الصحف والمجلات. أعمل بالسينما والأدب منذُ عشر سنوات. لي فيلمان روائيّان، وثلاثة كتب هزيلة من حيث عدد الصفحات، إلّا أنّني أفضل اعتبارها هزيلة أيضًا من حيث المضمون، لا يمنعني من نظرة التشاؤم تلك، غير بعض الأصدقاء العاملين في المجال نفسه، الذين يحتاجون بدورهم منى عندما تأخذهم النظرة نفسها المتطيّرة أمام إنتاجهم إلى نفي مقابل يؤكّد قيمة أعمالهم الهزيلة. أكره تلك المنفعة التبادلية التي كانت تؤدّي بترقُّب شَرِه لكلمة مدح تخرج من الفم متكاسلة ملتوية، كأنّها تفكّر في المقابل، حتّي قبل أن تنتهيَ حروفها القليلة المبتسرة. تتلفت كلمة المادح بشكل أبدى، باحثة عن كلمة أخرى تخرج من فم الممدوح، لتساندها وتعادلها في القيمة. تتمّ هذه العملية كانعكاس مخايل يضرب الكلمتين معًا بالزيف والفتور. دخل سعيد من باب الكافيتريا الزجاجى. تقدّم ناحيتى، وفي يده مجلة، عرفت قبل ساعتين أثناء حديثي مع والدته، أنّها مجلته الأسبوعية. تذكّرت صوتها عبر التليفون. كانت تؤكّد أنّ ولدها بعيد كلّ البُعد عن أسباب الراحة والرفاهية في عمله الشاقّ الذي يتطلّب منه صعود عشرة طوابق يوميًّا للوصول إلى مقرّ مجلته في الطابق العاشر، في الوقت الذي كنت في تعمل بالسينما والأدب. كانت الأمّ حزينة مضطربة بسبب المفارقة التي مفادها، أنّ «سعيد» يصعد عشرة طوابق يوميًّا منذ عشر سنوات، وأنا أمارس السينما والأدب منذ عشر سنوات. دافعت عن نفسي قائلًا: إنّ كتابة فيلمين، وخروجها إلى النور، استغرقت منّي عشر سنوات، ألا يمثّل كلّ فيلم على الأقلّ، مجهود خمسة طوابق من الصعود؟ ناهيك عن وجود مصعد يستطيع سعيد استخدامه وقتما شاء. أنت تعرف أنّ المصعد بسبب ضغط زبائن كافيتريا الطابق التاسع، هو في حالة عطلة شبه دائمة، أو هو موقوف على خدمة الكافيتريا فقط. أحسب أنّك تقضي نصف وقتك في الكافيتريا، وبرغم سكنك في الطابق الثامن، إلّا أنّك لا تتورّع عن استخدام المصعد للطابق التاسع. قلت، على العموم، يقطن سعيد في الطابق السابع، فهو لا يصعد الطوابق العشرة دفعة واحدة، بل قد يكون في الحقيقة لا يصعد سوى ثلاثة طوابق فقط. ضحكت والدة سعيد وقالت: إنّ سنواتك العشر لم تكن خالصة لوجه الفيلمينِ. هناك ثلاثة كتب هي بمثابة الطوابق الثلاثة التي تحتج بها على ابني. إنّ آخرَ ثلاث سنوات من تاريخ سنواتك العشر، أي من السنة السابعة، كانت سنوات رخاء ووفرة وسهولة. كتاب كل سنة على ما أعتقد، تمامًا مثل الطوابق الثلاثة التي يصعدها سعيد بسهولة ويسر إلى مقرّ المجلة في الطابق العاشر. إنّني أجد الشجاعة في إعادة كلمات زوجته على أذنيك. يختفي سعيد من أمامي في لمح البصر. ألتفتُ لصُنع شيء ما، شيء بسيط هيّن لا يستغرق إلّا لحظات، فإذا بزوجي ينسرب إلى الطابق العاشر. لم أستطع يومًا لِحاقه على درجات السّلّم. آه... كم هو سريع في الصعود.

سألتُ نفسي من غير أن أجد جرأة توجيه السؤال مباشرة إلى والدة سعيد، إذا كان ابنها يصعد من طابقها الأول إلى الطابق العاشر بحماسة صعوده نفسها وسرعته من الطابق السابع إلى الطابق العاشر؟ هل كانت الرغبة في الصعود تأتي «سعيد»، وهو في الطابق الأول، مفاجئة كما تأتيه في الطابق السابع؟ إنّ عشرة طوابق تجعله يفكّر كثيرًا قبل المجازفة بقرار الصعود، إلّا إذا كانت فكرة استخدام المصعد تتزامن وتبرق في رأسه مع قرار الصعود.

1

كانت مشاهد فشله وعجزه ووحدته، تحتدّ وتصفو مع الزمن، مع الاجترار اللا نهائي الوئيد المسالم في الساعات القليلة قبل نومه. هناك في عزلة الليل، وهو يدخل فراشه، تظهر بحضور بالغ القوّة. كأنّها تعرف أنّ حاجته الدائمة للنوم الهادئ، تجعله ضعيفًا دون مقاومة تقريبًا. هي لم تتنمّر عليه هكذا في ساعات النهار. تتوهّج المشاهد كجمرة بعيدة في ظلام شاسع. تتنفّس الجمرة كلّما خبت، بنَفَس ذاكرته المحموم. تضعه على حافّة الصدق أو عدمه، من أنّها حدثت في الماضي أم لم تحدث، ثم تضع برفقٍ بين يديه الفروق الطفيفة التي كان لها أن تجعل الفشل نجاحًا والعجز قدرة والوحدة حياة.

 

2

طرفان. طرف بعيد ناءٍ في وحدانيته، بنفسه يقوم، وعليها يعتمد، وطرف قريب يستشعر النأي والبُعد بالمناجاة.

3

أشعر بها أحيانًا، لكنّها في الغالب تعمل بخفاء، بعيدًا عن الضبط والتحكّم، عن إرادتى، وضدّي على نحوٍ دائم. كأنّها عقاب على ذنب لم أقترفه، ذنب مجهول غامض، لا أستطيع المجازفة بنكرانه. لهذا أجد في العقاب شيئًا من العدل، شيئًا من الراحة، وأنتظر في الوقت ذاته زواله، أو أقوم بتقدير حجم الذنب الغارق في النسيان، قياسًا لطول العقاب وثقله. التقدير قائم على حدس، على فراسة، على تنبؤ بماضٍ فقدته، ماضٍ يشب بفقدانه غيب المستقبل. كانت نظرة التنبؤ تجعلني مستثارًا بنهاية العقاب، بل تجعلني في مأمن من العقاب ذاته.

4

يبدأ الحزن لأسباب واقعية، ثم يرتفع مع الزمن، ليصبح حزنًا عاريًا، لا يحمل للواقع ذاكرة أو نسيانًا. هذا الحزن هو ما يظهر على امرأة تجاوزت الأربعين. مسحة الحزن تغطي كل شيء فيها بشفافية لن تزول. أحيانًا يُخيّل لي أنّني أريد أن أدفع عنها تلك الشفافية، لكنّني لا أعرف من أين تكون البداية، وكلّما حددتُ نقطة للهجوم على اعتقاد أنّها المنبع، برزت لي مئات النقاط الأخرى، كزجاج سيارة أصابه سرطان.

5

الفرق بين النسيان والذاكرة، أنّ النسيان وَهمُ الذاكرة وصنوها. النسيان غابة عذراء، بأشجار ووحوش، والذاكرة فاتح مغامر. ما يقع من الذاكرة مرّة، ثم يُستعاد، لا نطلق عليه كلمة النسيان. إنّ المقصود بالنسيان هو ما لم تمتلكه ذاكرة، هو موت المغامرة في الغابة.

6

أراحت عينيها، وهي تميل برأسها، فسقطت خُصلة شعر أمام وجهها، على كتاب لها في يدى. كان جلوسها على طرف المقعد الخشبي المحدوف في حضن بحر هائج، حُلما رومانسيًّا، قرأت عنه، وشاهدته في الأفلام، وحدست به، وأنا جالس على الطرف الآخر من المقعد. ومع هذا، ومع أنّه حُلم، ومع أنّه رومانسى، حركتُ الكتاب مع حركة رأسها، لتقرأ اسمها على غلافه، دون الإيحاء بأنني أعرف أنّها هي صاحبة الكتاب. وبعمي الصدفة عندما تتضاعف، فتجهض المعنى الوليد، وتكبت انطلاقه، وتماثله بمرآة عاكسة، أخرجتْ من بطن حقيبتها الجلدية، كتابًا لي، وهي ترفع بيدها الأخرى سقوط الملاك عن وجهها.

7

كانت الصرخة حادّة ثاقبة أليمة. شقّت الصمت، وجرت في الليل، كما يجري البرق في السماء. كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل. التفتُ ناحية البيت الذي يُشرف على شارع عريض. كان من طابقين. وكان بابه من حديد أسود مشغول، ومن وراء باب الزجاج السميك المشتعل بضوء ضعيف. كان الضوء الداخلي يشعشع الزجاج كلّه، ويبرز رسوم الحديد لمَن هو في الخارج، أشدّ سوادًا وحلكة، ويخفف في الوقت ذاته من ثقل مادّتها على العين، فتبدو في اشتباكها المتناغم كأنّها ظلال قاتمة لا تعوق من يندفع خلالها إلّا بانعكاس لطيف على وجهه وجسده. انفتح الباب فجأة، واندفعت منه مضطربة خائفة، بشعرها الثائر، ونظرتها الممسوسة. كتمت رجفتها في صدرى. رأت شبحًا في غرفة نومها. كان يجاهد في إخفاء ساقَيه المشعرتين الحيوانيتين تحت سريرها. قلتُ مثل هذه.

8

كانوا محشورين داخل أسطوانة دائرية مشطوفة بحدّة، كأنّها أعِدت للكتابة. أجسامهم مدهونة بزيت، ممّا جعل حركة سيقانهم زلقة حرّة. كانوا عُراة، ولا تظهر وجوههم، وهذا ما جعلني أفكّر، كيف يتنفّسون داخل الأسطوانة؟ وفي الحال شعرتُ بالاختناق. أتيتُ مع جرسون الحفل وخطيبته بعد أن عضّني كلب صغير. اقترب الجرسون وخطيبته من الأسطوانة، وسأل عن عيادة الطبيب. كان الجرسون يعرفهم، لكنّ الخطيبة كانت أقرب إلى الأسطوانة. وكان الجرسون لا يجد بأسًا في ذلك، فهو يثق فيهم برغم ضحكاتهم العدوانية. فجأةً امتدّت السيقان اللامعة بسرعة خاطفة إلى الخطيبة.

كان صوت صراخها مؤلمًا، وهي تنجذب لعمق الأسطوانة. رفرفت بساقيها اللتين اكتسبتا شيئًا من ملمس الزيت الغنى، تشبّث الجرسون بساقي خطيبته دون جدوى، ثم نظر إليّ بعينين دامعتين وقال، على الأقل تستطيع أن تستخدمها في الكتابة. لم أتثبّت إن كان يقصد حادثة خطيبته المأساوية أم يقصد الأسطوانة المشطوفة على شكل ريشة قلم.

9

أتينا من فوق الأشجار، كأنّ الشارع الذي سلكناه قبل قليل من الوقت، في مستوى قممها العالية، أردنا الهبوط، كنّا مندفعينَ ضاحكينَ. كنت في المقدّمة عندما توقفتُ حاجزًا الجميع خلفى. كان الخطر أسفل للأشجار. ثمّة شخص أطلق بعض الكلاب الفَتيّة، كانت أجسامها متوتّرة خافقة بتلاحق أنفاس نَهِمة. تخيلتُ أنّها إن لم تجد ما تنهشه خلال دقائق، فستدور على مَن أطلقها، طال أحدهم قدم أحدنا، كان صوته هو يمزّق اللّحم خليطًا مكتومًا من الشخير المبتلّ.

10

هكذا كان الحُلم. كنتُ في لحظة ألم. وكان صوتي يخرج بكلمة يعرفها الجميع عند التصريح بالألم. آه.. آه. كانت هناك لحظات صمت بين كل آهة وأخرى، بعد قليل أخذ الصمت شكل الإيقاع. كان الإيقاع يؤبّد الألم بشكلٍ ما، وفي الوقت نفسه يخفّف شيئًا منه. كأنّ التخفيف رشوة لبقائه. لم أتبيّن إن كان الألم جسديًّا أم نفسيًّا، ولهذا لم أعرف الرشوة مدفوعة لمَن.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون