مجتزأ من رواية “إلياس”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أنا إلياس وأعيش في أرشيف. في أرشيف ضخم. في أرشيف هائل. في أرشيف يبدأ من البلكونة. البلكونة التي تطل على الشارع عبر نافذة مربعة. البلكونة التي تربط بين غرفتين. البلكونة الممتلئة بكراسات وأوراق مبعثرة. الأرشيف يغطي غرفة النوم. يغطي غرفة النوم باستثناء السرير. يغطي غرفة الأنتريه. يغطي غرفة الأنتريه كاملةً باستثناء كرسي وحيد. يغطي الريسيبشن. الريسيبشن الخالي من قطع الأثاث. الريسيبشن المغطى بالكليم. كليم صناعة يدوية. صناعة يدوية جيدة.  الأرشيف يصل إلى الحمّام. يخترق الحمّام. ينتظر جزء من الأرشيف فوق رفوف عالية. ويسير إلى المطبخ. يقف عند باب المطبخ. يعبر إلى غرفة المكتب. يملأ غرفة المكتب. وبين الممرات أعيش أنا. أعيش محاطاً بتاريخ ينتمي لي. بتاريخ لا ينتمي لي. بتاريخ وأنا لا أعرف شيئاً عن التاريخ. أكرر: لا أعرف شيئاً عن التاريخ. أوضح: ربما لا ينتمي لي. البيت بهذا الشكل يشبه الجسد. جسد ورأس الجسد البلكونة. ذراعا الجسد غرفة النوم والأنتريه. رقبة الجسد الريسيبشن. صدر الجسد  الحمّام. بطن الجسد المطبخ. إحدى ساقيّ الجسد غرفة المكتب. والساق الأخرى غير موجودة. سأقول الجسد جسد أعرج. سأقول الجسد الأعرج يشبه جسدي. جسدي الذي فقد قدماً. بيتي بهذه الطريقة بلا عضو ذكري. لكن جسدي له عضو ذكري. جسدي الحمد لله له عضو ذكري. عضو وأنا لم أفقد العضو في مدينة الخسائر. عضو صاحبني في الشوارع والأزقة وبيوت الدعارة. ثمة قدم أخرى تحل محل قدمي المفقودة. قدم أخرى صناعية. قدم صناعية لها حذاء مخصوص. قدم تشبه قدمي الأصلية. لا أشعر مع قدمي الصناعية بفقد قدمي الأصلية. لكن قدمي الصناعية مختلفة عن قدمي الأصلية. أشعر مع قدمي الصناعية بفقد قدمي الأصلية. فيما ينقص بيتي ساق أخرى. ساق أخرى عند الجيران. ساق تنتمي للشقة المجاورة. لن أستطيع أن أقنع الجيران بأن يردوا لي غرفةً. غرفةً يكتمل بها جسد. جسد البيت. ليس مأزقاً أن يسير البيت أعرجاً. أعرجاً بلا ساق أصلية ولا ساق صناعية. بل مأزق. مأزق ولا حل للمأزق. عموماً أعتبر ساق بيتي مبتورة. بُترت في حادثة. حادثة سيارة. حادثة قطار. حادثة تحدث كل يوم في مدينتي. مدينة الخسائر. التاريخ أيضاً مبتور. ساق التاريخ مبتورة. ساق التاريخ مبتورة في حادثة. في حادثة سيارة. في حادثة قطار. في حادثة تحدث كل يوم في مدن تشبه مدينتي. مدينة الخسائر.

الكراسات والأوراق على الرفوف. والكراسات والأوراق على الأرضية. وعلى الجدران صور. صور تغطي كل الجدران. جدران الغرف. جدران الحمّام. جدران المطبخ. جدران الريسيبشن. صور تشبهني ولا تشبهني. صور مرسومة. صور أبيض وأسود. صور ملونة. صور بملابس عسكرية. صور بملابس قس. صور بملابس شيخ. صور بملابس مدرسة. أوضح: لا أعرف شيئاً عن العسكرية. لا أعرف شيئاً عن المدرسة. لست رجل دين. أي دين. الصور تنتمي لي ولا تنتمي لي. صور طفل. صور طفل بين أم وأب. صور نفس الطفل بين أم وأب آخرين. صور نفس الطفل بين أم وأب مختلفين. صورة زفاف لرجل وامرأة. صورة زفاف أخرى لرجل وامرأة آخرين. صورة رجل عجوز فوق دراجة ويرتدي قبعة. صورة رجل آخر عجوز. عجوز جداً. عجوز ويرتدي جلباباً في وسط حقل. صورة شاب مبتور القدم يتكيء على عكاز. صورة شاب بنظارة شمس يبدو أعمى. وصور أخرى في ألبومات. صور تشبهني ولا تشبهني. بعض الصور لأناس ولا أعرف من الأناس. لم أعرف من الأناس. ربما لن أعرف من الأناس.

     بالأمس جئتُ إلى هذا البيت. أتذكر أني جئت إلى هذا البيت. جئتُ وكان اليوم بارداً. بارداً جداً. بارداً جداً لدرجة الموت. لا أعرف لماذا جئتُ إلى هذا البيت. ليس أني لا أذكر. بل أذكر. لكن لا أعرف لماذا جئتُ إلى هذا البيت. إلى هذا البيت تحديداً. ملابسي كانت ممزقة. وجهي كان دامياً. شعري كان منكوشاً. منكوشاً ولزجاً. لزجاً بدمائي. لزجاً بدماء أخرى. كنت حديث الخروج من الموت. أو كنت في مواجهة الموت. أو هربت من الموت. كنت أحمل تحت إبطي كراسات. كراسات وأوراقاً مفردة. وهربت من الموت بكراسات وأوراق مفردة. دخلتُ البيت. طرقتُ باب الشقة الأولى. خرجتْ سيدة عجوز. سيدة لكن تشبهني. عجوز لكن تشبهني. حضنتني وقالت يا إلياس. قبّلتني وقالت يا إلياس. دعتني للدخول وقالت يا إلياس. أحضرت قطناً وشاشاً وماءً ومكروكروماً وقالت يا إلياس. لم تكن السيدة تشبهني. لم تكن العجوز تشبهني. لم تكن عجوزاً. لكن كانت سيدة. ولم تكن تشبهني. كنت حديث الهروب من الموت. لم أستوعب ما حدث لي. لم أستوعب ما يحدث لي. أحضرت السيدة عصيراً وأسقتني. أحضرت طعاماً وأطعمتني. وأنا لا أرفض. أنا لا أعترض. أنا لا أقول شكراً. حكت لي السيدة أني كنت طفلاً هادئاً. حكت أني كنت طفلاً شقياً. حكت عن أمي. قالت كانت صديقة أمي. لم تقل أمي ماتت. لكن فهمتُ أن أمي ماتت. فهمت من نظرة السيدة الحزينة أن أمي ماتت. مِن تذكر السيدة لأمي بالخير. مِن استخدام الفعل الماضي. نحن نقدس الموتى. الموتى طيبون دائماً. الموتى يحرسون الأحياء بأرواح الموتى. حكت السيدة أن السيدة أرضعتني من هذا الثدي. حكت أن السيدة علّمتني القراءة. حكت أن السيدة حكت لي حواديت. قالت كنتُ أظهر وأختفي. قالت كانت تغضب مني. لكن لم تكن تغضب مني. لم تقل أمي ماتت. لم تقل أمي هربت. لم تقل أمي اختفت. السيدة حكت أن السيدة كانت صديقة أمي. كل الناس أصدقاء الموتى. كل الناس أصدقاء الغائبين. أكرر: كل الناس أصدقاء الموتى وأصدقاء الغائبين. ثم سحبتني السيدة للحمّام. أحضرت لي فوطة. كيّفت الماء الدافيء. ضحكت وقالت استحمى يا إلياس. استحممت وأنا أفكر في أن ضحكة السيدة تعني لن أحمّيك يا إلياس. لن أحمّيك كما كنت أحمّيك يا إلياس. لن أدلّك كما كنت أدلّك يا إلياس. لقد كبرت يا إلياس. انظر لطولك يا إلياس. لقد صرت أطول مني يا إلياس. وكان ماء الدش ينزل على رأسي. ينزل فيطهّر رأسي. يطهّر رأسي من الدم. كان ماء الدش ينزل مثل الرصاص. الرصاص وأنا هربت في التو من الرصاص. كنت في طريقي لمّا أطلقوا الرصاص. وأنا هربت من الرصاص. كنت لا أنوي مواجهة الرصاص. لست غبياً لأواجه الرصاص. هربت من الرصاص بساقي الصناعية. هربت من الرصاص بساقي العرجاء. هربت من الرصاص وأحمل صوت الرصاص. لون ضحايا الرصاص. شكل مطلقي الرصاص. ملابس مطلقي الرصاص السوداء. ملابس مطلقي الرصاص المموهة. ملابس مطلقي الرصاص البيضاء. شكل مطلقي الرصاص بلحاهم الحليقة. شكل مطلقي الرصاص بلحاهم الطويلة. ثم خرجت من الحمّام. خرجت وأنا أفكر في السيدة. فكرتُ في أن السيدة تنتمي لنفس الإلياسية. نفس الإلياسية وأنا صانع الإلياسية. أو ربما أنتمي فقط إلى الإلياسية. وربما تسمى أيضاً إلياس. وارتديت ملابس أخرى. ملابس نظيفة. ملابس سليمة. وجلست مع السيدة. مع السيدة وانتبهتُ إلى أن السيدة لا تشبهني. ورغم أن السيدة لا تشبهني لم أُخرِج السيدة من الإلياسية. السيدة أعطتني مفتاحاً. قالت المفتاح مفتاح شقتي. شقتك يا إلياس. قالت الشقة في الدور الثالث. في الدور التالت يا إلياس. على إيدك الشمال. إيدك الشمال يا إلياس. واصطحبتني لما رأتني مضطرباً. فتحت لي الباب. السيدة فتحت لي الباب. تأففتْ من الغبار. أنا لم أتأفف من الغبار. لكن السيدة تأففت من الغبار. قالت ستحضر خادمة حالاً. لم أقل لا. لم أعترض. لم أرفض. لم أوافق كذلك. أغلقتْ الباب مرة أخرى. دعتني لأستريح في شقة السيدة. شردتُ قليلاً. فاقترحتْ السيدة أن أفعل ما أشاء. وأنا فكرتُ في أن أفعل ما أشاء. لكن  لم أكن أعرف ما أشاء. أعطتني مالاً. صمتُ. هززتُ رأسي. خرجتُ دون أن أدري ما أشاء. تجولتُ في الشوارع القريبة دون أن أدري ما أشاء. كانت الشوارع القريبة بركاً حمراء. بركاً دون أن أشاء. حمراء دون أن أشاء. بحيرات حمراء. دون أن أشاء. دخلت في الأزقة لأتجنب البرك الحمراء والبحيرات الحمراء. رأيت حانةً حمراء. رأيت مقهى أحمر. رأيت سوبر ماركت أحمر. رأيت إشارة مرور حمراء. رأيت عسكري مرور أحمر. فكرتُ في أن العالم مصاب بالحصبة. فكرتُ في أن اللون الأحمر مضاد للحصبة. كنت أعرف أن العالم ليس مصاباً بالحصبة. لكن فكرت في أن العالم مصاب بالحصبة. لا أعرف لماذا فكرتُ في أن العالم مصاب بالحصبة. رأيت رجالاً حمر. نساءً حمراوات. بنايات حمراء. رأيت سيارات حمراء. سائقين حمر. وفكرت في أن العالم مصاب بالحصبة. وانتقلت من الشوارع إلى الأزقة. انتقلت من الأزقة إلى بيوت الدعارة. وبيوت الدعارة كانت حمراء. بيوت الدعارة كانت مصابة بالحصبة. لكن حمرة بيوت الدعارة كانت مختلفة عن حمرة الشوارع والأزقة. كانت مختلفة لأن الحصبة كانت مختلفة. أعتقد أن الحصبة كانت مختلفة. لا أعرف لماذا كانت الحصبة مختلفة. لكن الحصبة كانت مختلفة. وعدتُ إلى البيت. وفي البيت انتبهت. انتبهت إلى أني أرتدي نظارةً حمراء. المشكلة كانت في النظارة الحمراء. كل شيء جيد لكن المشكلة في النظارة الحمراء. أنا مخطيء لأني ارتديت نظارةً حمراء. يجب أن أرتدي نظارة زرقاء بلون البحر. يجب أن أرتدي نظارة خضراء بلون الزرع. يجب أن أرتدي نظارة بمبي بلون الحياة. وظننت أني في حلم. في حلم بنظارة حمراء. ظننت أني في كابوس. في كابوس بنظارة حمراء. ظننت أني في لعبة. في لعبة بنظارة حمراء. لكن لم أكن في حلم. لم أكن في كابوس. لم أكن في لعبة. كنت في أرض الأحمر. كنت أرى أرض الأحمر. أنا لا أعرف ما أرض الأحمر. لكن كنت في أرض الأحمر. وفتحتُ الشقة. وجلستُ على الأرض. ونظرتُ للرفوف. هُيئ لي أن الرفوف تقطر قطرات حمراء. تقطر كركديه. تقطر شربات. تقطر نبيذاً. نبيذاً أحمر. الرفوف صارت معصرة. الرفوف تقدم مشروبات. طلبتُ من الرفوف الحفاظ على المشروبات. طلب من الرفوف النظر للغد. ونمتُ. أو استيقظتُ. أو خلعت النظارة الحمراء. ونظرت إلى الكراسات. نظرت إلى الأوراق المبعثرة. نظرتُ في الأوراق المبعثرة. قرأت خطي. قرأت أسلوبي. قرأت توقيعي. لكني لم أقرأ شيئاً. لم أقرأ شيئاً تحديداً. فقط كنت أتعرف على هويتي. كنت أسعى إلى أن أتعرف على هويتي. ونظرتُ للصور. الصور كانت واضحة. كانت واضحة جداً. وتجولت في الشقة. انتبهتُ إلى أن الشقة عرجاء. الشقة بساق واحدة. في هذا الوقت انتبهتُ إلى أن الشقة تشبهني. إلى أن جسد الشقة يشبه جسدي. شعرت بمأساة أن أكون بساقٍ صناعية. شعرت بنعمة ألا تكون بساق مبتورة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون