مثل غريبين.. يلتقيان ويشربان الشاي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شريف صالح

"لعلّ الحياة شارع طويل تجتازه امرأة كل يوم بزنبيل

لعلّ الحياة حبل يعلّق به رجل نفسه من غصن

لعلّ الحياة طفل يعود من المدرسة

لعلّ الحياة

إشعال سيجارة في برهة ارتخاء متعانقين

أو مرور عابر سبيل دائخ

يرفع قبعة عن رأسه

قائلاً لعابر آخر بابتسامة فارغة:

صباح الخير"

لا أعرف الشعراء الذين يحبهم عزمي عبد الوهاب، أستطيع أن أخمن ـ مجرد تخمين ـ أنه يحب صلاح عبد الصبور وبدايات أحمد عبد المعطي حجازي، لكن من المؤكد أنه يحب الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد لذلك احتفظ لزمن طويل بصورتها غلافًا لصفحته على الفيسبوك، فاخترت هذا المقطع لها، هدية له في عيد ميلاده.

……..

أعرف عزمي عبد الوهاب الشاعر والصحفي من حوالي عشرين عامًا، ولستُ بشاعر، ولم أكن حينها صحفيًا. ‏ربما جمعنا صدفة زقاق “الجريون” كغريبين في القاهرة، فقرر أحدهما أن يرفع قبعته ويقول للآخر: صباح الخير!

لا أظن أننا ابتسمنا ـ حتى لو كانت ابتسامة فارغة ـ كي لا نجرح شعورنا بالغربة، والاغتراب، واليتم، أو كما كتب في مقدمة ديوان له: “أنا إنسان يخامره شعورباليتم حين يهبط فلا يجد أحدًا بانتظاره”

………..

وقتها كنتُ أنهيت لتوي خدمتي الوطنية كضابط احتياط وخرجت لمواجهة القاهرة. تناقشت مع أصدقاء حول العمل، بعدما اكتشفت سريعًا أن مهنة الكاتب، وإن حصلت على جوائز، تعني الموت جوعًا. ذقت الفلس والجوع لأشهر، ولم أشعر بالحماس للعمل صحفيًا، لقناعتي أنها مهنة مضرة بالكتابة.

وقتها رأيت أن العمل كمدرس لغة عربية في أكاديمية الفنون لساعات قليلة، سيكون كافيًا، وسيساعدني في استكمال دراساتي العليا بها. ورأى صديقي محمد بركة أن عزمي عبد الوهاب خير من يساعدنا بحكم معرفته آنذاك بالدكتور شاكر عبد الحميد.

عندما تلتقي “عزمي” سيطلب منك مباشرة وبلغة حيادية أن تملأ “البيانات”، اسمك، سكنك، بلدك.. أسئلة مقتضبة ومباشرة، ستجعلك تستغرب أنه لم يعمل وكيل نيابة مثلًا. أظنه يكون مشغولًا بالتقاط علامة ما، على طريقة ألف ليلة وليلة “إنس ولا جن!”.. هل أنت من الطيبين أم من “ولاد الوسخة” الهائمين في وسط البلد؟ ويكفي أن أقول له إنني من قرية من كفر سعد البلد ليرد باقتضاب “يعني فلاح زي حالاتي”

……..

لا أتذكر أنه دعاني لشرب الشاي، أو سألني إذا كان معي نقود.. سرنا حول تمثال طلعت حرب ودخلنا عبر الممر إلى “الجريون”.. كنتُ أتبعه، وهو ينفذ مهمته بدقة: أن يعرفني على شاكر عبد الحميد كي يساعدني في العمل كمدرس لغة عربية في أكاديمية الفنون.

وبعدما سأل أحد الأشخاص، عاد وأخبرني: للأسف الدكتور شاكر سافر للعمل في الخليج ـ أظن إلى البحرين.

هكذا انتهت مهمته. وابتسمت في سري، لكثرة ما تعرضت له وقتها من مفارقات عجيبة، منها أنني ذهبت بتوصية أخرى إلى نائب رئيس الأكاديمية، وعندما وصلت إلى هناك وجدت ورقة عزاء في وفاة والده، فعدت أدراجي!

أهم المعلومات الشحيحية التي عرفتها عن عزمي، أنه مغترب مثلي، يسمع أكثر مما يتكلم. لا أتذكر كيف واساني، وما إذا كان قد اقترح بدائل أخرى، ولا كيف انتهى اللقاء الأول.

عمومًا من يلتقي بشخص لا يعرفه ويحاول مساعدته، يعطي انطباعًا بأنه “إنسان جدع وابن بلد”، وإن كان عزمي نفسه لا يميل لإعطاء أي انطباع عنه.

………………

في نفس فترة التيه والتخبط، قدمتني الكاتبة الصديقة عفاف السيد لعمنا أحمد الجمال للعمل كصحفي. أخيرًا استسلمت لمهنة، ظللت لسنوات أمارسها كهواية مدرسية فقط.

وفي مكتب جريدة الخليج التقيت نفس الشاب متوسط الطول، الأسمر، الذي طلب منك ملء بياناتي ونحن نسير معًا: عزمي عبد الوهاب.

كان يتولى ملف الثقافة في المكتب، فأصبح عمليًا رئيسي المباشر، ورغم أنني سبق وأن ملأت البيانات، لكن أصبح هناك متسع من الوقت كي يسألني مثلًا عن علاقتي بمحمد بركة، أو عفاف السيد.

ولخمس سنوات عملنا معًا، بالإيقاع ذاته عندما سرنا في ممر الجريون، اكتفينا بكلمات قليلة، لقاءات قليلة. فهو ليس مولعًا بممارسة الرياسة، وما أقدمه كان ينشر ببساطة، مع تنامي ثقته في نزاهتي، وأنني “لا أضرب الشغل”. وأحيانًا كان الوقت يتسع لشرب الشاي معًا في المكتب، أو نخرج بعد انتهاء عمله إلى التكعيبة أو قهوة “صالح”، المهم أي قهوة في وسط البلد ما عدا “زهرة البستان”.

…………..

لا يمكن وصف العلاقة إذا كانت بسيطة أو عميقة. صحيح أننا بتنا نعرف المعلومات الأولية عن بعضنا البعض. وأحيانًا ينضم لنا محمد بركة وقد نذهب ثلاثتنا لتناول وجبة سمك إذا كانت الأحوال سخية.. لكن الطقوس بيننا ظلت مقتضبة كأننا شخصيات في نص لإبراهيم أصلان.

كانت القواسم المشتركة بيني وبينه، إننا “فلاحين زي بعض”، شعورنا بالغربة في القاهرة، حيث نعيش فيها ولا ننتمي إليها. ربما بركة كان أكثر وأسرع اندماجًا فيها..

أيضًا كان لي تجربة في المراهقة مع الإسلام السياسي، أظنها مرت بأقل الخسائر، وهو مع التيار اليساري.. وأرجعنا ـ أنا وبركة ـ استرابته في الآخرين، وطلب ملء البيانات، إلى فترة “عمله تحت الأرض”، كان الأمر مزاحًا. وعزمي لا يتعمد إخفاء ماضيه، ولا يتنكر لقناعاته، فهو نفسه كتب في قصيدة:

شيوعيون كنا

كنا شيوعيين/

ننام على حلم الثورة في الشوارع/

والأعلام الحمراء/

فوق قصر الرئاسة..،/

كنا نرى آباءنا/

في الليالي الباردة/

يجلسون جنب الجدار/

وفي عيونهم شيء غامض/

كالكراهية/فننظر بعيدا:/

في الأفق حفاةٌ/

يقطعون الطريق إلى شارع البورصة/

يحتلون مبنى البرلمان/

ويعلنون الثورة من التلفزيون/

فيهرب رجال المال والأمن والسياسة.

بالتأكيد تناقشت مع عزمي في شأن استعدادي للزواج، وضعوط الدارسات العليا، وكيفية السعى للحصول على كارنيه “السعادة” من نقابة الصحافيين، وفرصة السفر التي جاءتني إلى الكويت.. وبالتأكيد قمنا بعملية نميمة وتقييم لكل ما يدور في الوسط الثقافي.

فطيلة خمس سنوات كنا نلتقي شبه بانتظام، ونشرب الشاي. وقد تمتد الجلسة ساعتين، فنعيد طلب الشاي مرة أخرى. وكعادته لن يتوقف عزمي عن التدخين، فيما أكتفي بدوري كمدخن سلبي.

وأظنه كان من المتحمسين لسفري، وفي أول إجازة سألني أغرب سؤال إذا ما كنتُ شعرت بالحنين إلى مصر؟ فنفيت ذلك. ربما لأنني خرجت مرغمًا، حزينًا، وعاجزًا عن نيل الفرصة التي أشعر باستحقاقها. كان لدي شعور من حرق كل مراكبه في مصر.

رحت أصف له سهولة الحياة في الكويت، وامتلاك سيارة.. فأخبرني أنه لو ذهب إلى مصلحة حكومية وانتهى سريعًا هكذا، سيشعر بالقلق وأنه “في شيء غلط”

…………

احتفى عزمي دائمًا بكل خطوة لي في الكتابة، أكثر مما احتفيت به. أصدرت يومًا مجموعتي “شخص صالح للقتل”، وأصدر هو ديوانه “شخص جدير بالكراهية”.. وكأننا نحاول أن نكتب اغترابنا، وغضبنا.. وصفت ما كتبه بأنه “الرهافة الجارحة” التي يلخصها هذا المقطع:

أربعون عاماً من الحروب الصغيرة

وهو يفعل الأشياء ذاتها

يقطع الشوارع

بروح شاحبةٍ

وكأنه على شفا موت مجاني،

يلتقي ذات الوجوه

العائدة من معارك خاسرة

كان من الممكن جدًا أن تنقطع العلاقة بعد السفر، وانتهاء علاقتي بمكتب “الخليج”.. لكنها استمرت.. ذهبت إليه هناك لشرب الشاي.. استمرت قعدة النميمة، ودائمًا ما تكون ليلًا، على قهوة “صالح”.. كما يليق بغريبين..

وهكذا استمر شعوري بأن عزمي صديق “جدع”.. وطبيعته الكتومة تجعلني أفشي كل ما أستطيع من أسراري دون أن أشعر بالقلق.

واستمرت أقدامنا ـ طيلة عشرين عامًا ـ تسير معًا في ممر الجريون. في محاولة بائسة لوصل ما يقطعه الزمن.

 

 

عودة إلى الملف

 

 

 

مقالات من نفس القسم