ليلة عيد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن
تحت ضغط امتلاء مثانته بالبول، فتح عينيه ببطء، مرتكزاً على مرفقيه لينهض من فراشه الدافئ الوثير. أخذت نظراته، نصف النائمة، تطوف بأرجاء الغرفة، شحيحة الإضاءة، محاولاً الخروج من النعاس إلى اليقظة، واستعادة حس الصحو الكامل. قبض بيده على “الموبايل” المتروك، كعادته، بجوار رأسه، وحدق في ساعته؛ لم تكن قد تجاوزت الثالثة بعد، ولا يزال متبقياً على آذان الفجر حوالي نصف الساعة.

عندما همَ بالقيام، والتوجه صوب الحمام الملاصق لحجرة النوم، كانت ثمة مفاجأة صغيرة بانتظاره.
– لن أستبقيك عندي طويلاً.
همس له زائر الليل بصوته “التينور” العميق، وهو يشجعه على التريث والمكوث معه قليلاً.
– لم يكن هناك بدٌ من مجيئ، رغم كل ما تجشمته من عناء كي أجئ.
حدج زائره، الذي يجري دمه في عروقه مجرى القطر في النهر، وما عرف كيف يجيبه، أو حتى يسأله. لم يعبأ الزائر، المستريح في جلسته الواثقة فوق المقعد المواجه للسرير، بنظرة الهلع المستفهم المرتسمة على محيا المستيقظ، وتابع القول:
– هي ليلة العيد، الفجر على الأعتاب، تعقبه تكبيرات العيد، ثم الخروج إلى الناس، وها أنت لم تشترِ بعد حذاءك الجديد.
ابتسم الزائر واحدة من ابتساماته النادرة، التي كان يعرفها ويميزها، منذ طفولته، تماماً؛ ساخرة، مشفقة، شفافة، متعالية، وتكاد أن تكون لا مرئية. راح قلبه يدق في صدره بعنف، فيما امتدت يدا الزائر، المتعرقة العجوز القوية، بلفافة كبيرة، وهو يأمره بحزم أبوي:
– امسك، أعرف أن قدميك قياس 43 لكني جئتك بقياس 45، لا تزال قدماك متورمتين، أليس كذلك؟
لم يحر المستيقظ جواباً، بيد أنه لم يملك إلا أن يمد يديه ويتسلم اللفافة بخنوع ودهشة.
– وحتى لو لم تكونا متورمتين، سيظل من الأفضل، دائما،ً أن تضع قدميك في قياس أكبر قليلاً، ألم أنبهك إلى ذلك مراراً؟ أم تُراك نسيت؟.
– لم أنسَ.
ردَ بتوكيد من عاودته الذكريات وداهمه يقينها الذي يستعصي على الموت. رأى ذلك الصبي، نحيل الجسد، متوقد الخيال، مضطرب الجوانح بفعل غياب الأب والتياع الأم المهجورة، يمضي في ليلة عيدٍ بعيدة، قابضاً بيده، الصغيرة الهشة، على يد أبيه، الربوبية كثيفة الشعر، قاطعين شارع “طه الحكيم” من عند تقاطع “عزيز فهمي” إلى قبالة “صيدناوي”، حتى يبلغا ورشة أحذية “الكرنك”، حيث يستقبلهما هناك “الحاج كمال”، ليضع الحذاء الجلدي الصلد بقدمي الصبي، ويسأله:
– قدمك مرتاحة؟.
يقف الصبي على قدميه، ويجرب المشي خطوتين قصيرتين داخل الورشة، ثم يغامر بالرد:
– ضيق قليلاً.
يأتيه البائع بحذاء أكبر بنمرتين، بشكل مختلف لا يعجبه ذوقه، ويحرضه على قياسه. يجربه الصبي على مضض، قبل أن يعلن:
– أفضل، لكن شكله لا يعجبني.
– يمكنك أخذ الأول الضيق، سيتوسع في قدميك مع المشي.
برغم الخوف من الألم، يلقى اقتراح “الحاج كمال” هوى داخل نفس الصبي. توشك الصفقة على الإبرام، لكن الأب، المحافظ على صمته المهيب طول الوقت، ينقض على اتفاقهما المتواطئ بمعوله.
– ستأخذ الثاني.
وكعادته، توجه بالقول إلى طفله، وبالنظرات، الصقرية الجارحة، إلى “الحاج كمال” الذي ينصاع للأمر، من فوره، ويضع الحذاء الواسع في حقيبة بلاستيكية رخيصة، يسلمها للصبي وهو يغتصب ابتسامة مرائية:
– مبروك.
– لم أحبه أبداً، ذلك الحذاء.
يجرؤ على الاعتراف الآن أمامه. يغمض الزائر عينيه، نصف إغماضة، كأنه يفكر، ثم يرد بتؤدة:
– لا دخل للحب، ولا للكره، في الأمر، ليس العالم على إيقاع هواك، ولا الطريق على قياس خطوك.
– ولماذا ينبغي أن تكون أنت من يقرر؟ لي، لقدمي، أو لأمي؟.
– أو تظن؟.
بالباحة الخارجية لمسجد “عزيز فهمي”، جلس عقب صلاة الفجر يردد، بنشوة، تكبيرات العيد. للإيقاع، المنغم البسيط، جمالية أخاذة، ولتكرارية الإيقاع المتصاعدة، قدرة مدهشة على تنميل الحواس، وعلى تعطيل مراكز التساؤل والاستقصاء، أمَا ذوبان الصوت، الفردي الضئيل، في هدير الحشد، المُبرمج وفق نظام تشغيل يطمع في أن يكتسب سمات وخصائص الما وراء، فتحطيم كامل للذات كشرطٍ، لا فرار منه، ولا تنازل عنه، لبلوغ الذات.
– أعتقد أنه كان على حق، كنت طفلاً، فتوهمت أنه من يقرر.
زفر في أذنها، مباشرة عقب انتهائه من مضاجعتها، بينما شرعت هي بلملمة شظايا نشوتها وغفلتها.
– لو أني غير متزوجة، فهل كنتَ لتتزوجني؟.
لم يباغته سؤالها المباغت، تماماً، ولم ينكره عليها. راح يفكر في أنانيته وأنانيتها، في سجنه وسجنها، وفي كل تلك السنين المترعة بالهزل؛ هزل الذكريات، هزل ما هو آت، وهزل الموات.
– عليكِ ألا تنخدعي، أبداً، في مزاجي الشعبي، ولا في ليبراليتي، لا في شرفي الرجولي، ولا في تكبيرات العيد تتصاعد نحو السماء من باحة مسجد “عزيز فهمي”، هل تعرفين ماذا كان يجري، ليلاً، على مبعدة أمتار قليلة من باحة مسجد “عزيز فهمي”؟ هل تتخيلين؟.
رفعت إليه نظرة ملؤها الخوف والإشفاق، نظرة كانت تحدس بالرعب الذي يختزنه صوته والسؤال. لم يأبه لنظرتها المذعورة، لعله لم يرها أصلاً. واصل حديثه مبهور الأنفاس، مسحوراً برؤاه الصادمة:
– كنا في زمان الحرب، بالأحرى زمان خسران الحرب، وكانت نوافذ المنازل تُطلى بالأزرق القاتم، وصفارات الإنذار تدوي، بين الحين والآخر، لتلون شوارعنا وبيوتنا بالظلام والرماد، صحيح أن الطائرات لم تكن لتجيئنا إلا استثناءً، لكنا عشنا نترقبها وننتظرها، في البيوت غالباً، وفي المخبأ الحربي الذي يحتل الميدان القريب من مسجد “عزيز فهمي” أحياناً.
-ثُم؟.
– ثُم انتهت الحرب، انتصرنا، هكذا قيل لنا، وصار المخبأ خرابة يلوط بها الصبيان، بعضهم ببعض.
– وسخ.
قذفتها بوجهه، وأدارت وجهها بعيداً عن عينيه المبهورتين بالوسخ، الراشح الممتد، فيما بين خسران الحروب، وحروب الخسران. زفر أخيراً:
– لا يا عزيزتي، ربما لستُ أنا، أو ربما أنا وكل الكل غيري.
بغتة، قبض على اللفافة التي أهداه إياها زائره العجوز، فتح شباك غرفة النوم، على مصراعيه، ليدخل منه نور الفجر وصدى تكبيرات العيد في المسجد القريب، طوَح بالهدية على طول ذراعه، وصرخ:
– لكني سأصنع لنفسي قياس قدمي.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون