كيف يختلقُ الوَنس من غادرتهم العيونُ سريعا؟!

العيون التي غادرت سريعا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد منير أحمد

هل يستطيع من يحتسي الوحدةَ ويهاجمه الليلُ وجهًا لوجه زاحفًا على بطنه، أن يختلق الوَنس اختلاقًا؟؟

أتصوّر أنّ هذا هو السؤال المحوريّ الذي تطرحُه المجموعة الشعرية الأولى “العيون التي غادرت سريعا” لإسراء النمر الصادرة حديثا عن الهيئة العامة للكتاب، حيث الحلول الشعرية لمسألة الوحدة والوحشة/ الليل والانزواء/ الفقد أو المغادرة، وذلك عبر شعرية الجسد المنقسم والمتساقط عمدًا أو بدون عمد، وكذا الجسد المفتوح على مصراعيْه لحلول الآخرين به أو تعلقهم، أو عبر الجسد التجاوزي الذي يتجاوز الزمان والمكان بل والموت، تقدّمه إسراء النمر مستفيدة بشكل واضح من مُنجزات قصيدة النثر كاملة دون أن تتخلّى عن إحداها، فالتجربة هي ابنة قصيدة النثر منذ البداية، ولا تشوبها أية شائبة تصلها بأشكال القصيدة الموسيقية، التفعيلية منها أو العمودية، طرحَت معها النمر جانبا، الاحتفاء بأي مظهر جمالي من المظاهر الجمالية للقصيدة الكلاسيكية، لكنّ استفادة النمر من منجزات قصيدة النثر لم تكن فقط على مستوى الأدوات بقدر ما كانت على مستوى الرؤية أيضا، حيث أنّنا أمام قصيدة نثر صافية، على مستوى الشكل والتشكيل، لا تهتم أن تحمل رسالة أو نبوءة بقدر اهتمامها أن تبحث فقط عن ذاتها من داخلها وتكون نفسها، تقول “على الأشياء أن تكون نفسها”

الطريق من/إلى الجسد

دعنا في البداية نحدد منهجنا في القراءة وهو التعامل مع النص على اعتباره عالما متكاملا بذاته، منفتحا على التأويلات، لكن يلزم كل تأويل أن ينبع من داخله لذا فنحن مع النص من الداخل، والنص إما يمتلك قدرة على إجابة كافة التساؤلات وسد كل الثغرات أو أنه لا يستطيع ذلك وتبقى هناك بعض الفراغات الموضوعية والمنطقية التي لم يستطع النص ملأ فراغاتها، وحسبما نتصور أنّ براعة تجربة إسراء، كانت في سد جميع الثغرات وملأ جميع الفراغات.

أتصور أنه يمكننا تقسيم الديوان إلى قسمين، الأول ينبني على علاقة الذات الشاعرة بالآخر في المطلق، بينما الجزء الآخر ينبني على علاقتها بالآخر الحبيب في ظل علاقة عاطفية مرتبكة بل ومهشّمة، يلتقي الجزءان في نتيجتيهما بالفقد والمغادرة وتقدّم التجربة الحل لكليهما عن طريق الجسد ولو اختلفت المعالجة، فتجربة النمر هي تجربة تختبر الذات والعالم، كما اختار سابقا الكثير من كتّاب قصيدة النثر وكما يتضح منذ أول نصوصها، من خلال الجسد “لي عين زرقاء وعين رمادية” بل منذ عنوان النص أو عتبته كما أحب أن أسميه “العيون التي غادرت سريعا” والعيون كجزء من الجسد تعادل في الديوان الجسد كاملا وهي تقنية اعتمدتها النمر في الديوان كثيرا، فالجزء الذي ينفصل عن الكل يعبر عن الكل بل يصبح كلاّ بذاته فنجد اليد التي انفصلت عن الجسد تدخّن وحيدة على الطاولة، كائنا حيا ينفصل كلية عن أصله، ومن هنا نستطيع أن نفهم العيون على أنها هي الناس “أتذكر ناس هذا الوجه الذين غادروه” وهي تقنية بالمناسبة تحمل خلفية تراثية في البلاغة العربية والدينية منها تحديدا مثل الحديث الشريف “عينان لا تمسهما النار…”

يتجلّى اختبار الذات والعالم عبر الجسد في قصيدة الطريق ” أريد أن يكون الطريق جسدي، أريد أن يكون جسدي الطريق” ولكنّ غاية الجسد/الطريق هنا ليست سوى خلق الونس/ التواصل/ التفاعل فهي لا تريد طريقا يصل بالناس، وإنما تريد فقط أن تحافظ على الشعرة التي تربطها بهم عن طريق المشي اللا غائي للأبد، إنها تريد أن تدّخر الونس ” أن يود الناس المشي عليّ ولا يصِلُون”، كما أنّ جسدها/ الطريق تستطيع أن تتمدد عليه دون أن تخشى السقوط.

غول الوحدة والليل الزاحف

في كافة مناطق الديوان كانت الوحشة والوحدة هي البطل لكل العلاقات على اختلافها حيث كان الانزواء اختيارا منذ بداية الديوان كإعلان عن التمرد على التضحية بالذات لصالح تثبيت صورة الأب تقول “لكنه لم يجدني إذ كنت منزوية في الركن أبكي كمسمار اعوجّ للتو” بعد محاولة أبيها دقّها في الحائط بعدما ظنّ أنها مسمارا لضآلة جسدها “لأنني نحيفة وقصيرة للغاية” بل تبدو الوحدة قدَرا يقينيا ومحتوما “مثل غصن، يعرف أنه في النهاية سيعيش وحيدا” كذلك يبدو الخوف من الليل واضحا حين تصوّر نفسها فتقول “أنا حوائط غرفتي، كلما حلّ الليل تبكي” والليل هو بيت الوحشة، وهو الذي يملؤها رعبا إذ يهاجمها زاحفا على بطنه “بينما بدأ الليل، يا لَدميَ الهارب، يزحف على بطنه، باتجاهي” لكنّها أحيانا تتورط في خلق وحشتها ووحدتها تلك فتعبئها بنفسها “البرطمان الذي أعبئ فيه الوحشة والليل” أو ربما قد عبأتها هربا منها وتحجيما لها، لكنّها وللمفارقة تعبئهما في برطمان تضعه على دولاب البيت الوحيد!!

كما يتغول خوفها من الوحدة في قصيدة يقولون أنّ الوحدة تأتي، فتمارس عكس كل ما يُشاع حول الوحدة كي تنجو منها، كما أنها تقف وحيدة على الحافة ولا ركّاب معها، بل إنها لا تلاحظ سوى الأشياء الوحيدة، فلا ترى في الطريق سوى قبر وحيد، والمفارقة أنّ هذا القبر الوحيد الذي ربما يكون معادلا موضوعيا لذات الشاعرة نفسها، تبرر وحدته عبر بحثه المستمر عن الوَنس والحب “ربما ينتظر باصا أو حبيبة”. كما أنها تعلنها صريحة في حفل الميلاد الأخير “كل الذين معي، ذابت أعينهم… وتركوا أرجلهم ومشت بهم ظلالهم” حتى أنها لا ظل يبقى معها يؤنسها. الأمثلة تتعدد وتنتشر بين أرجاء الديوان على هذه الوحدة التي ستُتخم بها كقارئ، سواءً عبر المفردات أو الصور الكلية مثلما في قصيدة شجرة الأصابع مثلا تصور يدا تطرق الباب ولا أحد يرد، الوحدة متغولة عبر اللفظ والفعل والصورة والمشهد كي تكوّن مجتمعة الحالة الشعرية.

حلول جسدية بنكهة الدهشة

الحل الشعري الذي اختارته إسراء في ديوانها هو إما تشرذم الجسد/ الواحد لخلق المتعدد، فنرى ملامحها تتساقط منفرطة على الوسادة “ووجدت ملامحي على الوسادة، رموشي وشعري وحاجبيّ، أما عيناي وأذناي وأنفي وفمي فكانت قد تدحرجت وسقطت على الأرض” كما نكتشف معها لماذا تحلم أن تكون ساعة؟ “أحلم أن ينهدم الجدار ويسقط مني الوقت وتهرب العقارب” تحلم بالتشرذم وخلق المتعدد، أو تذوب لتصبح شارعا إرضاءً للبقال، والشارع هو أعلى صور الوَنس، ثم تتشظى أيضا في النهاية متناثرة على شاربه وبنطاله الساقط خلقا للتعددية، أو أنها تشق صدرها كي يحل العابرون بها، “شق طويل في صدري، كلما مر به أحد وقع فيه” وكأنه تريد أن تحتفظ بهم عميقا في جسدها كي لا يعاودوا المغادرة من جديد، بعدما استطاعوا أن يفعلوها حينما التصقوا بها “وأتذكر ناس هذا الوجه الذين غادروه” أو أنّها من خلال انقسام الواحد تخلق العديد، فيتساقط شعرها ثم ” كانت كل شعرة تنبت رأسا” أو تتركها أصابع يدها التي فارقتها بعد انغلاق الباب عليها بدمها الطازج كي “تطرح شجرة من الأصابع يقطف منها كل من ينغلق الباب على أصابعه” تريد أن تخلق زحاما وتعددية تعوّض ناس الفقد والمغادرة.

استطاعت إسراء عبر هذا الجزء من الديوان خلق المدهش من العادي، فعبر لغة شديدة العادية ومفردات غارقة في العمومية، تقتنص الدهشة وهي مهارة جميلة لكنّ تحفظي الشخصي على هذا الجزء هو الصدى الحاضر بقوة لصوت وديع سعادة فلا يمكنني أن أقرأ عن العالقين بجسدها والذين استوطنوا شق صدرها، دون أن أتذكر ” ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي. لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون. لكنهم يرتطمون بعظامي ” أو اقرأ عن يدها التي تنفصل عنها دون أن أتذكر وديع يقول “أعرف أقداما كثيرة ملّت وغادرت أصحابها” أو “أستيقظ في الصباح أقضي نهاري في البحث عن عضو مفقود لا أجده”..إلخ.

أتصوّر أن لعبة التشرذم رغم دهشتها ورغم ما أضافته لها إسراء من حيلة إنبات المتعدد، لكنها ليست لعبتها الأصلية وإنّ في الديوان ألعابا أخرى لو استطاعت مستقبلا تطويرها لأنتجت حيَلا شعرية أكثر خصوصية مثل لعبة الغياب مثلا “أحب الأشياء التي تتمرد عليّ، وتترك المكان الذي وضعتها فيه” أو لعبة التجاوز الجسدي للزمان والمكان في قصيدة “مقبرتان مختلفتان” فالديوان يشي بالكثير مستقبلا ويتيح لنا التعرف على صوت شعري حقيقي تقطر روحه شعرا ويسطرها بصدق ويستطيع أن تكون له حيَله الخاصة.

علاقات تجاوزية

أمّا جزء الديوان الثاني فيمثل علاقة عاطفية مرتبكة ومهشّمة، تنتهي بالفقد أيضا “لقد سقطتَ مني كما تسقط أظافري” و “صرت ألعب اللعبة وحدي”. الجميل في هذه العلاقة هي كون الأنثى فيها فاعلة بشكل ما ولو في تهشيمها بقصد أو بدون قصد، “كلما غضبت منه، أخبط كتفه بعنف أو بدلال، فينكسر جزء منه، هكذا بقينا حتي وجدته محض فتات أجمعه بيدي” تورط آخر في خلق الوحدة، لم ترتكب إسراء خطأ الكثيرات من الشاعرات التي تصوّر دائما علاقاتها العاطفية نوعا من البكائيات والتحسر على الرجل الغول، بينما نحن هنا إزاء علاقة حقيقية صادقة، تعترف المرأة بارتباكها شهرا كاملا في بدايتها وتعترف بأنها هشمتها وتتقبل الخسارة موقنة بالتجاوز للحب ولو في التلاقي في مقبرتين مختلفتين “حتما ستلتقي أرواحنا في منطقة وسط، لتكون غرفة الفندق التي قضينا فيها ليلتنا الأولى” وهنا يتجاوز الجسد الموت بفضل الحب، الحياة تنبت في العظام، حل جسدي آخر للفراق ” ستؤلمني عظامي كثيرا، عظامي التي تكومت فوق بعضها، ستؤلمك أيضا عظامك لأنها كانت تلامس عظامي ذات يوم” وهذا الجزء في تصوري كان أكثر حميمية وصدقا وبساطة من جزء التشرذم رغم دهشة الأول، ويوحي بشاعرة تقدّم شعرا محضا، لتجارب إنسانية وذاتية حقيقية، تبحث فيها عن الذات بصدق “لم أكن اريدك أن تعرف، أنّ في سرّتي عينا أستخدمها، حين أريد أن أرى الأكاذيب”.

اختبار الذات والعالم من خلال الجسد، يبدو مبرّرًا أيضا عند النمر، بل ومتعمّدًا في تصوّري حيث أنها تعتبر الطريقة الطفولية في اكتشاف العالم عبر الجسد/ الحبو/ التذوق أو في المجمل عبر تجريب الحواس جسديا، هي الطريقة المثلى لأنها في الأصل تبغي العودة إلى هذه الفطرة والطبيعة النقية وذلك يبدو في تصديرها للديوان الذي يمثل تصريحا عن هويتها “أنا مواء القطط/ نباح الكلب/ صراخ الرضّع بعد الواحدة/ النوافذ التي تنطفئ…” فهي ترد اختبار العالم للحواس ولو كانت عبر طفل أو حيوانات بل تبالغ فيي تأكيد هذه الثيمات الأربع (القط والكلب والرضيع والنافذة) في أكثر من موضع منتشرة في الديوان بشكل ملحوظ، وكلها تُستخدم لهذا الغرض في رد الحياة إلى أصولها وفطرتها بحثا عن النقاء المفتقد فنجد طفلا يحبو مثل كلب على أربع لكنه ينبت له جناحان، وقطة ملائكية تتوسط عاشقين، ورضيعا يبكي بعد الواحدة تنقذه نافذة لا تريد سوى ان تكون على حقيقتها كنافذة تطل عبرها أمه تطلب العون، إنها الغاية في العودة للطفل الذي فقدته من أول الديوان، الذي نظر إلى عينيها الزرقاء والرمادية شاهقا، هذا الطفل كان هيَ.

نفَس شعري متصل

آخر ما أود الإشارة إليه أنّ تشرذم الواحد وتعدّده قد يبدو في ظاهره تقنيةً فنّية فقط، لكنه في تصوّري يتخطى ذلك بقدر كوْنه معادلا موضوعيا لتجربة الديوان، حيث أنّ قصيدة النثر كما يقول د. عبد العزيز موافي في كتابه تحولات النظرة وبلاغة الانفصال، تتكئ على “خلق صورة كلية تنمو باطّراد (لتغرقنا بالنور فجأة) عند اكتمالها وكأن هذا الاكتمال أشبه بإغلاق الدائرة الكهربية” بديلا عن الصور الجزئية للقصيدة الكلاسيكية، وأتصور هنا أننا في تجربة إسراء أمام صورة كلية ليس في القصيدة كوحدة واحدة بل في الديوان، كوحدة كاملة متصلة تتمثل في رُوح واحدة ونَفَس شعري واحد، حيث وكأنّ الديوان هو قصيدة واحدة تشرذمت من داخلها إلى عدة قصائد، موافقة الرؤية الكلية التي اعتمدتها النمر لتشرذم الجسد، لنصبح أمام توافق شكلي وموضوعي داخل النص.

وأخيرًا كما يبدو فإنّ في رحلة البحث عن الفطرة والذات، ومن خلال إعادة تشكيل الجسد بكل الصور بالانفصال/ الانقسام/ التعدد/ التجاوز حاولت فيها إسراء النمر أن تخلق الزحام والتعددية والتفاعل كمادة خام للونس، بعد أن غادرتها العيون/ الناس/ الأحبة سريعا.

 

مقالات من نفس القسم