كلاكيت ثاني مرّة: لا تفارق اسمي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"ينبغيالآن أن أستريح

ينبغي الآن أن أبتني حائطاً

خلف حائط

وأن أنحني

خلف مملكتي

كامبراطور أخير"

أحمد طه العزيز،

أيها الامبراطور الأخير، أين أنت الآن؟

مازلت أفتقدك في جميع الأماكن، تلك التي كنت فيها وتلك التي لم تطرقها قدماك وتلك التي لا وجود لها إلا في الصمت أو في ضوضاء المدينة. القاهرة هي المدينة الوحيدة التي طرقنا بعض طرقاتها سوياً، إذ أن الخطوة كانت قد فارقتنا في باريس.  غبت أنت وغبت أنا، لا أدرى من منّا الذي بادر بالغياب، ولكنّ لنا بعض العزاء في أن الاسم لا يزال مرسوماً هناك: إذا لم ترني فلا تفارق اسمي.

فأنت الذي كتبت في لا تفارق اسمي “لك الآن أن تلعن القاهرة/ وابكها كيف شئت فقد خاصمتك/ الشوارع، عادت إلى النيل عاريةً/ من بقايا زفيرك، واستدرجته/ إلى حضنها الغجري ونامت/ كما عودتك…/ وحيدة.” مثلنا تماماً.

أنت هناك في مكانك، في سوق الجمعة أمام جميع الحيوانات الأليف منها والضاري، السام والمسالم حيث أخذتني في يوم ما في التسعينيات لا أدري لماذا؟ لأ أدري أي من هذه الحيوانات كنا نبتاع، بل لا أدري لماذا ذهبنا هنالك يومها؟ هل لأنك كنت تريد أن تريني شيئاً من الغابة التي كانت تسكن قلب المدينة والتي كنت أجهل وجودها تماماً؟ هل لأنك كنت تريد أن تبتاع تمساحاً صغيراً لتطلقه في النيل مع شوارع القاهرة التي عادت إليه عاريةً ولم تجرؤ على الاعتراف بالرغبة لنفسك، هل لأنك وأنت تريني النسانيس والأفاعي، كنت تريد أن تستمع برؤية أسناني التي تظهر من تعبير الهلع على وجهي.

أعتقد انني اشتريت يومها تليفوناً خشبياً قديماً، لازال في مكان ما بالقرب من الكوخ المجاور للغابة الذي كنت أذهب إليه مراراً في حياتي السابقة، للتوحد والكتابة. كانت الغابة تدخل هذا الكوخ ليلاً لتنكل بأحلامي، فأصحو من النوم أكافح الهواء والظلال، ربما أكون قد اتصلت بك أكثر من مرة في هذا التليفون، وأنني تحدثت إليك بالفعل، ليس فقط لأننا كنا آنذاك عجوزين حقاً، بل لأننا عجوزان بالفعل الآن، نتحادث عما لم يحدث.

كنا نمشي فتنمو الأعشاب من القارة إلى البحر، وحتى المكان الذي أستكين إليه بعد التجوال على حدود الأشياء، بعد أن تنازلت أنت عن زعامة شبرا لتتولى زعامة شارع فيصل، مروراً بالقارة الأمريكية التي تحايلت على الموت المعبأ فيها بشتى الوسائل، السائل منها والهوائي، المتحرك منها والقابع في غرف الضيوف.   

كانت الآلة الخشبية التي لا سلك لها تأتي لي بكثير من الهواجس الطازجة القادمة رأساً من مصر، هواجس الأماكن والأمكنة هواجس عما حدث وعما لم يحدث ولن يحدث أبداً، هواجس تلك الليلة التي كنت كالعادة طيباً فيها معي، والتي كتبت لك فيه رسالة قصيرة عن مصر المشمسة بفوضى كبرى.

أماكن وأمكنة كنا نلتقي حولها، أو نصادق الليل فيها في سهرات الجراد ورحلات الواحات.

الواحات، هل تتذكر رحلة الأتوبيس العام التي دامت لساعات طويلة، هل تتذكر أعواد القصب التي أخذت وأصدقاء الرحلة في استلالها من على عربية النقل التي كانت تسير بحذاء الأوتوبيس والتي شرع جميع مستقلوه في مصها على الفور بين الضحكات، هل تتذكر السؤال الذي سألته لقريب أحد الأصدقاء الذي التقيناه في واحة الداخلة عما إذا كان لديهم “بطة عيانة” يقدمونها لنا للغذاء؟ هل تتذكر قدميك وأنت تلبس الشبشب بعد أن أعرتني حذاءك، تعبر به حقلاً من الحقول بعد أن ضاع منا الطريق بالقرب من منبع لمياه جوفية، هل تتذكر عربة النقل التي حملتنا صائحين من على الطريق المتاخم للحقول الطينية إلى نقطة قريبة من الفندق البسيط الذي كانت جماعتنا قد اختارته مكاناً للصخب الليلي في الغرف وعلى السطوح؟

قلتَ إن تلك الأيام في مصر تنتمي لزمن المعجزات، وكانت “الجراد” من المعجزات، وكان نشري لبعض قصائدي فيها من المعجزات أيضاً، فقد كنت أخاف من النشر آنذاك وحتى الآن. أضع قصائدي في الكراريس وقطع الأوراق الصغيرة وأتركها في الدرج لحين رجاء.

أريد أن أقول لك الآن أنه لولا أنك كنت تستمع لصوتي، ولولا أنك كنت ترى اسمي لما كنت قد نشرت ولا قصيدة واحدة.

أنت الوحيد الذي أعرفه حتى الآن الذي كان يسارع بعفوية إلى أن يردني إلى قصتي، كنت تردني إليها كلما رأيتني أتجاهلها، أو حين كنت ترى أن هناك من ينكر جدارتها بالوجود. فعلت ذلك مرارا حتى أنني أصبحت أصدق أحياناً أنها قصة جديرة بالوجود.

كنت تصدقني، تصدق المعنى كي أصدق أنا في المعنى وفي اللامعنى، أنا، هذه الأنا التي كتبت لها يوماً أنها كانت قديسة سابقة، تلك القديسة الهاربة ربما كانت تلعب بالمعنى كما كنتم تلعبون بكرة القدم في الشارع ليلاً مع متولي ويماني.

كتبت لي عن الروح الخامسة. ثم بعثت لي بنصٍ عن “مشاهد الروح السادسة” كنت ولا زلت لا أدري شيئاً عما هي الروح الخامسة ولا السادسة ولا عما سبقتهما من أرواح، ثم إذ بي أراك تضيف روحاً أخرى لأرواحي السابقة فكتبت “سويتر أسود للروح السابعة”، وكتبت لي ذلك على ورق أصفر بقلم رصاص بخطك المنساب على السطور وبين السطور كطريق فقدناه وتخلفت عنه كلمات لا يوجد أجمل منها.

ثم ذهب كل منا لمكانه على خريطة الوجود، وفارقت اسمك كي تفارق اسمي.

فجأة رأيتك ثانية. كنت في مكتبة آفاق السابقة في شارع القصر العيني مع عدد قليل من الأصدقاء أقدم لمجموعتي “اسم يسعى في زجاجة”، فاجأتني بعد ما كان الصمت هو الذي حل محل الكلام، والثبات محل الخطوات، جاء وجهك يعتليه اسمك في حفل توقيع باسمي. جئت وقرأت أمامك وأمام محمد متولي وأصدقاء آخرين القصيدة ثم ذهبنا لمكان في وسط البلد أخذت تعتني فيه بأخي محمد، ذهبت لتأتي له بنظارة زرقاء من محل نظارات في وسط البلد، تحطمت قبل أن يموت بعدة أيام.

انتظاراً لأيام لم تعد صالحة للسكنى لم نعد نلعب الشطرنج وقد تعادلنا في الأقدار ربما، وكما تعلم، الوحدة فقط للملوك …ملوك الشطرنج طبعاً، وقد رحلت عامدة لأنه ليس لمثلي سوى الرحيل عن سبق الإصرار والترصد والجريمة واهية، لأنها مجرد سرقة لحقيبة سوداء صغيرة ونحن كما تعرف لصوص تافهون، سرقت أنت الحقيبة، وتركت لي بعض القنابل المسيلة للدموع.

بعد ما أخبرتني عن أوراحي السبعة، تخيلتها أنا تسعة وكتبتُ أنها بالفعل تسعة أرواح كقطط الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.

أخيراً لنا ” …أن نسمع أصواتاً/ بغير عيون أو شفاه/ أن يضيع لهاثنا في زحمة الموسيقى/فلنجلس بعيداً عن رائحة القبور/التي تتبعنا أينما ذهبنا/…/أرى كرسياً وحيداً/تجلس عليه امرأة مثلك تماماً/وعندما أومأت إليها بالتحية/ مردداً اسمك/ لم أرها مرة أخرى/ أبداً وفي المقابل أقول لك سأتذكر يوماً أنني أعيش/ داخل الترانيم، وأنني/ قتلت اسمي مراراً في ليالي الموالد/ وأنك ذلك الصبي القديم/ الذي أعطاني عيوناً تركض خلف الجليد”.

عزيزي أحمد،

كما كنّا ساذجين.

لي منك خطابان وثلاثة قصائد، ووصلك مني خطابان وعدد من القصائد، فأنت كما قلتُ لك تكافح الهواء وأنا كما قلتُ لك رمال.

باريس 25 أبريل

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم