كانت فيات حمراء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 15
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نهى محمود

لم أفكر من قبل في مشاعري نحو نجيب محفوظ ، لا أتورط في مناقشات حوله ، ولم اكتب في أي دورية ثقافية طوال العام الماضي الذي بقى تحت عنوان “مئوية نجيب محفوظ ” أي نص حول ما كتب .

التزمت الصمت ، وكلما سألني صديق عن شيء يخص محفوظ تمتمت بكلام غير مفهوم ، وكلما طلب مني أحد المشاركة في ملف او كتابة عنه، عدت للتمتمة والهمهمة دون أن اعطي ردا، وفي اثناء ذلك أخفض رأسي وأنظر نحو الأرض خجلا وارتباكا ، حتى لو كان من يحادثني يمرر لي الكلام عبر الهاتف .

مرات نادرة أعلق فيها على رفضي الكتابة وأقول “لا استطيع أن أكتب عن ” نجيب محفوظ” وابتسم دون أن اشرح شيئا، وعندما ذهبت للمشاركة في “إحتفالية إئتلاف الثقافة المستقلة ” بمئويته ، في بيت السحيمي ، كنت محرجة جدا منه شخصيا ، وكأنه سيحضر ويسمع نصي ، وندمت كثيرا على النص الذي أخترته للقراءة ، وفكرت جديا أنه سمعه بطريقة ما ولم يعجبه .. وكنت متوترة بسبب ذلك .

لم يغير شيء من موقفي ، غير حلم جاءني ذات ليلة ، وعندما استيقظت جلست على طرف فراشي لا اصدق ما رأيته ، رفعت سماعة هاتفي وأتصلت بصديق أحبه واثق فيه ، وقلت له هامسه أني حلمت اليوم بنجيب محفوظ ، سألني دون استغراب ” كيف حاله ! أنا متأكد أنه في احسن حال وإنه في الجنة سعيد .

حكيت له الحلم ، فضحك ضحكة جميلة وقال لي أكتبي الحلم ، وظل طوال شهر كلما قابلني سألني عن الحلم وهل كتبته ، وأخيرا جلست لأكتب عن نجيب محفوظ لأول مرة .

ليس عن كتابته ، ولا عن تاثيره في الكتّاب او القراء او العالم أو البشر ، اكتب عن نجيب محفوظ الذي زارني في المنام ، صاحب أحلام فترة النقاهة ، ذلك الكتاب الذي قرأته في فترة كنت أستعد فيها للإنتقال من بيت مؤقت قضيته فيه عام لبيت جديد دائم .

كنت امسك الكتاب وأجلس على سجادة سميكة قليلا ومعي غطاء خفيف ، لا شئ آخر كل أشيائي في صناديق ، الفراغ من حولي ، ويمكنني أن اسمع صدى صوتي لو تحدثت قليلا مع ذاتي وطلبت منها أن تناولني شيئا من الحجرة الأخرى الفارغة .

كتاب أحلام فترة النقاهة وغطاء خفيف وسجادة وحقيبة يدي ، وملابس قليلة تصلح للنوم وللخروج وللتجول على سلم البيت هي كل ما كان هناك .

كنت أقرأ في الكتاب بإندهاش ذلك الذي كان عليه ان يتجول في قراءات عالمية مختلفة ثم يعود ليعرف أن محفوظ كان مجربا جميلا ، كنت اقرأ الأحلام وأتذكر قصة قصيرة هنا أو هناك قرأتها له ، ثمة علاقة غير مرئية بين ” مجموعته ” بيت سئ السمعة ” وتلك الأحلام .

بيت سئ السمعة – القصة- بدت لي إحجية حداثية يمكنني ان استخدمها لفك طلاسم المجتمع الذي يعاني الفصام المزمن .

الغريب في أحلامه تلك أنها كانت تمرر لي القدرة على الحلم ، انا البنت التي تعاني من ارق أصيل وقديم ، وتنام كل ليلة بعد الفجر بساعات ، نوم قلق مرهق ، استطاعت ان تصل لدرجة من النوم ، تسمح لها بالحلم.

أحلامي التي مررها لي كتاب أحلام فترة النقاهة ، كانت تخصني ، لكن شئ جعلني أشعر أن الكتاب هو السبب ، كل مرة اقرأ منه ، تجيئني أحلام في منامي وعندما انتهى الكتاب ، عاد النوم مضجر ، وصامت .

كنت كلما أعطيت الكتاب لأحد ليقرأه ، أحكي له أن الكتاب مرر لي الأحلام ، لكن أحد لم يكرر شكوتي تلك.

أنا أقابل نجيب محفوظ كل يوم عند مجيئي من بيتي ، ذهابا لوسط البلد ، أقابله كل يوم في ميدان سفنكس ، كل يوم ابتسم له ابتسامة خجلة ولا نتحدث ، حتى عندما شارك تمثاله هذا في الثورة على طريقته فأحتفى بالجرافيك والشعارات التي رسمت على قاعدة التمثال ، كنت فقط أمرر له الإبتسامة ، باعتباري كاتبة صغيرة تخجل من رجل بكل هذا الحضور ، اليوم الوحيد الذي ألقيت فيه التحية عليه ، كان في صباح مررت فيه جوار التمثال كالعادة ، فوجدت قطعة من القطن الابيض تحجب إحدى عيون محفوظ ، سألته حتى دون تحية ، من فعل ذلك ، أخبرني بطريقة ما أن شابا تسلق التمثال ووضع هذه الغمامة له بعدما طلب هو منه ذلك ، قالي لي اتضامن معكم ضد قناصي العيون ، أحيي شهداء ثورة مصر على طريقتي يا بنت .

هززت رأسي وحييته ثم مضيت .

في الحلم ، كنت أجلس على الرصيف في مكاني المعتاد ، أنتظر الأتوبيس لأذهب للجريدة ، مرت أمامي سيارة حمراء فيات 128 ، كانت تقودها سيدة محجبة وتجلس جوارها سيدة أخرى بشعر أشقر مرفوع ذيل حصان .

محفوظ كان يجلس على مقدمه السيارة من الخارج ، كان يبدو مرتاحا ومستمتعا في جلسته تلك ، كانت الشمس دافئة والمشهد مضئ ، وهو مبتسم ، كان في حوالي الستين من عمره ، كبيرا لكنه قويا وبصحة جيدة .

كان موكب السيارة مارا أمامي ، هنا أبتسم لي ذلك الرجل ، وقال لي ” نهى أزيك ، رايحة فين ؟

أخبرته اني ساذهب للجريدة ، أفسح مكانا جواره وقال لي تعالي وأجلسي جواري ، تلعثمت وتمتمت ، وأخيرا أخذت نفسا عميقا وبينما انظر للأرض من الخجل ، أخبرته أني سأنتظر الأتوبيس ولا أرغب أن اضيع وقته ، لكنه الح عليّ للمجئ ، وأصررت على الإعتذار .

أخيرا لوح لي وابتسم وغادر .

عندما استيقظت كنت محرجة جدا ، لأني قابلت نجيب محفوظ وتحدثت معه ، رغم كل محاولاتي للإفلات من ذلك .

فكرت في دعوته الكريمة لتوصيلي ، واخبرتني أني فعلت خيرا بالإعتذار ، حتى لا أضيع وقته ، لكنها كانت ستكون فرصة للتباهي ، كنت ساجلس بالمقهي وأخبر الأصدقاء أني جلست جوار محفوظ في الحلم ، وأنه اوصلني للجريدة ، كنت سأوسع في دائرة التكهنات ، وأشعل غيرة البعض ، لو وافقت على التوصيلة ربما كنت سأطلب منه توقيعا على نسخة ” أولاد حارتنا ” وأخبره أن الولد الذي يطحن الفلافل في محل ” نور الذي مر عليه بسيارته في الحلم سالني ذات مرة وأنا امسك هذه الرواية ” مش دي الرواية اللي نجيب محفوظ جايب فيها سيرة ربنا ، هي نفس النسخة التي سيوقع ليّ عليها .

تركتك تغادر الحلم ، دون أن أخبرك اني أحب رواية الحرافيش ، وأن صديقي الطاهر شرقاوي مفتون بها ،وأن صديقي محمد عبد النبي كان يضع صورتك على البروفايل في الفيس بوك طيلة العام الماضي احتفاء بك وبمئويتك ، وان طه عبد المنعم كان يعايرني كثيرا لأني لا أقرأك كما يجب على روائية في مقتبل حياتها الأدبية ، كان عليّ أن اخبره بأمور كثيرة .

لكني صمت وفي قلبي كانت ترن كلمته التي ختم بها الحرافيش ” انتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة ، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة … “

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم