كاميرا عين القط

قراءة في قصيدة «قيس الجديد» لفتحي عبد السميع
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تقوم رواية " عين القط " للقاص المتميز حسن عبد الموجود علي  اعتقاد شعبى بأن روح التوأم تفارق الجسد وتحل فى جسد قط ، وقد اصطاد الكاتب ذلك المعتقد الذى تمتد جذوره الى الحضارة الفرعونية ، كى يجعل منه التقنية الأساسية للعبته السردية ، المرتكزة على استخدام ضمير المتكلم المفرد والراوى المتنقل بين وضعية الشاهد ، و وضعية المشارك فى الأحداث.    

 ويومىء عنوان الرواية الى تلك التقنية ، وطبيعة استخدامها ، فكلمة ( عين) تحيل إلى وعى راصد ومَشاهد مرصودة ، كما تحيل كلمة ( القط) الى حدة النظرة ، وحرية الراصد النسبية ، وحياده واستقلاله عن المشاهد، وتنقله الاستطلاعى عبر المظاهر الخارجية للأحداث أو المَشاهد.    

عين القط إذن هى كاميرا غير تقليدية  يلجأ إليها الكاتب كى يعزز موقع الراوى على النحو الذى يضفى على السرد قدرا من الخصوصية ويضاعف من قابلية الأحداث للتصديق , خاصة عندما يكون الجو العام معتما والمشاهد متحصنة بالسرية والتكتم  .

 والراوى هو أبرز شخصيات الرواية ، وجميع الأحداث تدور فى طفولته, وهناك إشارة إلى مرحلة زمنية لاحقه وهى مرحلة التعليم الجامعى ، ورغم الآثار التى يمكننا توقع امتدادها للنشأة الملتحمة بالخرافة ، إلا إ ن الراوى يتجاهل تماما  تلك المرحلة، و ينكفئ على فترة الطفولة ، أى أننا أمام ( أنا)   تسرد عن ذات أخرى  لاتمثل لها شيئا فى السرد  سوى امتلائها بمجموعة من التفاصيل الخاصة والتى تصلح لتكوين بناء سردى لا يخلوا من الإثارة  والقدرة على كشف مجموعة من العلاقات والقضايا الاجتماعية  .

وعين القط فى الرواية تلعب  دورا محددا  يمكن تلخيصه  فى مهمة الهتك والفضح والوقوف على أسرار وخفايا مجتمع مغلق ومعتم ولا يخلو من فاعلية الرواسب الخرافية ، وقد آثر الراوى  أن لا يفسح المجال أمام الاستبطان الذاتى للكينونة من خلال تجربة الحلول الفريدة  اللهم إلا بالقدر الذى يكفى لإضاءة فعل خروج الروح وحلولها فى جسد القط  ، وما يشير إلى رغبته فى الهرب من قسوة الأب أو رتابة الواقع و إشباع حب الاستطلاع وفى أقصى الأحوال الشعور بما يراه فى القط من كبرياء، لكن تلك الرغبة باءت بالفشل فالجسد الوحيد الذى يمكن أن يشبع تلك الرغبة من خلال فعل الحلول وهو قط الشيخ على طه دهسته عربة  كان يسير أمامها بكبريائه المعهود حتى سوته بالأرض . 

ربما لهذا اقتصر الزمن السردى على فترة الطفولة ، وسيطر العبور السريع على الأحداث أو المشاهد  ، فطبيعة عين القط / الكاميرا لا تحتمل ذلك الاستبطان العميق وهو مايؤثر أيضا على اللغة التى تلتحم فى الرواية بلغة السينما فنحن أقرب ما يكون لمجموعة من المشاهد التى يسطع فيها دور العينى والملموس لا المجرد وهو جوهر فكرة الحلول التى اعتمدت عليه اللعبة السردية. اي أننا لسنا بإزاء جسد يتروحن ، بقدر ما نحن بإزاء روح تتجسد .

والراوى يشير فى عدة مواضع  الى ذلك الحس السينمائى الذى يشغله ، فتارة يشبه مشهدا بمشهد من فيلم الشيطان يعظ ، وتارة يصف العتمة الشبحية التى تغلف ليل القرية  بصلاحيتها لأفلام الرعب ، وتارة يجعل من السينما سببا لقسوة الأب معه الذى يرى فى أفلام القناة الثانية عريا لايناسب تنشأةً صالحة ، وتارة يجعل من متابعة المسلسلات ركنا أساسيا من أركان حياة الشريحة الانسانية التى اختارها موضعا لروايته  ، وتارة يقدم أحد الشخوص ملخصا سنواته الجامعية فى فعل واحد هو مطاردة الممثلات بهدف الحصول على لقطات تذكارية معهم أو أخذ توقيعاتهم  ، ليرجع بزكيبة ثرية تحقق له النشوة العليا عندما يفرغها فى صالون الحلاق ، وها هو أخيرا يعرب عن أمنيته فى أن يصبح بطلا لفيلم ( أبيض وأسود).

هكذا  لا تكترث الحبكة كثيرا إلا  بالعبور والقفز على الأسطح , واختزال الأحداث فى مشاهد ، وعدم النبش فى المستويات العميقة للعلاقات التى تربط بين الشخوص ، حتى تلك العلاقة الحميمة التى تجمع بين الرواى ونورا ابنة بطرس والتى يشكل موتها ذروة أحداث الرواية ، وهذه العلاقة تبلغ من القوة حد ذيوعها فالعم يسخر من الراوى ومن ظنه بأنه سوف يتزوج نورا إلا إننا  لا نشعر بقوة العلاقه لعدم تركيز الحبكة عليها وظهورها العابر من خلال ثلاثة مشاهد قصيرة تقريبا .

ولعل هذا يشير الى الموضع المختار لوجهة نظر الراوى ، والأفق الذى يحدد حركة عين القط ، وأعنى به المحيط الأجتماعى بما يثيره من قضايا ، بحيث يلعب الراوى دور الرائى الكاشف لتلك القضايا أو المفاهيم المسيطرة ، والتى قد ترتبط بالعلاقات الأسرية حيث قسوة الأب وضعف الأم ، وقد ترتبط بظاهرة من الظواهر مثل ظاهرة الهجرة الى الخارج أو انتشار البانجو ، وقد ترتبط بالنظرة المتعصبة للمهمشين رغم فاعليتهم وحيويتهم مثل(الحلب )، وقد ترتبط ببعض القيم الهامة مثل خيانة الجار لجاره من خلال علاقه محرمة مع زوجته  ، أو الذهاب للمسجد بهدف التبول فقط ، وغيرها من الصور التى تحيل الى مفهوم هتك المجتمع وتعريته.

ورغم كثرة الشخوص فى الرواية إلا إن الحبكة لا تعبأ كثيرا برسم ملامح تلك الشخوص على النحو الذى يشبع قارىء الرواية ، فمعظم الشخوص عابرون جدا ، قد يتصدر بعضهم مشهدا أو مقطعا لكنه سرعان ما يتوارى، والغالبية تظهر فى سياق خبرى ، أو اشارى وقد يرتبط ظهور بعض الشخوص بنوع من المباغته التى لايبررها السياق بحيث تبدو تمهيدا بلا فعل كـ ( أبو رضاوية ) الذى يقدمه الراوى فى هالة شبه أسطورية لافتة لكنها لاتفضى إلى شىء يذكر على مستوى الحدث الذى ظهرت فى سياقه وهو مقتل نورا وكأننا أمام نوع من الترصيع السردى الذى لايعتمد على اللغة بقدر مايعتمد على وضع صورة سردية لافتة فى حد ذاتها قد  تساهم فى نسج المناخ العام لكنها تظل قاصرة عن لعب دور واضح فى تنامى الأحداث وتطورها.

الشخصية الوحيدة التى تهتم الحبكة بها بالإضافة إلى شخصية الراوى هى شخصية “حناوى” الخفير النظامى ، والتى تقوم بدور البطل المناوىء ، و تومىء وظيفته ، وعلاقته بالعمدة، ودوره الفعال فى قيادة العملية الانتخابية الى سلطة المؤسسة، وهو أول من ينتبه لطبيعة القط وقدرته على التلصص لجمع المعلومات التى يمكن توظيفها فى مخططاته وعندما يفشل فى استقطاب الراوى/ القط  لهذا الدور يناصبه العداء  ، وعندما يشعر بأن عين القط  يمكن أن تنقلب الى أداة لهتكه هو، يتوعد الراوى بالقتل  ,  ويقوم فى نهاية الرواية بقيادة أبناء عمومته لإطلاق الرصاص على القطط والكلاب وإحراقها بالنار، وهو ما يصيب الراوى / القط بالصدمه ويجعل من “حناوى”  شبحا مخيفا ، يشعر بخطواته كلما خرج بمفرده الى شارع معتم.

وما يقال عن الشخوص يمكن أن يقال عن الأحداث ، حيث لاتبدو الحبكة فى حالة اكتراث بابراز الاحداث وهى تكاد تكتفى بالتركيز على نقاط صغيرة خاصة تلك التى ترتبط ببعد شخصى ، فالراوى على سبيل المثال يقدم لنا  حدث مقتل نورا فى صيغة خبرية بينما يحرص على وصف الكيفية التى يتم بها قتل عقرب واهبا لها زمنا سرديا أطول ، و يتناول رد فعل بطرس بالنسبة لواقعة مقتل ابنته نورا فى جملة أو جملتين بينما يفسح المجال لرد فعله بالنسبة لواقعة ارتكاب إبنه إيليا لإثم شخصى بل ويقفز الرواى قفزته الوحيده تقريبا من زمن الرواية المنحصر فى مرحلة الطفولة الى زمن  المرحلة الجامعية وذلك ليعمق نظرته إلى إيليا وفى ضوء ذلك الحدث الصغير قياسا بأحداث أخرى تجاوزها السرد سريعا.

الكاتب إذن لا يبدو مهتما بعناصر الرواية التقليدية خاصة فيما يتعلق بالشخوص والأحداث  وكل ما يعنيه هو مجموعة المشاهد التى تكشف عالم القرية، وربما لهذا جاء البناء فى هيئة مقاطع صغيرة نسبيا يبلغ عددها واحد وعشرين مقطعا ، ولا يفصل بين كل مقطع والذى يليه سوى فراغ طباعى تنتهى به الصفحة ،وقد يشكل المقطع اللاحق امتدادا منطقيا لأحداث المقطع السابق  ، وقد يشكل  قفزة فى مجرى الأحداث ، أو نقلة شعورية من النقيض الى النقيض فثمة مقطع – على سبيل المثال – ينتهى بشعور الراوى بالخوف والقلق من ايليا ، ويبدأ المقطع الذى يليه بعلاقة حميمة بينهما.

وتشكل تلك المقاطع فى النهاية مجموعة من المشاهد التى تربطها بعض العبارات الخبرية أو التعليقية أو التفسيرية أو التمهيدية بالاضافة لروابط الزمان والمكان والجو العام ، تلك المشاهد القصيرة التى تلمع عبر عين القط لتكشف بعض الجوانب المعتمة لشريحة إنسانية معينة .

إن رواية ” عين القط ” ورغم أنها الأولي للكاتب ، إلا إنها تكشف عن تميز ملحوظ علي مستوي النسج اللغوي، ومهارة عالية في الوصف، والتنقل برشاقة عبر زمن الرواية ، كما تكشف عن ميل واضح للبحث عن تقنيات جديدة كما هو واضح في الكاميرا التي اسمها ” عين القط ” 

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم