قراءة في خصائص بناء الصورة الشعرية.. قصيدة النثر المصرية أنموذجًا

إبراهيم عاطف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  إبراهيم عاطف إبراهيم

     إِنَّ إنتاج الاهتمام الأَدبي بقضية أَدبية ما، يعني إِصدار حكم حول هذه القضية، وهو حكم يدل على نوعٍ من الاهتمام ودقة الاختيار ودقة الحكم الذي يمنح هذا الشكل الأَدبي شكلًا محددًا، ويساعد على نقل الأَفكار والصور والأَقوال في شكل محدد من الوعي، والأَدب دائمًا ما يصدر حكمًا عن الحياة والكون، ولكنه يحتاج دائمًا أن يمارس معه أحد إصدار الأحكام بشكل جدلي وفاعل، وهذا يتفاعل مع المرجعية الثقافية والاجتماعية الخاصة بكل شكل أدبي جديد؛ ولذلك فإن الأشكال الفنية يمكن أن تتغير قيمتها بتغير استخداماتها الاجتماعية .

     يأتي منطق عمل الأنواع الشعرية الجديدة التي تنتمي إِليها قصيدة النثر المعاصرة عبر محاولة إِعطاء المجال لعناصر كانت مهمشة كليًا  من جانب السلطة الأَدبية السائدة، وذلك من أَجل حصول الأَنواع الشعرية الجديدة على اعتراف رمزي ودائم، وهذا الاعتراف لا يعني خضوع قصيدة النثر لما هو خارجي) أي حكم يصدر من خارجه) قد لا يحتكم إلى خصوصية بنيتها الذاتية.

     وهذا التهميش لقصيدة النثر يتناقض مع رغبة الشعراء في العطاء بلا حدود، وبلا مقابل، فالشعراء يمارسون وجودهم وحياتهم من أجل تحديات غير مادية (ولكن وجودية وجمالية(، حيث ينمو الإِيمان بقيمة الأَعمال الفنية بعيدًا عن قوانين العالم الأقتصادي، ومن خلال ذلك الدور

الإبداعي الفريد يملك الشعراء رأسمالأ اجتماعيًا يساعد على تطوير الفن بشكل عام، والتجارب الشعرية الجديدة بشكل خاص. ودراسة تجارب قصيدة النثر المعاصرة تؤكد فرضية انحياز التجارب الحداثية الجديدة إلى القيمة والجودة والابتكار.

    ويأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة حيث إن الصورة أساس الخلق الفني، وهي التي تعبِّر عن تحولات النص الشعري، وتحمل المواقف الإبداعية والاجتماعية، وتسهم في فهم تجربة الشاعر الإبداعية من خلال قدرة الصورة الشعرية على بناء الأشكال المجازية التي تنقل رؤية الكاتب للعالم، وتعمل على تحويل الواقع الحسي المجرد إلى عوالم شعرية خلاقة. لذلك قامت الصورة الفنية لقصيدة النثر على أنقاض الصورة الشعرية النمطية والتراكيب اللغوية الجاهزة، وعملت على كسر النوعية، وغامرت في ساحة اللغة اليومية عبر عملية اختيار شعري فاعل حيث تحل الشعرية في نصوص غير شعرية ترتبط بالحياة وتنقل معاناة الإنسان المعاصر.

     وعندما تخلت قصيدة النثر المصرية عن الأرثوذكسية التي لازمت الشعر العربي حيث كان هذا الشعر مجرد تكرار لمجموعة من الأغراض الشعرية مثل المدح، والهجاء، والغزل وغيرها مع تكرار المفردات الشعرية نفسها، وتقليدية الإيقاع الموسيقي، لذلك جاء المشروع الشعري لقصيدة النثر المعاصرة معارضا كل ذلك؛ لتصنع المفارقة من حيث الانحياز للمشروع الحداثي للشعرية العربية من حيث أن الحداثة الشعرية هي طاقة من التحرر، والحرية الفكرية في القول، والتشكيل الشعري، وهذه الحرية في الخيال، وفي بناء اللغة، ومحاولة تحرير القاموس الشعري من البلاغة القديمة؛  لتصبح التجارب الشعرية قادرة على التعبير عن هموم الواقع المعاش ويختبر الشاعر الحداثي حريته في القول بعيدًا عن أي سلطة خارجية تُملي على الشاعر طريقة الكتابة والتعبير سواء كانت سلطة المجتمع أو الدين أو اللغة أو التراث، لتخرج لنا تجارب ملهمة عبر التجريب الشعري الذي يصنع هوية للشعر حيث تصبح القصيدة مفتوحة على كل الاحتمالات ومن ثم يصبح الشعر مفتوحًا على التاؤيل والتفسير والقراءة.

     مع هذا الحضور الوافر للمفردات الحياتية اليومية الذي أكد على نفور قصيدة النثر من القوالب الشعرية المحفوظة والمتكررة، فقدت اعتمدت على الإفراد والتركيب بشكل يمنح الأشياء طاقات جمالية تساهم في نقل التجربة الشعرية من الوصف السردي المجرد إلى بناء علاقات مجازية مبتكرة عبر اللغة والتخييل .

     وما تقوم به قصيدة النثر هو نزع الاعتيادية عن الأحاديث اليومية، وتحويلها من حالة عابرة إلى حالة شعرية منتجة للدلالة تنقل وعي الشاعر بالعالم المحيط به الذي يتشكل في كلمات تأخذ دلالة جمالية جديدة، وتقوم إعادة إنتاج الصورة التي هي إعادة إنتاج العالم نفسه، وبذلك تتحول القصيدة إلى ما يشبه (الكولاج (من حيث إنها لا تخرج الآن من بؤرة وجدانية بقدر ما تعبرعن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء وجداني أو عاطفية أو غنائية صاخبة. وبذلك انتقلت الشعرية من مجرد نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعرية جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جمالية عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة .

     وانفتحت شعرية القصيدة، واتجهت إلى تقنيات وأنواع فنية غير لغوية مثل الرسم والنحت والتصوير، وتقنيات بناء الصورة المستمدة من عالم السينما مثل السيناريو والمونتاج الزماني والمكاني، وتقنيات بناء الصورة مستخدمة (عين الكاميرا(، والصورة بكل تنويعاتها من قريب ومن بعيد .

     وجاء بناء الصورة داخل قصيدة النثر أكثر حسية وجمالية حيث تميزت بحشد التفاصيل، ونقل الأشياء عبر وعي الشاعر، وبناء صورة مستمدة من الحواس مما يساهم في رسم صورة بصرية تعتمد على تحديد اللون بدقة ورسم الظلال والضوء داخل القصيدة، وبذلك تستمد الصورة قدرتها في التاثير على المتلقي عبر جدلية بناء القصيدة .وهذا يتناسب مع طبيعة قصيدة النثر التي أهملت الإيقاع الموسيقي التقليدي، واعتمدت نوعًا خاصا من الموسيقى الداخلية مع وجود تقنيات السرد والحوار التي تمتزج مع نوعٍ  من الغنائية الذاتية تختلف عن الإيقاع الخليلي الذي خضعت له الذائقة العربية قرونًا طويلة.

     وهذا التطور داخل قصيدة النثر تواكب مع حداثة الصورة وزمن الصورة؛ مما يناسب السياق الثقافي والحضاري الذي فرض أدوات من الحضارة الحديثة مثل :التصوير السينمائي بكل طاقته التسجيلية والجمالية، والاقتراب من خصائص الصورة الفنية في قصيدة النثر توضح أن هذه القصيدة قامت على كسر القيود والأعراف الشعرية الثابتة، واستبدلت قصيدة النثر بالوزن والقافية الموسيقى الداخلية من حيث انتقال الموسيقى من الشكل العروضي الصاخب إلى موسيقى داخلية، وكأننا أمام نوع خاص من التحول الفريد في الشعرية العربية الجديدة حيث التحول من الغنائية الصاخبة إلى نوع جديد من الغنائية الخافتة التي تعتمد على إيقاع المعنى بديلًا عن إيقاع الأوزان التقليدية القديمة. وهذا الشكل التجديدي يناسب تجارب شعرية تشعر بفقدان الهوية وعدم الشعور بالمواطنة في عالم متغير؛ لذلك تحاول طرح الأسئلة حول التراث والتاريخ والسلطة؛ لخلق حالة من الجدل الدائم مع الواقع.

     تتجلى جدلية العلاقة بين الشكل والرؤية في قصيدة النثر، ويأتي تغير الشكل معبرًا بشكل جدلي وليس ميكانيكي عن تغير الرؤية، حيث يفرز المضمون بشكل جدلي وتفاعلي شكلاً متطورا، يعبر عن التجربة الشعرية بشكل يعيد سؤال دور الشاعر في العالم المعاصر وعلاقته بالحداثة وما بعد الحداثة، وما يدور في العالم من ثورات علمية وفنية يحتل فيها الشعر ومنجزه الحداثي دور الصدارة، والشعر يصبح بذلك أداة تشريحية يستخدم بصورة غير مباشرة لتفاعل مع المرجعية الثقافية والاجتماعية. والعودة لتاريخ تطور الشعر العربي تكشف انتصار الأشكال الشعرية الحداثية على المدونة التراثية المحافظة يقول شوقي ضيف في دراسته المهمة عن تطور الشعر العربي في العصر الأموي:”ومع بداية القرن الثانى بدأ انتصار الغناء على الشعر التقليدي، وقد جدد الشعراء تحت تأثير الغناء والموسيقى كثيرًا من الأوزان، كما جددوا في اللغة والأساليب. وجاء التغير في موسيقى الشعر على حساب الزحافات والعلل حيث تفيد في كسر رتابة انتظام التفعيلة، وتمنح الشعراء القليل من حرية التصرف في القول والوزن حيث إن أهم تغير تم في الشعر الحديث من ناحية الشكل هو العدول عن وحدة البيت إلى وحدة القصيدة، وهذا التحول هو الذي هدم فكرة القافية الواحدة”.

     وتأتي محاولة توسيع مفهوم الإيقاع بشكل يتناسب مع (ثقافة كتابية( تنتمي لها تجربة قصيدة النثر حيث تنتمي تجربة قصيدة النثر إلى ثقافة المدينة المعاصرة وتطورها في مفارقة واضحة ضد مفهوم الإيقاع السمعي المتجذر في تربة التراث العربي حيث سيطرة العقلية الشفاهية على إنتاج الشعر العربى ويؤكد (والتر ج أونج( مفهوم الشفاهية والكتابية ويقول:”وفي الثقافة الشفاهية الأولية، حيث لا وجود للكلمة إلا في الصوت، دون إشارة من أي نوع إلى أي نص يدرك إدراكا بصريًا، بل دون وعي بإمكان وجود هذا النص، تدخل ظاهرية الصوت بعمق إلى شعور الكائنات البشرية بالوجود، كما تنتجه الكلمة المنطوقة. كذلك يؤثر فعل الصوت المتجه نحو المركز ومجال الصوت غير منتشر أمامي بل ملتف حولي يؤثر مجال الصوت في حس الإنسان بالكون. والكون بالنسبة للثقافات الشفاهية، حدث مستمر يقع الإنسان في المركز منه”. هذا النظام اللغوي الذي يسود فيه الصوت يتفق مع ميول ثقافية تجمعية أكثر من الميول التحليلية التجزيئية التي سوف تأتي مع الكلمة المكتوبة المرئية، فالكتابة لغة طليقة السياق، بشكل يساعد على بناء الصورة التي تعتمد على البصر الذي يتميز بأنه حاسة تجزيئية، وهذا ما يتفق مع خصائص الصورة الشعرية لدى قصيدة النثر.

     والتطور الكبير الذي لحق بمفهوم الإيقاع في الشعر الحديث ساعد على خروج البناء الشعري من إطار الموسيقى إلى الإطار التشكيلي أو التصويري، وأن الشيء الجديد الذي حققته الشعرية الجديدة، هو البناء بالصورة وانتقال الإيقاع من المستوى الصوتي فقط إلى مستويات شعرية أخرى مثل المستوى البصري الذي يساعد على حيوية بناء الصورة الذي سبق وتمت الإشارة إليه سلفا، وهذا ما يمنح الصورة الشعرية دينامية فاعلة عبر التعبيرعن الفكرة بالصورة والرمز والإيحاء، يعمل بناء الصورعلى تحويل الواقع الحسي إلى روح نابضة بالحياة، فينصهر الشعور بالجمال مع الرمزية الشعرية التي تجعل قصيدة النثر قصيدة دلالية ذات بناء فني يعتمد على الصورة، ولا يمكن فهم قصيدة النثر دون فهم طبيعة الصورة الفنية.

     والصورة البصرية نتاج لكل الحواس الأخرى، وأهم ما تعتمد عليه بناء الصورة البصرية هو اللون حيث تأتي الأشكال والألوان تمثل وسيلة الشاعر في إحداث التوترات التي تصاحب التجربة الشعرية بوصفها مثيرات حسية، ويأتي رسم الصورة مستخدمًا اللون إشارة على جدلية بناء القصيدة، وسنقدم قراءة لبعض قصائد من الأنطولوجيا الشعرية الأولى والثانية لمؤتمر قصيدة النثر المصرية.

يقول الشاعر) أشرف الجمال(:

 داكن كالليلِ/ يصفقُ كخنجرٍ أزرق

مُرٌ كالحنظل /هذا الحزن بعينيك

وأنت تهرولين باكية وراء النعش

تتعثرين تارةً وتنهضين أخرى

وتقولين: مع السلامة يا فرحي.

   ينقل المقطع السابق تجربة الشاعر في استخدام اللون الذي يأخذ تأثيره داخل السياق الشعري فينقل الشعور باللون وعي الشاعر بالوجود، ويستخدم أداة التشبيه في نقل إيحاء الكلمة عبر اللون، ويأتي استخدام  دال لون الليل الداكن الذي منح فاعلية معنوية هي (التصفيق(، وما في هذا الفعل من صخب حيث يشبه الشاعر بالخنجر الذي يصفه بالأزرق، وما تحمله دلالة اللون من أبعاد جمالية في إشارة إلى السماء أثناء الليل ويربط ذلك بالحالة النفسية للذات الشاعرة التي تجسدها لنا مفردات القصيدة. ينقل لنا مشاعر تعبر عن القلق والوحدة. وننتقل إلى نموذج آخر للتعبيرات البصرية الجمالية  داخل أحد نصوص الشاعر

)سالم شبانة 🙁

عادتُنا :الحرمان والغضبُ الأسودُ

ارتبكْنا؛ اليدُ تسقطُ في حيزِ الإسفلتِ. صورةٌ قديمةٌ لامرأةِ الأبيضِ والأسودِ تضعُ ساقًا على ساقٍ،       

 وتبتسمُ فى حزنٍ خافتٍ.

كيفَ تصطادُ بحرًا بالكيبورد؟!

أجلستُ البحرَ على الطاولةِ.

جرحَ يده بسكين الغبار، سالً دمٌ أزرق بداية الخريف؛ بكيتُ وحملتُ جرارًا من الوقتِ؛ لأصفَّها على ذراعه. أنا البدوي القاحلُ الذي أجلسَ البحر على الطاولة وأطعمَه أوراقًا من “زوربا”، وهدايا الغجر العابرين سريعًا فى شاحنات (اللاندكروزر..)

الصحراءَ المطمورةَ تحتَ الكبريتِ والصراخَ، بخرافة عن بحر غاف فوق الطاولةِ، والكتبِ الزرقاءِ. صيف بحريٌ، يهجَعُ فى الشّرفة.

     دائمًا ما تأتي المفردة اللغوية ليست معادلًا بسيطًا لمجسد مرئي؛ بل من أجل أن تشير دائمًا إلى علاقة لغوية فالعلامة ليست هي (الدال والمدلول( بذاته، بل بنيتهما التي تكوّن علاقة بين الإنسان وموجودات العالم، وتجمع مفردة (عادتُنا( بين الحرمان والغضب الأسود يجمع

بينهما حرف العطف الذي يصنع المشاركة في الحالة المزاجية للشاعر، وتأتي الصبغة اللون بين الغضب، وهو الصفة المعنوية الذي يحمل دلالة اللون الأسود؛ ليعبرعن عنف الواقع الذي تنقله مفردات القصيدة،

     وتأتي الصورة المبتكرة في عبارة (أجلستُ البحرَ على الطاولة) تكشف لنا عن حالة البحر الذي تضربه الرياح فيسيل الموج أزرق كالدم ومفردة الخريف تدل على تبدل الزمان وعدم الاستقرار الذي يعبر عن الحالة النفسية للشاعر وهو يجلس أمام البحر. وتظهر المرجعية الثقافية في تجربة  الشاعر عبر المقارنة بين دال البحر/ الصحراء الذي يؤطر تجربة الشاعر حتى نصل لبلوغ درجة عالية من الشعرية حيث تتحول الكتب والأوراق إلى اللون الأزرق، وهو لون البحر أو لون الغرق، وتعدد الدلالة تكشف المعاناة الخاصة بعلاقة الشاعر بالبحر/ الصحراء في محاولة من جانب القصيدة لأضفاء صفات إنسانية خاصة بتجربة الشاعر على المكان، فيتحول المكان من مجرد دال واقعي مجرد إلى شعرية متعددة الدلالات، تكشف علاقة فريدة بالمكان، فالمكان دائما يتسرب إلى داخل تجربة الشاعر ليكشف عن طبقات متعددة من المعنى الذي يتكون عبر تجربة التأويل والقراءة للنص الشعري مع استحضار المرجعيات الثقافية والاجتماعية التي تعبّر عن الانحيازات الجمالية للشاعر في محاولة القصيدة الدائمة للهروب من الواقع اليومي الضيق إلى رحاب فضاء الشعر المكتنز بسرديات جمالية وجودية، تعيد بناء الإنسان المعاصر في علاقته مع العالم .

     وننتقل إلى مقطع آخر من قصيدة “يوتوبيا” للشاعر (عبد الغفار العوضي)

هل ستبني مدنا من البنفسج فوق المقابر الجماعية القديمة!

…  …. …

سيكون هناك مهرجانات للذاكرة،

نفرد حكاياتنا على ملاءات الظهيرة البيضاء،

وننقى منها سوس الأزمنة../ ولا نترك سوى أطراف أصابعنا..

التى ينخرها الآن/ خواء القلب!

     يأتى الأستفهام في بداية المقطع الشعري) هل) الذي يتداخل مع صورة بصرية تستثير الذكريات التي يصفها الشاعر بأنها مهرجانات للذاكرة في دلالة على الصخب والتعدد، وهذه مفارقة مع الصبغة اللونية في مفردات دالة مثل (البيضاء ـ البنفسج) وحضور المشاهد الحسية التي تراكمت على ذاكرة الشاعر، مما يسهم في تدفق الصيغ الشعرية المكتنزة بالدلالة المكثفة مما يجعلها تعبر بكل دقة على الذات الشاعرة وهي تعاني من خواء القلب.

     ونعود إلى تلامس تراكم الألوان في نص الشاعر (إبراهيم جمال الدين (يقول:

“إذ ربما/ ينتفض القلب العجوز

ويشتهي/ ضحكًا طويلاً

وعدوًا فوق خضرة/ بعيدة المدى

بين ضباب كثيف/ يصنع للمشهد ملائكية

وخيوط ضوء تسلل

وأنا/ وأنت أيها المسكوت عنه

في المشهد”.

     ينفتح هذا المقطع الصغير منذ البداية على حالة من الاحتمال والتنبؤ وهذا (إيقاع الشعر المفضل) حيث تأتي الصبغة اللونية المكونة للصورة الجمالية بشكل مباشر في كلمة (وعدوًا فوق خضرة (وبطريقة غير مباشرة تتشكل في ذهن القارئ (من خلال فعل القراءة والتأويل في عبارة (بين ضباب كثيف) حالة شعرية تظهر مع اكتمال الصورة البصرية فى كلمة (المشهد (حيث تؤكد على قصد الشاعر رسم صورة بصرية في لغة شعرية بسيطة. ترسم ظلال وحركة الضوء للمكان فى عبارة (وخيوط ضوء تسلل وأنا وأنت أيها المسكوت عنه في المشهد(، وهذا المسكوت عنه في المشهد تكشفه الصورة البصرية الجمالية التي تربط بين الحواس، وتنقل المدركات البصرية عبر لغة شعرية تتوسع في نقل الألفاظ من مجالات استعمالاتها القريبة المألوفة إلى آفاق التجربة الشعرية المتفردة التي تعتمد إيقاعًا دلاليًا وجماليًا خاص بها ارتقى من المستوى اللغوي العادي إلى مستوى رمزي يؤكد غاية الشعر في حضور الدال وغياب المدلول.

    وننتقل إلى استعراض نموذج للصورة الشمية التى تظهر فى جماليات الصورة الشعرية الشمية فنجد استخدام الشعراء لألفاظ تنقل روائح الأشياء وتنقل مشاعر الشعراء، وكأنه تجربة واقعية يظهر ذلك في المقطع القصير للشاعر (عادل جلال) يقول:

لا تلوح للنسيان

لا شيء معها غير وحدتها والظلام عشاقها ملتصقون كلحاء شجر يخافُ على سرها، دخانُ يشير إلى العشق بدوره كان يعشق الغيمة؛ وكلٌ ساكنٌ بعشقه ضاقت بالصمت أزاحت عشاقها فانفجروا ليتناثرَ الصمت قطعا، ويتمزق ثوبَ العماء؛ دائرة العشق تبدأ واختلاط العناصر، من قسوةِ العشق والسكون أشعلت نار الحنين قبلة الشوق، وقبلة الوداع، أشعلت رحلة العشاق، فلما هبط الدخانُ إلى ما انطفأ صار ماء، تركت ما تبقى يضيءُ ليرضي اشتعاله غرور الفاتن المعشوق صنعت نجوما تضيء وحدتها تلهو حولها، وبالمرة تملأ الفراغ المقدس الفراغ المؤلم بعناصر غير العناصر، وتضع على الظلام لمسة شاعرية، فانكسرالعماء بسيف نورها ، وسعى كل بزينته لترق الغيمة لحاله، أخذت الماء لقليل من الموسيقى تحاربُ به الوقت.. ثم عادت تسامر وحدتها تقضي بنفسها ترتيب حاجتها.. وسريرًا على الماء يداعب الوقت.

     تنساب الدفقة الشعرية من بداية المقطع في عبارة مشتركة فى العنوان وبداية القصيدة حيث (لا الناهية) التي تفتح المشهد على الفراغ الذي يناسب الوحدة، ويرسم المشهد حيث أركان الصورة البصرية كاملة عبر الضوء وهو الظلام، والصورة الشمية فى رائحة الدخان ولونه الرمادي وعناصر الطبيعة حيث (الماءـ الشجرـ الغيمة- نار- نجوماـ النور) والكلمة الشعرية هي التي تتضمن موت اللغة وبعثها في صورة أخرى حيث الرائحة واللون والضوء التي ترسمها الجملة الشعرية فتشع بصور شعرية تعيد رسم حدود العالم وتنقل الدفقة النفسية للذات الشاعرة في علاقتها بالعالم من خلال اعتماد الشاعر على حاسة الشم والبصر؛ لرسم صورة حسية تظهر فيها خصائص قصيدة النثر في بناء الصورة.

     اعتاد النقاد التركيز على حسية الصورة من خلال رسم ملامح الصورة البصرية فقط، ولكن الصورة الحسية تتجاوز الصورة البصرية حيث يعد الصوت من عناصر بناء التجربة الشعرية وحاسة السمع لا تقتصر على الليل والنهار لكن تعمل طوال اليوم في علاقته بوعي الإنسان.

تقول الشاعرة (فاطمة ناعوت (فى هذا المقطع من قصيدة (طفلان:(

… فلما دخل الكوخ الخشبي

وأنصت إلى فيروز

تحكى عن أطفال يعدون قروشهم

من أجل شجرة الميلاد،

سقى معها الزهرَ،

وأحبها أكثر.

     تكتمل مشهدية القصيدة في التشكيل المرئي الناطق حيث حضور السرد بلغة شعرية، ويأتي بناء المفردات عبر تلك الصورة السمعية في صوت فيروز الممتع وكأنه يحدث نوعًا من التداخل بين غنائية صوت فيروز وبين الإيقاع الداخلي لموسيقى القصيدة وجاء بناء الصورة والخطاب الشعري بشكل مشهدي عبر حالة شعرية حالمة. وتحمل القصيدة ركن آخر من أركان الصورة الحسية، وهي الصورة الذوقية التي تجعل المتلقي يتذوق مفردات القصيدة بشكل مغاير ينقل الدفقة الشعرية من الذات الشاعرة إلى وعي  المتلقي تقول :

فلما أطعمته بيدها

حفنة ملح وكسرة من خبز ناشف؛

قطر في صحنها زيت الزيتون.

     وتأتي ظاهرة شعرية أخرى هي تراسل الحواس حيث تحمل الجمل الشعرية دلالات ومعاني جديدة تعتمد على تعدد القراءة والتاويل تعمل على تجديد اللغة ومنحها الحيوية ورفعها من آفاق التداول إلى صفاء العوالم  الشعرية  حيث تمتزج المدركات البصرية والصوتية والذوقية والشمية في حالة من الوجد الشعري

يقول الشاعر) أسامه جاد):

 ظل برائحة القرنفل

 … الظلال بطعم الطين، دائما:

البرودة التي تثلجُ الفؤادَ بمذاق الأصابع ونداوة العشب

ظلك مختلف ألوانه

رائحته قرنفُل

ومذاقهُ سكر

كلما تعانق ظلي وظلك

وخطونا معا في أغنية عاطفية

رقصت ضحكات في الحديقة

والشارعُ جمد الحركة لحظات ليستمتع بالمشاهدة البطيئة

الشارعُ يحب ظلك: خفته المتناهية

وابتساماته الملونة

والأغاني تحبُه: خطواته الرهيفة فوق أقدامي

بلا صوت

وظلي يحبك: يتفننُ في تكويناته كيما يعجبك؛ فارسًا وأميرًا

وعاشقا يجيء على فرس من  “الرومبا”

لينقذ ظلك

من براثن الشارعِ

     جاء هنا استخدام الشاعر لغة متدفقة بأسلوب سردي معبق بالشعرية، واعتماد الوصف في بناء الصورة على ربط مدركات كل حاسة من الحواس بصفات الحواس الأخرى، يأتي السياق ليمنح الطاقات الخلاقة الموحية في بناء الصورة الشعرية. فالقصيدة تصنع صورها من تفاعل عناصرها المكونة لها، وهذا يعني أن العناصر لا قيمة لها في ذاتها، وإنما في توظيفها فنيا من خلال اللغة الشاعرة.

يأتي هذا النص للشاعر (عاطف عبد العزيز) يقول :الكيت كات

تحبُ الموسيقى!

لكنك لستَ بخيالي الذي يستبدلُ بهجته بالبيوت الملك، لذا لا تستحق دور الأزهري الأعمى، الذي فض    

لراجح داود أسرار الكائنات في شارع  “فضل الله عثمان”.

تحبُ البراءة! غير أنك مصاب بالأرق المزمن، فلن تكون يوسف.

المعشوق في غفلته، ولاعامل الفراشة الذي هده التعب، ونام على صندوق الفضائح. تحبُ الحياة!.

كون الكادر إذن بما يشبه روحك الواقعية المفرطة، هذا ما عليك، أبدأ بالواجهات الكالحة، ثم الأسطح المليئة بالهوائيات وبالجرار والدجاج، وفي النهاية، ضع الهدوم التي يتنازعها الهواء والمشابك الخشب.

     التغيير دائما يأتي من الهامش الشفاف غير المرئي، وهذا ما تنقله لنا الحالة الشعرية المدهشة داخل القصيدة، وتعبر عن الشاعر في علاقته بمكان مفضل لديها، وهو منطقة الكيت كات الشعبية بحي إمبابة، وتتمثل المرجعية الثقافية للصورة الشعرية في تجربة الشاعر، وتلك العناصر التي يعتمد عليها بناء الصورة وهى ترتبط بالتكون الثقافي والمعرفي والتجربة الحياتية، وقدرته على توظيفها في عملية الإبداع معتمدأ على الإيحاء. والشعرية الحقيقة ليست في المعنى فقط بل في كيفية إنتاج المعنى حيث تنحاز القصيدة إلى منطقة  )السيرة) ودائرة (القصة) وتتدفق الدلالات الكامنة داخل القصيدة لتؤكد قدرتها على إحداث المفاجئة وإثارة الدهشة وكسر التوقع لدى القارئ، حيث تستدعي القصيدة أفق درامي وتنقل لنا شخصيات قصصية تنتمي لعالم الروائي المصري إبراهيم أصلان، وخاصة فى عمله الفريد رواية (مالك الحزين) .واستدعاء شخصيات روائية  مثل) الشيخ حسني) الأعمى الذي كان يحتال على الناس ويصف الحياة بكل دقة بصرية بالألوان كأنه يرى ما لا يره الناس و(شخصية المراكبي) و(شخصية العم مجاهد) بائع الفول، وكأن هذا القصيدة تشبه قصة قصيرة تمتلئ بالدفقات الشعرية وسيطرت موسيقى قصيدة النثر الداخلية التي تركز على إيقاع المعنى في بناء الدلالة والصورة الحسية.

     وعليه تأتي تجارب قصيدة النثر المصرية المعاصرة  لتأكد على مفارقة مفهوم الفن الذي يتعالى على التاريخ، ويستمد الجميل من “اللازمان” بحسب كانط، لكن قصيدة النثر تؤكد على أن العمل الفني يبدأ بالخبرات الإنسانية وتجارب الحياة حتى يرتفع العمل الفني إلى مستوى من الدلالة الكلية تتفاعل مع الواقع والتاريخ .وطبيعة قصيدة النثر التغير والتطور الدائم .فالأشياء التي تتغير تفرض نفسها علينا أكثر من تلك الأشياء التي تظل ساكنة جامدة، وهذا قانون عام لحياتنا العقلية، وهو نتاج جدل الواقع والتاريخ والفكر.

……………….

*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم