قبض الريح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 46
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة

* يلتقيها في شقة قريبه:

    نظف الشقة، رتب بذوق أثاثه القليل، وترك عود الند يعطر الهواء. وبعد أن استحم وحلق ذقنه ولبس بدلته الرياضية، جلس ينتظر. روحه موزعة، في توتر، بين الإطلال من النافذة، وبين استراق السمع إلى الأصوات القادمة من الدرج. باب الشقة مشرع، وحواسه مستنفرة. حين يتناهى إليه صوت من الدرج، يخيل إليه أن فدوى صاعدة، ويرتعش. تدوّمه لحظة كثيفة تنبض بمزيح من التوقع والفرح، الخوف والدهشة، الحلم والأسئلة…

    ولما تمدد مرتخيا فوق “المضرّبة”، محاولا تهدئة أنفاسه، سمع طرقا على الباب. هرول خافق القلب، فتجلت له واقفة عند العتبة، صحبة أختها الكبرى. بالترحيب ابتدرهما مبتسما، برغم الارتباك الذي سرى في جسده ومازج صوته. وإلى الغرفة قادهما متبلا كلماته بالدعابة. أما هي فقد كانت صامتة، ممتقعة الوجه، مرئية على نحو صارخ في جلبابها البرتقالي، بينما كانت أختها أجرأ منه، تتحرك بطلاقة، كما لو كانت تحاول أن تهيئ لهما طقس اللقاء. وإذ اتخذوا مجلسهم في الغرفة، راح يغالب ارتعاشه الداخلي عبر التندر بارتباك فدوى: “بسم الله عليك! كأنك تخافين أن آكلك؟.. تكلمي أنت (يخاطب أختهـا) مع هـذه المصيبة…”. وانفجروا بالضحك.

   في لحظة صمت، أخرجت أختها من حقيبة يدها قميصا يبدو أنيقا في غلافه الشفاف، وناولته إياه مشيرة إلى فدوى: “هدية من هذه المصيبة!”. نشر القميص متفحصا إياه وقد زقزق سعادة، وحلق. أحس بها تنظر إليه ملاحقة حركاته وسكناته، كأنها تراه لأول مرة. كانت مشدودة إليه، في عينيها اهتمام وشغف، وجهها مورد، مضاء بشعور الغبطة، وقد زادتها بهاءً قصةُ شعرها المصفف حديثا. تحرر لسانها، تدريجيا، من صمت الخجل، وعلت شفتيها ابتسامة حية ممتلئة. ومسّته كهرباء حين ارتكبت تلك الحركة المفاجئة: فيما كانت تتحدث إليه، رفعت جلبابها، فجأة، بحركة تلقائية، فبرز من الفتحة الجانبية جزء من ركبتها، وطبعا كل ساقها. هل كانت تحاول إغواءه؟ انغوى فعلا وهو يتابع شفتيها تنسجان الكلمات، ويتأمل، في الآن نفسه، الساق والركبة بجمالهما المكتنـز .. وشَدَهَهُ بياضهما المشع.

 

* يكتب إليها رسالة:

   “… أبعدني الداء عنك ثلاثة أيام خلتها دهرا. غرقت في الزكام والسعال، فخارت قواي، واستسلمت للسرير. في لحظات خلوتي تنبثقين عذبة مكتنـزة، هادئة مثيرة، عطرة واعدة. يجيئني صوتك، كدفق الماء تحت شجرة كثيفة الخمائل، رقيقا عميقا، يغور في أذني الداخلية، يهزّ مني الروح لكأني في سكرة الذهول. وأرى وجهك القمحي البشرة، مشعا بنضارة ندية سمحة طيبة، مزهرا بالعينين البليلتين الشفافتين المعتمتين، العينين الشاهقتين براءة وأملا وطموحا. وامتلئ بحس جسدك البض، الواثق الأنوثة، الرشيق الدافئ في اكتنازه. رقتك تدوخني حدّ الـهوس، امتلاؤك ينادي على فراغي، نظراتك الـمصوبة باتجاهي بوصلتي في تيه الخطو.

   الداء عرفني بمدى القرب الذي صار يصلني بك، بمدى ضحالة وجودي من غير رائحتك. أختصر الآن كل عودتـي إلى العمل في ملاقاة روحك المجسدة. كأني لن أذهب إلى العمل، إنـما أنا ذاهب لألتقي طعم حياتي، معنى أنفاسي.

   إنا إذ نتحرك، لا بسلطة الصريح، بل بسحر الخبيء.

   كم للنفس من أفضال على الجسد !

   كم للنفس من أحمال على الجسد!”.

* يشكو إلى صديقه المهاجر:

   “… لولاها كنتُ أُبْتُ إلى عطالتي !

   أكثف جهدي لأقدم المعرفة لهؤلاء التلاميذ في شكل وجبة دسمة شهية، وأغلبهم شارد عني، يحملق في وجهي ببلاهة، أو يستنسخ ما فاته من دروس المواد الأخرى، أو لا يفتأ يبتكر فنونا من الشغب، أو …

   تصور يا صديقي الكظم الذي أمارسه على غضبي حتى لا أبطش بأحدهم. أليس من العبث أن تطرح أسئلتك تستفسر عن مسألة فرغت لتوك من تحليلها ولا تجد سوى صدى صوتك ترجعه الجدران ؟ ولا تسل عن الإحباط الذي يجتاحك عندما تصوغ المقدمات، في تدرج، وتنتظر عبثا من يستخلص منها النتائج الضرورية؛ أو عندما تتصفح دفتر أحدهم فتكتشف أن عباراتك لحقها مس من التحريف، فأصبحت غامضة المعنى أو بمعنى لم تقصده؛ أو عندما ينشب نزاع، بالألفاظ أو بالأيدي، بين اثنين، في اللحظة التي تكون فيها مستغرقا كليا في تحليل أو نقد موقف ما…

   إلى القلق والحيرة يقذفون بـي، وأحتمل..لأني أرى فدوى تتخلل درسي، أراها تتطلع إليّ من مقعدها، باهتمام يشوب جمال عينيها.

   لكن السيد المدير (وابنه أيضا) يجعل الدم يغلي في رأسي.

   في أول زيارة، استقبلني ببشاشة وتأدب بالغ. وما إن أدليت بطلبي، حتى بدا التحفظ واضحا على وجهه. أخذ يقلب النظر في شهاداتـي وبيان نقطي، ثم باغتني بالسؤال: “هل لك تجربة سابقة؟”. وإذ أجبت نفيا، انخرط في توضيح مسهب لضرورة التكوين والتجربة لأداء عمل حساس وخطير كالعمل التر…

   ولم يكن له أن يأذن بالتحاقي بصف العاملين في مدرسته الحرة، لو لم أتوسل إلى أحد أثرياء مدينتنا أن يتوسط لي عنده. مع ذلك ظل جافا باردا في علاقته بي. كان يكلمني باستعلاء، وقلما أضاف لقب الأستاذ إلى اسمي. وكان يتعمد كسر هيبتي أمام التلاميذ.

   مرة تحداني أحدهم سألته أن ينتبه إلى الدرس ويكف عن شغبه، فطردته بانفعال صاخب. وقبل أن أستعيد هدوء أعصابي، كان السيد المدير قد فتح باب القسم، من غير استئذان، وتقدم نحوي يتبعه التلميذ المطرود. ولك يا صديقي أن تتخيل كيف صافحني بحرارة متكلفة، ثم التفت إلى التلاميذ وراح يلقي عليهم كلمة مطولة حول ضرورة النظام والانضباط، ثم أشار إلى التلميذ أن يلتحق بمكانه. كنت ما أزال مشدوها حين سمعت صوته الآمر: “دقيقة من فضلك!”. سرت خلفه إلى خارج القسم، ولم تسعفنـي نفسي بالـمزاج اللازم لسماع شريطه عن خصوصية المدرسة الحرة، عن واجبات الـمربي، وعن القانون الذي يـمنع منعا باتا حرمان التلميذ من حقه في …”.

 

* الـطـعـنـة :

   بالوجه الحليق الناعم، بالقميص الأنيق وربطة العنق، بالهاتف المحمول، كان يجلس إلى مكتب أبيه. يتضوع عطرا، ويلهبك بنظرات تذكرك بأنه الابن المدلل: له أن يصدر إليك الأوامر مثل أبيه، أن يوجه إليك ملاحظات بصدد تأخرك أو تهاونك في تعبئة دفتر النصوص أو تدخينك على مرأى من التلاميذ، أو بصدد ما يثار من إشاعة حول سيرتك. كان يعرف دائما كيف يجد منفذا يتسلل منه إلى كبريائك. يتعمد أن يجرحك بلباقة، أن يستفزك داسا سمه في عبارات تبدو بريئة أو موضوعية. وكنت تعتقد أنه مشحون ضدك بتحريض من أبيه.

   لكنك لما استشعرت تلميحه إلى اهتمامك بتلك التلميذة لم تعد تحتمل. افترستك غيرة وحشية حين رأيته يغمرها بنظرات وقحة، وحين رأيته يستوقفها ليحادثها بصوت خفيض أبقاك بـمنأى عن موضوع الحديث. تكرر ذلك عديدا من المرات.

   وطُوّح بك إلى هاوية بلا قرار، تفجرت شظايا، واحترق المعنى بداخلك، عندما ارتطمت بذلك المشهد الفاتك: كانت تجلس بالقرب منه، يكاد كتفها يلامس كتفه. نعم، فدوى تجلس قريبا منه في سيارة أبيه. السيارة تسير ببطء، خلف طابور من السيارات، في الشارع المحاذي للكورنيش، وهي بجواره، في أبهى زينتها!

   هل كنت أعمى إلى هذا الحد ؟ فركت عينيك جيدا، وحملقت ببلاهة …

   بعدئذ (صَدْمَتئذ!)، انتزعت منها أشياءك، استعدت كل ما يقبل أن يستعاد: الصور والرسائل والكتب والشرائط. وفي ليلة ستبقى منحفرة في ذاكرتك، مزقت وأحرقت.. بعنف وانتشاء. لم تستبق منها أي أثر، سوى ما لا تقدر أن تمحوه.

   وكتمت الفجيعة في أحشائك، لم تتركها تتسرب. حتى صديقك المهاجر، ملجأ بوحك وأسرارك، لم تستطع أن تعري له نفسك المطعونة بالخيانة. رغم ذلك، كنت تلمح في عيون الآخرين ظلال الإشفاق أو التشفي.

 

* تحت المجهر:

   “دللتُها إلى أقصى الحدود: كانت كلماتي حاسمة لا تترك منفذا للشك، بينما كانت كلماتها تهرب دوما إلى صيغ الاحتمال. كنت أمامها صفحة ماء تشف عما تحتها، وكانت صفحة سماء ملبدة بسحب زائفة. كنت أميل معها إلى التنازل لإرضائها، وكانت تميل إلى العناد المغلف بالغنج والدلال. كنت أبحث عنها دوما، عبر المكالمات..، عبر الرسائل، عبر الهدايا واللقاءات، وكانت تكتفي بالتلقي. كنت أفرط في التعبير عن عواطفي تجاهها، وكانت تداري عواطفها، بل كانت تثير غيرتي وتلقي ظلالا من الشك على شعورها إزائي. كنت أسلك معها بروح اليقين والثقة في المستقبل، وكانت تسلك معي بروح الشك والخوف. كنت أجيب بإسهاب وإقناع عن كل أسئلتها، وكانت تتهرب من بعض أسئلتي بالمراوغة، أو بادعاء عدم معرفة الجواب، أو بالصمت. وحين كانت تخطئ، كنت أغض الطرف، أتفهم، وأقف عند حدود العتاب…”.

 

* على الحافة:

   ماء يتدفق، يهبط الدرجات عجولا مندفعا، يترشش في لون أغبر. توقف عند باب العمارة، ينتظر أن ينتهي الماء من نزوله. ورأى الساقين والثوب المنحسر عن الفخذين، رأى ذلك من الخلف. كانت الخادمة تهبط الدرجات على مهل، تكنسها، والبقايا الغبراء التي بللها الماء تنقذف إلى أسفل. صعد بمحاذاة الجدار، محاذرا أن يرشه الماء المتسخ. انتبهت إلى وقع أقدامه، فالتصقت بالجدار الآخر، فاسحة له الطريق. ورأى عندئذ وجهها الأسمر المدور، والخرقة تلف رأسها. حياها، وترك عينيه – في فسحة البرهة العابرة – تأكلان الفخذين البضين وقد تبللا بالماء وانحسر عنهما الثوب. وإذ دخل إلى شقة قريبه أحس بالرغبة تنبض في دمه ممتزجة بشعور عميق بالانكسار. كانت الخادمة تأتي في نهاية كل أسبوعين لتنظيف درجات العمارة، وقد صادفها مرارا، لكنها لم توقظ فيه الرغبة قط. مسح بنظراته أرضية الشقة متنهدا: كان الغبار يغطيها، وكانت مبقعة بذرْق الطيور. قال لنفسه بصوت مسموع: “لدي ذريعة لاستدراج الخادمة”. وضحك في سخرية، ثم استلقى فوق “المضربة” حيث تبعثرت ثيابه. وهجمت عليه ذكرى فدوى.

 

* موحشا:

   لم يحل المساء حتى كان يقود ضيوفا إلى الشقة. استغنى عن ضوء المصباح، وأشعل شموعا ألقت ظلالا رومانسية على الغبار وعلى أشيائه المبعثرة في فوضى. وقبل أن يتكوم فوق “المضربة”، في الثانية صباحا، كتب في دفتر مذكراته:

  “هواء رطب منعش يهب على الكورنيش، أضواء باهرة تضيء الفضاء وتغسل القامات والوجوه المتحضرة الباذخة، بحر هائل يمتد معتما هادرا في حركة من يتثاءب تأهبا للنوم، مشيات مدروسة، وثياب على آخر صيحات الموضة. كل شيء براق وجذاب وجميل، كأنك تخطو في أروقة حلم ناعم. بالزهو تشعر، وبالحظ والغبطة، لأنك جزء من هذا الكل الجميل الجذاب البراق!

   كرنفال من الأجساد والوجوه والعلاقات. فتيات في تفتح العمر يستعرضن مفاتنهن بالواضح الأنيق. مقاه على وزن مباغ: موسيقى صاخبة، راقصة، تافهة، تعزف على شرف وجوه متضوعة بالعطر، مثقلة بالأناقة، تهتز على إيقاع الموسيقى والرغبة المتفجرة صارخة من الكلمات المتكلفة والعيون الجشعة والضحكات…

   أنا أيضا انغمست في طقس الرغبة، و…

   اصطدت مع جاري، “الدبلوماسي”، امرأتين صغيرتين. وانسابت خطواتنا في نهر الكورنيش المزدحم المتحضر الجميل، حتى انتهينا إلى الشقة. وكان ما كان مما لست أذكره.

   استفسرتني صاحبتي حين رأت بنصري يتلألأ بالخاتم الذهبي. أنا خاطب، قلت لها. كذبت عليها!  لقد كان في الواقع هدية من فدوى (ملحوظة: كان من الذهب الـمزيف). لم يبد على صاحبتي أي تعجب، كأنها اعتادت مصاحبة الخطاب والمتزوجين. قالت إنها تدعى شادية، وإنها ملتزمة مع أحد أقاربها، وإنها لم تكن لترافقني لو لم تحس أني “ولد الناس”، ولذلك لا ينبغي أن أحسب أنها من إياهن…

   كانت هي الأخرى تكذب.

   وأنا ألوك لحمها، فيما أسمع جاري يلوك هو الآخر لحم صاحبته، تذكرت بطل رواية تسمى”الانتباه”، كان يدمن على الجسد من أجل التّماس مع الموت، ووعيت أني أسّاقط.. موحشا”.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون