في مَنامي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد العارف

 (1)

أَمْسٍ حَصَلَ شَيْءٌ مُقْلِقٌ وَجَميلٌ. رَأَيْتُكِ فِي الْمَنامِ. مَنْطِقُ الحُلُمِ مُخْتَلِفٌ وَأَنْتِ هِيَ أَنْتِ؛بَهِيَّةٌ شَهِيَّةٌ. شَعَرُكِ مُسْبَلٌ وَعَيْنَاكِ ضَاحِكَتَانِ وَثَغْرُكِ باسِمٌ. هُناكَ في الْخَلْفِيَّةِ ما يُشْبِهُ الْأَنينَ أَوْ لَعَلَّهُ صَوْتٌ يَتَضرَّعُ إِلَى اللهِ بِخُفوتٍ. أُصيخُ السَّمْعَ إِلَى الصَّوْتِ فَيَبْدو لِي أَنَّهُ صَوْتُكِ. أنْتِ أَمامي تَتَبَسّمينَ وَصَوْتُكِ في الخَلْفِيَّةِ يَنْهَرٍقُ في سُكونِ اللَّيْلِ. مَكانُ الحُلُمِ أَرْبَعَةُ أَمْكِنَةٍ تَتَداخَلُ في ما بَيْنَهَا. خَيْطُ الحُلُمِ يَرْتِقُها. بَيْتُ أُخْتي، بَيْتٌ أَمْضَيْتُ فيه إحْدَى العُطَلِ الصَّيْفِيَّةِ، بَيْتُكِ، وَبَيْتي. أَقْرَأُ رِوايَةً وَأَنْتِ تَمُرِّينَ أَمامي وَتَتَبَسَّمين بِدَلالٍ. تَلْبَسينَ تَنُّورةً سَوْداءَ طَويلَةً مُهَلْهَلَةً وَقَميصاً سَماوِيَّ اللَّوْنِ وَحِذاءً ذا كَعْبٍ عالٍ. تَبْدينَ فاتِنَةً. تَتَبَسَّمينَ وَتَقُولينَ لي: يَاللهْ، مَا لَكْ؟ ثُمَّ تُشَيّرينَ بِمِنْديلٍ لا لَوْنَ لَهُ وَأَنا ذاهِلٌ عَنْكِ لا أَسْتَطيعُ أَنْ أُصَدِّقَ أَنَّكِ أَنْتِ. تَتَطَلَّعينَ إِلى ذُهولي بِمَكْرٍ وَتَبْتَسِمينَ بِخُبْثٍ مُحَبَّب. يُعْجِبُكِ مَنْظَرُ الذُّهُولِ في عَيْنَيَّ فَيَزيدُ غُنْجُكِ وَدَلالُكِ وَتَشِعُّ ابْتِسامَتُكِ. هَذِهِ المَرَّةُ تَقولينَ بِلُغَتِكِ المُحَبَّبَةِ وَأَنْتِ تَرْفَعينَ حاجِبَكِ الأَيْمَنَ إِلى الْأَعْلَى: “وَاشْ مَغَتْزيدْشْ؟”[1] وَأَنا ذَاهِلٌ ما أَزَال؛ ألْتَفِتُ خَلْفي كَيْ أَتَأَكَّدَ أَنَّ الكَلامَ مُوَجَّهٌ لي. أَلْتَفِتُ يَميناً وَيَساراً فَلا أَجِدُ أَحَداً غَيْري؛ كُلُّهُم هَرَبوا. أَقولُ لَكِ: عَفاكْ، قُولِي لِي، أأَنْتِ أَنْتِ؟ تَنْكَسِرُ ابْتِسامَتُكِ قَليلاً. تَقولينَ:  لو كُنْتْ أنا هِيَ أنا لمْ أكنْ لآتيَ عِنْدَكْ؛ أَفقْ، أنا هِي الأخْرى.

(2)

ثُمَّ تَضْحَكينَ ضَحْكَةً فيها مِنَ الغُنْجِ ما يُطَيِّرُ عُقولَ أَكْثَرَ النُّسَّاكِ تَقَرُّباً إِلى الله وَتُرَكّزِينَ نَظْرَتَكِ في عَيْنَيَّ وَتَرْقُصينَ رَقْصَةً سَريعَةً عَلَى إيقاعٍ هُوَ مَزيجٌ مِنْ إِحْدى أَغاني كْريسْ ذو بُورْغْ (Chris the Burgh) وَكَلِماتٌ مُقْتَطَفَةٌ مِنْ أُغْنِيَّةِ آمورْ مِيُّو لِدْجيبْسي كينْغ(Amor mio, Gypsy Kings). مَذْهولاً أُجاهِدُ كَيْ أُلَمْلِمَ كَلِماتٍ أُحاوِلُ رَتْقَها لِأَسْألَك؛ لَكِنَّ الكَلِمات تَذوبُ في حَلْقي هَذه المَرّةَ، تَماماً مِثْل ما ذابَتْ قِطْعَةُ الشُّكُولاطَةِ السَّوْداءَ المُصاحِبَةٌ لِقَهْوَةٍ شَرِبْتُها عَلَى عَجَلٍ في مَقْهى دُو فْلور وَأَنا أُحاوِلُ لِلمَرّةِ الْأَلفِ كِتابَةَ قَصيدَة أَعْرِفُ مُسْبَقاً أَنَّني لَنْ أَتَمَكَّنَ أَبَداً مِنْ إِلْقائِها في حَضْرَتِكِ البَهِيَّةَ؛ لَكِ دُونَ العالَمينَ. أَكْتُبُها وأنا أتَلَفّتُ باحِثاً عَنْ طَيْفٍ يُشْبِهُكِ.. وَعِنْدَما لَا تُسْعِفُني الكَلِماتُ أَلْتَقِطُ الرِّوايَةَ مِنْ عَلى أَرْضِيَّةِ غُرْفَةِ نَوْمي ثُمَّ أَحْشُرُ رَأْسِيَ بَيْنَ دَفَّتَيْ الكِتابِ وَأبْدأُ بِلَحْسِ الكَلِماتِ بَيْنَما أَنْتِ مُنْخَطِفَةً تَدورينَ عَلَى نَفْسِكِ دَوَراتٍ سَريعَةً مِثْلَ رَاقِصَةِ باليه وتَنُّورَتُك السَّوْداءُ تَرْتَفِعُ تَدريجِيّاً عَنْ خِصْركِ النّحيلِ كاشِفَةً جَمالاً أَعْرِفُ الآنَ – واحَسْرتاه- أَنَّه لَمْ يَكُنْ لي؛ كُلّما أَسْرَعْتِ دَمَعَتْ عُيوني وَشَعّت ابْتِسامَتُك المِغْناجُ. أَوّاهٍ يا سعدُ ما هذا الشَّهْدُ الّذي مِنْ فَرْطِ حَلاَوةِ رُؤيَتِه يَهُدُّ؟ وَما هَذا السَّعْدُ –وَلَوْ مُتَأَخِّراً بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرينَ طَلْقَةً حَضَرَ؟ رَشيقَةً خَفيفَةً مِثْلَ ريشَةٍ تَرْقُصينَ وَتَسْتَرِقينَ نَظَراتٍ سَريعَةً إِلى عُنْوانِ الرِّوايَةِ الّتي أَدْفِنُ فيها رَأْسي تارَةً، وَإِلى عَيْنَيَّ تارَةً أُخْرى.. يَخْتَلِطُ صَوْتُكِ العَذْبُ بِصَوْتَيْ كْريسْ وَدْجيبْسي، لَكِنَّنِي أَسْتَطيعُ تَمْييزَهُ بِبَراعَةِ الْعُشَّاق. تَقولينَ مُشَقْشِقَةً بِقَشْتاليّتٍك العَذبَة وَأَنْتِ تَدورينَ حَوْلَ نَفْسِكِ وَعَيْناكِ مُغْمَضَتانِ: اسْمَعْ، انْتَظِرْني حَيْثُ تَعْرِفُ أَنَّني لَنْ أَكُونَ، فَلَرُبَّما اسْتَطَعْتَ أَنْ تَظْفَرَ بالْقَلِيلِ مِنْ عِطْرِ غِيابي؛ تَتَبَّعْ مَسارِيَ فَأَنا  كَالتّاريخِ أَتْرُكُ عَلاماتٍ عَلَى طَريقِ غُرْبَتي كَيْ يَتَسَنَّى لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُفاجِئَ لَوْنَ عَيْنَيَّ في إِحْدى زَوايا العالَمِ.

(3)

وَلَكِنَّ كَلامَكِ لَمْ يَصِلْ مَسامِعي في شَكْلِ خَيْطٍ واحِدٍ مُتَّصِلٍ. كانَتْ تِلْكَ الجُمْلَةُ في الواقِعِ مَقْطوعَةَ الأَوْصالِ وَمُتَعَدِّدَةَ الأَلْسُنِ مِثْلَ الشُّعوبِ العَرَبِيَّةِ. وَفي الوَقْتِ الّذي تَوَقَّفْتِ فيه عَنِ الرَّقْصِ، حَضَرَتْني صُورَةُ وَجْهي في المِرآةِ وَمَعَها حَضَرَ صَوْتُكِ الحَقيقِيُّ الذي كُنْتُ أُزَيّنُ بِألْحانِهِ العَذْبَةَ مَسامِعي في أَصْباحِ أَيَّام الخَميس حينَ كُنْتُ أَحْلِقُ ذَقْني وَأَلْبَسُ أَحْلى ثِيابي (مِثل مَحمود دَرْويش حينَ كانَ يَهُمُّ بِبَدْءِ كِتابَةِ قَصيدَة جَديدَةٍ) وَأَضَعُ عِطْراً قَبْلَ أنْ أَجْلِسَ قُرْبَ الهاتِفِ، كَما لَوْ كُنْتُ سَألْقاكِ وَجْهاً لِوَجْهٍ؛ قُلْتُ لَكِ وَأنا أَتَطَلَّعُ إلى شَفَتَيْكِ خِلْسَةً: أَتَدْرينَ يا سَيِّدةَ الغيابِ، في تِلْكَ الأَصْباحِ كُنْتُ أَتَمَنَّى سِرّاً أَنْ يَكُونَ الطّبُّ قَدْ طَوَّرَ طَريقَةً لِتَحْويلِ الأصْواتِ إِلى سَائِلٍ. كنتُ حينها سأقَطّرُ صوتك في حُقّ دَواءٍ وَأحْفَظُهُ لاسْتِعْمالٍ لاحِقٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ آخُذُ جُرْعَةً قَبْلَ مَواعيدِ الأَكْلِ الثَّلاثَةِ كَيْ يَتَسَنَّى لي مُواجَهَة العالَمِ في غِيابِكِ. حينَها غَيَّرَ الذُّهولُ مَوْقِعَهُ وَأَصْبَحْتِ تَنْظُرينَ إِلَيَّ بِطَريقَةٍ جَديدةٍ وَأنْتِ تَمْسَحينَ حَبّات عَرقٍ مُتلأْلئةً علَى جَبينِكِ بِمِنْديلٍ لا لَوْنَ لَهُ؛ كَما لَوْ كُنْتِ تَكْتَشِفينَني لأَوَّلِ مَرّةٍ. حْسَسْتُ بخَيْطٍ مِنَ الثّقَةِ يَرْتِقُ مُزَقَ ذاتي؛ أَضْحَيتُ قَوِيّاً بِنَظْرَةِ الذُّهولِ في عَيْنَيْكِ. أَرْدَفْتُ  قائِلاً قَبْلَ أَنْ تُشْفَيْ مِنْ ذُهولِكِ: أَوْ لَرُبّما طَوَّرَتْ شَرِكاتُ العِطْرِ الباريسيَّةُ تِقْنِيةً لِتَحْويلِ كَلامِ المُحِبِّينَ إِلى عِطْرٍ؛ عِنْدَها سَأُصْبِحُ أَكْبَرَ رابِحٍ مِنْ ذلكَ الاخْتِراعِ. سَأُفْرِغُ حينَها صَوْتَكِ في قَارورَةِ عِطْرٍ وَأَكْتُبُ عَلى وَرَقَةٍ أُلْصِقُها عَلَيْها: عَهْدُ الغِيابِ. وَفي كُلِّ صَباحٍ، حينَ تُداهِمُني ذِكْراكِ مَعَ بُزوغِ أُولى خُيُوطِ الضَّوْءِ، أَرُشُّ خَشَبَةَ الجَسَدِ بِنُثارِ صَوْتِكِ كَيْ يَشُمَّ العالَمُ أَريجَ غِيابِكِ فِيَّ.

 (4)

حَدّجْتِني بِنَظْرَةٍ رازِيَةٍ؛ بَدَوْتِ بارِدَةً وَنائِيَّةً، كَأَنَّكِ كُنْتِ تَتَوَثَّبينَ مُفاوِضَةً نَفْسَكِ خائِضَةً مَعَها في لُجَّةِ عِراكٍ خَفِيٍّ؛ أَوْ كَأَنَّكِ كُنْتِ تُرَتّبينَ تَصاويرَ غَرَبْنَ في حُقّ القَلْبِ، تَصاويرَ غَرَبْنَ وَما غَبَرْنَ. قُلْتُ لَكِ مُدارِياً هَمَّكِ بِغَمِّي:  قُومي بِنا، أَيا حَبَّةَ القَلْبِ، نَبْحَثُ عَنْ مَكانٍ أَرْحَبَ وَأَفْضَى مِنْ هَذِهِ الغُرْفَةِ المُبْتَئِسَةِ. وَحَسَسْتُ أَنَّ كَلامي أَنْقَذَ قَلْبَكِ مِنَ التَّخَبُّطِ، فَلَوَيْتِ عَلَى مِعْصَمي بِذِيكَ اليَدِ المَعْروقَةِ الّتي أَنْبَتَتْ فيها رُعُونَتي المُتَصابِيَةُ ذاكَ المَساءَ البَعيدَ، ذِيكَ الحَبَّةَ الحِمِّصِيّةَ الشَّكْلِ تَحْتَ جِلْدِ                     ظاهِرِ الكَفِّ؛ كَأَنَّ القَدَرَ أَهْداني نِكايَةً بي فُرْصَةَ تَرْكِ أَثَرٍ على ظاهِرِ يَدِكِ، لِعِلْمِهِ بِغُروبِ شَمْسِكِ لَاحِقاً عَنِّي. تَلَمَّسْتُ ظاهِرَ يَدَكِ بِإِبْهامي بَحْثاً عَنْ ذَلِكَ الطَّفْحِ العَصَبِيِّ (الحَبَّة)، فَلَمْ أَجِدْ شَيئاً. قُلْتِ بَعْدَ أَنْ فَهِمْتِ ما كُنْتُ أُريدُ فِعْلَهُ: لَيْسَ في تِلْكَ اليَدِ كانَ؛ ثُمَّ إنَّهُ عادَ إِلى مَكانِهِ. أَيْنَ هِيَ تِلْكَ العُروقُ الخَضْراءُ الآنَ كَيْما أُوَقِّعَ عَلَيْها لَثْماً وَضَمًّا؟ لَوَيْتِ عَلَى مِعْصَمي وَخَرَجْتِ مِنَ الغُرْفَةِ بَعْدَ أَنِ الْتَقَطْتِ الرِّوايَةَ بِخِفَّةٍ بِاليَدِ الأُخْرى، غَيْرَ أَنَّكِ بِالبابِ وَقَفْتِ لِتُصيخي السَّمْعَ وَأَنْتِ تَقُولينَ: خَليدْ (هَكَذا بِتَمْديدِ اللاَّمِ نَطَقْتِهَا)، “شي حَدّ مُورْ الباب.”[2]

(5)

فاجَأَني صَوْتُكِ، فَقَدْ كانَتْ أُذُني اليُسْرى تَرْتاحُ أَسْفَلَ آخِرِ خِرْصٍ مِنْ سِلْسِلَةِ ظَهْرِكِ؛ كَأَنَّني كُنْتُ خائِفاً أَوْ كَأَنَّكِ كُنْتِ تَحْمينَني مِنْ خَطَرٍ أَنْتِ وَحْدَكِ تُدْرِكينَهُ. قُلْتِ: هَضْرَة دْيالْ العْيالاتْ هاذي، وَاشْ كَتْجي عَنْدَكْ شي وَحْدَة[3]. أَجَبْتُ: وَحْدَكِ امْرَأَةُ حَياتي؛ أَمَّا الأُخْرَيات، فَإِنَّني قَبِلْتُ دُخولَهُنَّ إِلى بَيْتي بِأَنَفَةِ الشَّبْعانِ كَيْما أَكْنِسَ مِنَ  حَديقَةِ القَلْبِ بِحُضُورِهِنَّ في جَسَدي ذِكْراكِ ؛ لَكِنْ هَيْهَاتَ، هَيْهات. وَعَلا اللَّغْطُ وَراءَ البَابِ وَلَمْ تَدْرِ ما تَفْعَلين.  وَلَمَّا أَنْ اعْتاصَ عَلَيْكِ الأَمْرُ وَاسْتَشْكَلَ،  سَجَنْتِ الرِّوايَةَ بَيْنَ فَكّيْكِ وَجَرْجَرْتِنِي إِلى سُؤَالٍ قَديمٍ وَأَنْتِ تَسْحَبينَ أَريكَةً كَبيرَةً وَتَضَعينَها خَلْفَ البابِ؛ تَرَكْتِ الرِّوايَةَ تَسْقُطُ مِنْ بَيْنِ فَكّيْكِ وَقُلْتِ بِلَهْجَةٍ عاتِبَةٍ: أَجي بَعْدا، نْتَ ما عَمّْرَكْ قُلْتيلي “كَنْبْغيكْ”، كِيفْ بْغيتيني نَعْرَفْ أنا؟ وْزايْدونْ كينْديرْ نْتْأَكّدْ أَنَّكْ كَتْبْغيني بالصَّحْ؟ إِيلا ما عَمّْرْكْ قُلْتيلي”كَنْبْغيكْ”، رَاهْ مَعَمّْرَكْ بْغيتيني.[4] فَقُلْتُ لَكِ: لي أَجْوِبَةٌ عَديدَةٌ لَيْسَ لي إِلّا أَنْ أَتَخَيّرَ أَحْسَنَها، مِنْها عَلَى سَبيلِ التَّمْثيلِ ما قَالَهُ النّفَّري، ذَاكَ الفَهْلَوِيُّ النَّاجِزُ لُغَةً وَالمُلْتَهِبُ مَحَبَّةً: كُلَّما اتَّسَعَتِ الرُّؤيا ضَاقَتِ العِبارَةُ؛ اعْلَمي يا سَيّدَةَ الغيابِ أَنَّ ما يَكْتَنِفُ جَوانِحي أَكْبَر مِنْ أَنْ تَقُولَهُ جِماعُ اللُّغاتِ بِأَسْرِها، فَما بَالكِ بِأَحْرُفٍ أَرْبَعَةٍ (بِاحْتِسابِ الحَرْفِ المُضَعَّفِ في اللّغَةِ العَرَبِيَّةِ) لا مَعْنى لَها في مِلَّتي وَاعْتِقادي؛ أَحْرُفٌ أَرْبَعَةٌ تُضْحِكُني مِنْ فَرْطِ تَكْريرِها حَتَّى أَضْحَتْ كَلاماً مَبْهوتَ  اللّونِ وَحِماراً قَصيرَ الظَّهْرِ تَرْكَبُهُ حَفْنَةٌ مِنَ المُتَشاعِرينَ؟ ثُمَّ أَرْدَفْتُ: إنْ أرَدتِ جوابا آخر فاسألي… لَكِنّكِ وَضَعْتِ أَنَامِلَكِ عَلَى شَفَتَيَّ مَانِعَةً تَدَفُّقَ الكَلامِ. قُلْتِ: خَليدْ، يَا اللهْ. أَنا مْتْأَكْدَة أَنَّ الله سيساعدنا.

 (6)

في اللَّحْظَةِ التَّاليةِ أَضْحَيْنا في شارِعٍ طَويلٍ لا نَأْمَةَ فيه وَلا هَمْسَة. يَدُكِ ما تَزالُ تَحْكِمُ قَبْضَتَها عَلى مِعْصَمي كَأَنَّكِ تُجَرْجِرينَني، كَأَنَّني أَتَلَكَّأُ؛ أَلْمَحُ قَفاكِ وأُزَحْلِقُ نَظَري إلى الرّوايَة في يَدِكِ اليُمنى. تَحْذوني رَغْبَةٌ مَجْنُونةٌ أَنْ أُمْسخَ؛ أَنْ أُصْبِحَ قِلاَدَة تَضَعينها حَوْلَ عُنُقك كَيْ أُعْدمَ المَسافات؛ أَن أُصْبِحَ كتاباً تَحْمِلينَهُ في حَقيبَتِكِ أَيْنَما حَلَلْتِ. في قَلْبِ حُلُمي يَعْبرني سُؤالٌ مُحَيّر: هَلْ أَنا أَحْلُمُ؟ يَذُوبُ السُّؤالُ وَسَط صَمْت الشّارع الرَّهيبِ. تَقولينَ كأَنّك تَتَحَدّثينَ إلى شَخْصٍ آخر: لاَ أَحَدَ يَحْيا هُنا. أَسْأَلُكِ: هل قَرَأتِ بيدرو بارامو؟ لا تُجيبين. أُحِسُّ أَنّكِ بَعيدَةٌ جِدّاً وَلَكِنَّني في نَفْسِ الوَقْتِ وَالآن أُحِسُّ بِخَدَرٍ لَذيذٍ يَسْري في قَلْبي وَأَتَساءَلُ عَنْ مَصْدَرِهِ مَعَ أَنَّني مُتَأَكّدٌ مِنْ ذَلك: الدّفْءُ المُنْبَعِثُ مِنْ باطِنِ كَفّكِ يُخالِطُ جِلْدي، يَتَسَرَّبُ إلى مَسامي وَمِنْ هُناكَ يَعْرُج إِلى قَلْبي؛ وَلَكِنَّني لا أُصَدّقُ إِحْساسي تَماماَ. أَهَذِهِ الأَيّامُ الخَوالي تَعُودُ إِليّ، أَنا الغارِقُ في وَحْدَتي؟  هَلْ أَنا أنا؟ هَلْ أنتِ أنتِ؟ أَسْئِلَةٌ كَثيرَةٌ تَنْحَبِسُ في حَلْقي لا أَسْتَطيعُ النُّطْقَ بِها مَعَ أَنَّني أَرَى في عَيْنَيْكِ، حينَ تَسْتَديرينَ نَحْوي وَأَنْتِ تَغُدّينَ السَّيْرَ أَمامي، عَلامات فَهْمِكِ لِكُلّ ما يَدورُ في رَأْسي. ابْتِسامَتُكِ البارِدَةُ وَتِلْكَ اللَّمْعَةُ اللَّمَّاحَةُ المَشوبَة بشيءٍ يُشْبِهُ الحُزْنَ في عَيْنَيْكِ، تَقولُ لي إِنَّكِ قَرَأْتِ كُلَّ الأَسْئِلَةِ في عَلاماتِ الصَّمْتِ على وَجْهي. تَتَوَقّفينَ فَجْأةً. أَنْتَظِرُ أَنْ تَقُولي شَيْئاً، لَكِنّك تَظَلّينَ صامِتَةً؛ وَحْدَها تِلْكَ الابْتِسامَةُ البارِدَةُ تَخْتَرِقُ جَسَدي  فَيَنْشِفُ ريقي وَتَتَنَمّلُ روحي وَأنا أَسْتَقْبلُ ذَلكَ اللّمَعانَ في عَيْنَيْك. آهٍ يا أَنْتِ، قَلْبي بَيْتُ خَشَبيٌّ شَبَّتِ النّارُ في أَساساتِهِ مُذْ رَحَلْتِ لَوْ تَعْلَمينَ ! أَنْظُرُ إليكِ صامتاً وَأَنتِ تَنْظُرين حَتّى هَرِمَ الصّمتُ بَيْنَنا. قُلْتِ أَخيراً: أَنتَ غَنِيُّ اللُّغَةِ، فَقيرُ الكَلام..عْلاشْ مَهْضَرْتيشْ، عْلاشْ؟… دابا ماشي مشكل، غَنّمشيوْ لعَنْدي.[5] 

……………

[1]  ألن تتحرك؟

 هناك شخص ما وراء الباب.[2]

 إنها أصوات نسوة تتحدثن؛ هل تزورك إحداهن؟[3]

 لم يسبق لك أن عبرت لي عن حبك؛ فكيف لي أن أعرف ذلك؟ وعلى العموم، لا توجد طريقة تؤكد لي أنك تحبتي فعلا. أنت لم تحبني قط.[4]

 لماذا لم تقل لي من قبل، لماذا؟  لا مشكل هناك الآن؛ سنذهب إلى بيتي.[5]

مقالات من نفس القسم