في البدء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 3
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

الانتقال من درجة إلى درجة، مؤلم وضاغط. كاد جسده يتمدد لأقصاه، حتى يصل بين الدرجتين، فيستطيع الارتقاء درجة. يمد ذراعه الأيمن، ثم الأيسر، وهو يقذف بطنه وصدره للأمام، متجاوزاً درجة من درجات السلم الرخامي البارد. لم يبد أن برودته تزعجه، إنها تُسرّي عنه، وسط هذا الغبار الثقيل والحرارة الحادة. حاول زيادة سرعة تسلقه الدرجات بجسده الطري، لكن السلالم بدت بلا نهاية، كلما اجتاز درجة برزت واحدة فوقها. بعد فترة من الألم والصراع المزعج وصل “البسطة” الأولى أمام شقة “كريم”. تمطع ببطنه ونظر لأعلى، حيث امتداد الباب الخشبي. دق دقتين بكفه، مستند بنصف جسده على الباب، وبالنصف الآخر على العتبة، لكن أحداً لم يجبه. كان والدا “كريم” _كما اعتاد الجميع على سماعهما_ يتعاركان، في سباق للأكثر صخباً والأعلى صوتاً. كانت أمه تتميز عن أبيه، بحركات ذراعيها وامتلاء وجهها المميز بحدود شفتيها، كأنهما يتمددان لحظة السباق. كرر الدق والنقر والنداء، ولمّا يئس من الاستجابة، التفت بجسده لليسار، أكمل رحلته نحو الطابق الأعلى، متجاوزاً كل درجة أو سلمة، وهو يتنهد، ويمسح بَلَلاً أحاط شفته السفلى، لا يسمع صوت والد “بولا” أبداً، فصوته نحيف دقيق كجسده، يتكلم بهمهات لا تُفهم.
 لم يملك “بولا” أماً مثل الباقين؛ فكان يجوع كثيراً. استمر صعوده. يضغط كفيه موسعاً بين أصابعه، مُحملاً أصابع قدميه المفرودة ثقل جسده كله، كانت عيناه تدوران، في المساحة المحيطة به، تحاول أن تجد شيئاً جديداً أو مميزاً في هذا التشابه والملل. سُلم ثم سُلم ثم “بسطة” وباب خشبي. ماذا بعد ذلك؟ هل تستمر هذه الرؤى المتشابهة إلى الأبد؟ سيستمر في صعوده؛ ليعرف ماذا بعد آخر باب خشبي وآخر “بسطة”.

 “كريم” و”بولا”، سيكونان عوناً عظيماً لو استطاع اقناعهما، بمشاركته الرحلة. سيصعدون أسرع إن تكاتفوا، حينها سيصلون للطابق الأخير، ثم يتجاوزونه سابحين نحو المتعة اللانهائية. سيتأكدون ساعتها أن حكايات آبائهم وأمهاتهم ، خيالات أو تهديدات، لمنعهم عن جنة الجنان وشاطيء المتعة الدائم. كان صوت “كريم” الرفيع المتقطع، يجاهد صاعداً السلم، كي يصل لأذنه ضعيفاً باهتاً، كان يناديه، فهو يعلم أنها طَرقاته– التي يحفظها- على بابهم.

ـ تعال.. حصّلني.

هدأت أنفاسه قليلا وهو متربع بساقيه، في انتظار “كريم”، الذي سيصحب “بولا”، في طريقهما للأعلى. هنا مقره السري، الذي أسسه وحده، فوق آخر “بسطة” من بسطات السلم اللانهائي. المقّر يتكون من شاحنة بلاستيكية حمراء، بحجم المولود الجديد في الشقة الأخيرة، ومسدسين أحدهما أسود محبب يطلق خرزاً– قد تعطل من يوم شرائه-، والثاني شفاف يطلق الماء، لمسافة لا تتعدى ذراع الرامي. كذلك الكثير من أوراق “الأجندات” و”النتائج الورقية”، التي سيستخدمونها كعملة صالحة للبيع والشراء والمكافآت فيما بينهم. أحاط مستقره ومركز تحركه وخططه، بثلاث كراتين فارغة قد قطعهم، وفرد ثنياتهم، ليشكلوا سوراً حارساً لكنزه السري.
 اليوم ليس أول محاولة له، للوصول لأعلى، لكنه اليوم الأول لـ “بولا” و”كريم”. وصل رفيقا الرحلة يلهثان ويتعرقان، وبينما كان كفاّ” بولا” أحمرين تماماً من باطنيهما، لاستمرار ضغطهما بالسلالم والرخام، كان كفّا “كريم” مائلين للزرقة، وكأن دماءّ لا تجري في عروقهما. رحّب بهما محركاً غلافاً لكراسة أخه الأكبر- قد ضمه لمعداته – فوق وجهيهما، ليتأرجح الهواء حولهما، كبطلين اجتازا العقبة الأولى من المعركة، دون خسائر. كل ما عليهم، دفع الباب في نفس الوقت الذي يحركون فيه المقبض. وجودهم كفريق ثلاثي يسّر العقبات، التي كان سيواجهها وحده، بل ألغى وجودها.

 صعد فوق ظهر “كريم” المستند على ركبتيه وكفيه، أدار المقبض نصف دورة بيديه الإثنتين وبقوته كاملة، في نفس اللحظة التي كان فيها “بولا” يدفع الباب. بعد لحظة واحدة من تأرجحهما سقطا هما الاثنين فوقه.

” بولا” لم يصرخ، لم يتأوه ولم ينطق، كذلك فعل هو، بينما وجدا أنفسهما تلقائياً يضعان أيديهما فوق فم “كريم” الذي يصدر صراخاً متواصلاً حاداً، ربما يؤخر إكمال رحلتهم كثيراً. كان ينتفض ويحرك رجليه ويديه في كل الاتجاهات، وهما يضغطان شفتيه وأسنانه أكثر، يعتليان بطنه، ويكتمان أنفاسه التي ستفضح تحركهما، وربما تؤجل بداية رحلتهما كثيراً، وتكلفهما وقتاً لا يطيقان تحمل تكلفته، فتكرار المغامرة مجهد، وغير آمن أن يكشفه واحد من الكبار، كان يموء ويصّفر كفأر اصطدته وأحرقته حياً في المصيدة. كانا يضغطان ويبتسمان، ويشعران بمتعة تفوق ألعابهما على “التابلت” و”الموبايل”. خرجت الكلمة من فم “بولا”، هذا صوته الذي يحفظانه، بل ويتقن أحدهما تقليده، “مات”؟ كتما أنفاس “كريم” تماماً، أُطلقت روحه في الواسع الرحب، وكلما انطلقت روحه وتمددت، كلما انكمشا، واعتصرت أجسادهما أرواحهما، تُضيق عليها المساحة والفراغ، كان خوفهما من تأخر الرحلة، أو على الأصح اشتياقهما لبدء الرحلة ولامتصاص سعادة أبدية، كان هذا ما ضغط أرواحهما، فضغطت أجسادهما، فضغطا “كريم” و كتماه كتماً. كانت أفكارهما تتدفق، في تسارع يفوق استيعابهما، قلباهما ينبضان كساعة اضطربت عقاربها، أيبدأان رحلتهما المأمولة، بجريمة تفوق أي جريمة، أهكذا تكون البداية؟ فكيف الطريق؟.

أدار ظهره عابراً جسد “كريم”، يخطو فوق مقرهما الطفولي الحالم، ويهبط بسرعة لم يجربها قبلاً، فكان يتخبط برأسه وجسده-طوال طريقه الذي بدا له بلا نهاية – في السلالم والدرابزين والرخام، كان يهبط، ويسبح للأسفل، متجهاً نحو باب شقتهم الموارب، في أمل وعزم متوهجين أمام عينيه، لم يلتفت للصوت الذي يسأله عن “كريم”، ولا للصوات الصاعد من الشارع، لم يُعر أدنى اهتمام للصوت الذي كان صراخه يتصاعد فوق البسطة الأخيرة، لم ينظر إلى أحد ولم يسمع أحداً.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون