فى محبة نبيل عبدالفتاح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبد الموجود

على غير عادته سألنى الأستاذ جمال الغيطانى ذات مرة: «ناوى تاخد رأى مين فى التحقيق؟»، وعددت الأسماء عليه، فقال لى: «سيبك، أهم واحد ممكن تستعين بيه هو نبيل عبدالفتاح، ده واحد من أهم الباحثين فى مصر، عارفه؟!». واتصلت بـ«سويتش» مؤسسة «الأهرام» وأوصلونى برقم مكتبه، ورد علىَّ الأستاذ نبيل، وعرفته بنفسى، وكان صوته مرحّباً للغاية. كانت فترة تكوين العلاقات، وفهم الخريطة الثقافية فى القاهرة، وكان نبيل عبدالفتاح، مع حفظ الألقاب، واحداً من أهم المصادر التى تعاملت معها فى بداياتى، إذ وجدته مثقفاً موسوعياً، وهو من القلائل الذين لضموا السياسة بمعناها العام، بمجال تخصصه فى الإسلام السياسى، بالثقافة فى خيط واحد، ولذلك أعتبره واحداً من المجددين المعاصرين الذين أضافوا الكثير إلى الثقافة الوطنية، وأسهموا فى تعريفنا مبكراً جداً بالحالة الدينية فى مصر بتشعباتها ودهاليزها وتشابكاتها ورسم صورة للمنغمسين فيها، من خلال مقالاته المهمة وبحوثه التى كانت بذور كتب شديدة الأهمية كـ«المصحف والسيف» و«سياسات الأديان» و«النص والرصاص».

أتذكر جيداً أنه طلب منى أن أذهب إليه فى مكتبه بالأهرام، وسألته: «إمتى؟» وأجابنى: «حالاً لو تحب، مش هينفع التليفون عشان الموضوع مهم وعايز اتكلم فيه براحتى»، وبسرعة قطعت المسافة الصغيرة بين «أخبار اليوم» و«الأهرام»، وأخبرونى أنه فى الدور التاسع (لا أتذكر جيداً) وطرقت باب مكتبه، وسمعته يهتف: «اتفضل»، وحينما دخلت لم ألمحه مباشرة فقد كان محتجباً خلف أعمدة من الكتب مصفوفة بدون انتظام على مكتبه كعمارات قصيرة آيلة للسقوط فى أية لحظة، وحينما نهض، شعرت أنه كائن أسطورى بتلك الضخامة المفرطة وتلك السمرة المحببة. كانت ابتسامته طيبة للغاية ومرحبة كما أن بساطته أشعرتنى أننا أصدقاء رغم فارق السن والمكانة ورغم أننى ألتقيه للمرة الأولى، لكن الجزء المؤلم من القصة أنه منحنى حزمة أوراق وعدداً من الأقلام، وحاولت إثناءه عن الأمر إذ أننى أحمل ثلاث أوراق كاملة، لكنه أصر، وفهمت سبب إصراره، وكرمه الزائد معى، فهذه الأوراق، وهذه الأحبار، سأكون فى أمسّ الاحتياج إليها بعد قليل، استمر فى التدفق أكثر من ساعة، وكنت أفكر متألماً أين سأنشر هذا الكلام، لقد أخبرته أننى أحتاج إلى رأيه فى تحقيق، لا أن يملى علىَّ كتاباً، وقد خرجت من مكتبه مترنحاً، وكنت أحمل رزمة من الأوراق ممتلئة بالكلام المهم، وجملته ترن فى أذنى بينما أحاول الخطو بصعوبة إلى الأسانسير الضخم الخالى: «خد منها اللى انت عايزه، كان لازم اقول رأى مكتمل فى الموضوع لأنه مهم».

وقد فهمت معنى القصة السابقة بعد ذلك، نبيل عبدالفتاح هو ذلك الباحث الجاد، الذى يمنح كل شىء حقه، بدأب بالغ، وبحماس شاب صغير، وبنوع من التركيز، لم يجعله أبداً يكتب على سطر ويترك سطراً. يبدو نبيل عبدالفتاح كالمغنين والمشايخ العظام الذين لا يخرجون عن المقام إلا بفهم ومعلمة. 
بعدها بشهور دعتنى مؤسسة «فوزى إسطفانوس» إلى مؤتمر بالعين السخنة، وإسطفانوس بالمناسبة طبيب تخدير عالمى، كان يعمل فى مستشفى كليفلاند وأشرف على تخدير الأستاذ جمال الغيطانى أثناء إجرائه عملية للقلب المفتوح، وعاد من أمريكا ليؤسس جمعية هدفها الحفاظ على التراث القبطى، وفوجئت فى الأتوبيس بكثير من رجال الدين الإسلامى والمسيحى وعدد من المثقفين اليساريين والليبراليين وأهم الكتاب الصحفيين، وكان من بينهم نبيل عبدالفتاح، وحاول الكاتب الصحفى أحمد إسماعيل الذى كان يعمل فى الأهالى، عليه رحمة الله، أن يضايقنى حينما عرف أننى من «أخبار الأدب»، فقد كان لديه مشاكل تخصه تجاهها، قبل التحاقى بها، وتدخل نبيل عبدالفتاح فى الوقت المناسب، واحتوى الأمر.

فى قرية «بالميرا» شاهدنا أعجب شىء يمكن لأحد أن يشاهده، ترك الشيوخ والقساوسة حقائبهم فى المدخل وهرولوا فى لحظة واحدة باتجاه حمام السباحة الضخم وقفزوا فيه بقفاطينهم وعمائمهم وعباءاتهم السوداء وصلبانهم، ووجدت نبيل عبدالفتاح ينهار على ركبتيه كأنه أصيب برصاصة فى صدره، قبل أن أستمع إلى ضحكته تهز البلوكات الصغيرة البرتقالية المبنية على طراز المعمارى حسن فتحى، وانتقلت إلىَّ عدوى الضحك، وظللنا كلما تقابلنا نتذكر هذا الموقف ونضحك، ثم إن كل شىء كان طريفاً فى هذه الرحلة، وعلى سبيل المثال كان معنا الدكتور مراد وهبة، واكتشفنا أن هناك محررة تخاف منه بشكل طفولى، دون أن تخبر أحداً، بسبب غابة الشعر التى تبدو أنها تغادر جسده من الداخل عبر فتحتى أنفه وأذنيه وحاجبيه. كنا نجلس أمام البحر، حينما فوجئنا بها تهرول باتجاهنا فزعة، وجرينا نحوها، وأظن أن الدكتورة دلال البزرى هى من أخبرتنا بما قالته لها تلك الفتاة. لقد غفت فى غرفتها قليلاً، وحلمت بمراد وهبة يفتح عليها الباب، ويحملق فيها من بعيد، وبعد أن اطمأنت أن عفريت وهبة لا يغادر غرفته إلا لحضور الندوات عادت مرة أخرى لتنام بعمق.

كنت أجلس ونبيل عبدالفتاح بالقرب من البحر، وكان لا يكف عن الضحك، وتشعر بعد قليل من الجلوس معه بأن فيه “شىء لله” يجعلك تحبه فوراً، هو شخص لا يكف عن الضحك، قلبه أخضر، وروحه بيضاء، وسخريته كاشفة، وحكاياته طريفة، ويحول فيها الناس إلى كاريكاتير، لا بهدف الإيذاء وإنما لرغبته فى الضحك، وكان يقول لى أنا الذى أخاف من البحر: «هسيبك شوية أنزل البحر»، وكنت أراه طافياً على بعد مائة ياردة على سطح البحر الأحمر مثل جذع شجرة بلوط بدون حراك وكنت أندهش جداً من قدرته على ذلك التوازن العجيب، وفكرت كثيراً أن نبيل عبدالفتاح المسالم والطيب والعظيم لديه قدرة خارقة، أو بالأدق، معجزة خاصة هى النوم على الماء.

مقالات من نفس القسم