فصل من “رواية الصمت” لـ آية عبد الرحمن

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 7
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

آية عبد الرحمن

-1-

(النوم)

 في ربيع العام الماضي بدأت حياتي في الانهيار، تساقطت أجزاؤها كهرمٍ نُسفت أساساته، وانتثرت في كل صوبٍ محترقة الأطراف، توشك أن تستحيل أطلالًا تجعلني عبرةً للعالمين. بدأ كل شيء عندما مررت بانفصالٍ عصيب عن رجل أحببته بعمقٍ، ثم نمت مع من تصادف أنه  زوج صديقتي المقربة، ما جعلني منبوذة من سائر أصدقائي الآخرين. كانت أوقاتًا عظيمة البؤس بدأت – كما قلت – في الربيع، وانقضى عليّ صيفٌ طويل كالدهر، حاصرته المصائب من الاتجاهات الست، وساهم في عِظَمِ بؤسه درجة الحرارة التي ارتفعت عند المستوى “مشوي”، فشعرت أن الجحيم تتقصَّد مطاردتي. كنتُ مُلاحقة بالمشكلات والشجارات في كل مكان، وكانت حياتي تحترق، شقتي تحترق، حتى إذا خرجت إلى الشارع وجدت أممًا من اللاهثين يهيمون على وجوههم كالزومبي، كأن العالم استحال إلى طبق “سوتيه” بشري عملاق مسوَّى على العرق. بلغ عذابي أشده في أغسطس خرافيّ السوء، ثم لانت قبضته على روحي قليلًا في سبتمبر، بعده تسلل أكتوبر ناعمًا فلم أفطن له إلا في يومه الخامس مع نسمات المساء لطيفة البرودة، والسحب تحتشد مُتصدية للصهد الفاجر، فغمرتني دموع الامتنان.

جاء الخريف مبشرًا بلطفٍ طال افتقادي إياه، استمتعت به في عزلتي الإجبارية بشقتي الجديدة، ولكن لم تدم راحتي المسترقة طويلًا، ففي اليوم العاشر اتصلت بي أمنية تقول إن علينا أن نتحدث، ورغم ثقل ما بشرتني به لهجتها، فإنني وافقت. تأنقت بزهوٍ خفيّ وصارخ في آنٍ معًا، يبوح برسالة فجة: “مش ندمانة ع اللي عملته، ولو رجع الزمن هاكرره. آه! ومش محتاجة حد جنبي على فكرة”. قبل خروجي حملت جيتاري في حقيبته المبطنة؛ سيكون تذكرة هروب أنيقة إذا ساء اللقاء أكثر مما أتحمل، فما أدراني بأمنية ولسانها السليط في الظروف العادية! واليوم مهما بلغت لا مبالاتي سأحتاج إنقاذًا إذا ما تفاقم غضبها المستعر. لا بد أن غضبها مستعر.

التقينا في شارع جامعة الدول العربية، كانت الحياة تصول من حولي وتجول وأنا واقفة في فقاعةٍ قصيّة، أَسِدُّ أذنيَّ بسماعتين تضخان أغنياتٍ صاخبة، وأراقب البشر متأملة قدر الغباء الذي فُطروا عليه، حلوف ما يسيل لعابه على الرائحة والغادية، وأم ترد على صراخ رضيعها بصراخ أعلى تفرغ فيه -بالتأكيد- غضبها من مسؤولية تجرعها وحدها، وزوج يختال بأناقة مضحكة ويسبق زوجته المحتاسة زرية الهيئة مع طفليهما المشاغبين وقد بدا عليه ضيق ملك أحرجه خدمه، ومصور يوقف فتاةً متبخترة هستيرية في شعورها بالأنوثة أمام بوابة منزل عتيق، ويتقافز حولها بحركات احترافية، ثم يضرب الفلاش المدمج بالكاميرا في وجهها بجهل مضحك بقواعد التصوير. راقبت هذا السيرك وطرف فمي مشدود دون ابتسام حقيقي؛ عندما أشاهد فيلمًا دون صوت يبدو لي ما يفعله الممثلون محض حمق، انفعالاتهم مضحكة، غير مؤثرة، وهكذا يبدو البشر في الحقيقة إذا لم تسمعهم.. دون صوت تبدو الحياة بالونًا منفوخًا بمُزْر التفاهات.

تأخرت أمنية، كالعادة، خمسة عشر عامًا لم تصل في موعدها قط، لكنها اليوم كانت تتعمد تعذيبي بالانتظار. انقضت نصف ساعة وأنا مستغرقة في مراقبة أمواج البائسين، ثم انتبهت لألم ساقي التي أستند عليها فرميت ثقلي إلى الأخرى، أربعون دقيقة مرّت ولم تصل أمنية، خمسون، ساعة كاملة. لم أكن أنتظرها في العادة أكثر من عشر دقائق، لكنني اليوم كنت أسديها معروفًا سبق وانتزعتُ ثمنه.

قررتُ الذهاب واستدرت فوجدتها خلفي، جالسة على الرصيف تنظر إليّ بعينين مفعمتين بالتهكم والاستهزاء، قالت: “لايقة عليكي الوقفة دي”.

لم أشعر بغضبٍ، سألتها: “تفتكري؟!”

-“إنتي نمتي مع جوزي، مش كده؟”

قلبت شفتي السفلى ثم أطبقتها على العليا في تعبيرٍ خاوٍ كان طفوليًّا في الماضي، أمَّا اليوم فأتساءل كيف يبدو مع ما بدأ يتشكل حول فمي من تجاعيد. حدّقتْ أمنية تستوضح مشاعري، وساد صمت عميق، هادئ من جهتي، مستغرب من جهتها، ثم زمَّت شفتيها غضبًا إذ فهمت. قالت: “إنتي حتى مش ندمانة!”

-“أنا اعتذرت”.

-“وزي هو واضح، من غير ذرة أسف”.

مرة أخرى ابتسمتُ من دون ابتسام حقيقي، فتشوه وجهها بالاستياء، وهمّت بسبّي على ما يبدو، لكن سيارة ما توقفت جوار الرصيف، وهبط زجاجها ليسفر عن وجهٍ يبتسم بصفاقة يظنها مغرية، دعانا للركوب، كلانا، فتبادلت معها نظرةٍ تهكم، ونظرنا إليه ورفعنا إصبعنا الوسطى في وقتٍ واحد في أبلغ إجابة. ارتفع الزجاج وانطلقت السيارة لتهدئ سرعتها عند الناصية التالية، حيث تتسكع فتاتان سرعان ما ارتفع صوتيهما بشرشحة بولاقية فجَّة طاردت قائد السيارة وهو يلقي بنفسه في نهر الطريق مرعوبًا.. يا للبؤس! ضحكتُ، بينما قالت أمنية: “مش قلت لكِ؟ لايقة عليكي الوقفة!”

وسحبتني لتتأبط ذراعي بتلقائية، سرنا بالطريقة التي اعتدناها أكثر من نصف عمرنا، اشترينا لُبًّا وبيبسي، ومضينا في الطريق المزدحمة. كانت الأجواء بيننا هادئة جدًّا، كأنه يوم من أيام تسكعنا في وكالة البلح، واختيار كل منا الفساتين للأخرى لتثري ذوقها، أو لنتبادل خبرات الأناقة.. اليوم نعيش خبرة مختلفة، نلتقي لأول مرة بعد أشهر طويلة من كارثة بدأتها واحدة وأنهتها أخرى، ومع هذا فالهدوء بيننا يقول إن كل شيء على حاله، أننا نحن رغم كل طارئ.. ورغم كل تجعيدة جديدة. سألتني: “ليه إيهاب؟”

-“مش عارفة، ما خططناش للي حصل، ولا كررناه، بس كان ضروري نعمله”.

وتذكرت أنفاس إيهاب في تلك الليلة التي بدأ فيها كل شيء، التحامنا الشبق المشتعل، والعرق الذي غمرنا في برد فبراير.. كانت مضاجعته كصيفٍ منعش مغرٍ بالتعري، ورغم ما اعترانا من نفور -أم لعله الاستغراب؟- فور  بلوغنا النشوة، فإن حلقي لا يزال يجف كلما تذكرت كيف التهم أحدنا الآخر، وكيف توحدنا في صمتٍ عظيم أطفأ كل فكرة وكل شعور وكل جنون وكل فقدٍ وكل ألمٍ وكل تيه وكل رغبة، وغرقنا في مجون وحشي شره سحق كل ما كنا عليه، وكل نقص شكَّلنا، وحين تبدد صار كل منا شخصًا آخر.. منذ تلك الليلة صرتُ أنا شخصًا آخر، ومنذ علمت أمنية وهي شخص آخر.. هل كان هذا ضروريًّا لي ولإيهاب؟ أن نجعلها شخصًا آخر؟ نحررها كما تحررنا نحن؟ نحرقها كما احترقنا نحن؟

لكزتني أمنية بعنف؛ لا ريب أن وجهي عكس ما اعتبرته شهوةً نحو زوجها، حدقت إليها وابتسمت مجددًا، نفس الابتسامة الفارغة التي هي نصف شَدَّة للشفتين، ثم خبت ابتسامتي أمام خواء وجهها التام، ورقَّ صوتي دون تحكم مني إذ اسألها: “إنتي عاملة ايه؟”

-“عايشة”.

-“وإيهاب؟”

خرج السؤال بتلقائية، ثم أدركته فتوترت. سألتني أمنية: “يعني مش عارفة!”

قلت لها إني لا أعرف شيئًا، منذ حدث ما حدث لم أكلمه أو أتواصل معه، ولم يكلمني أحد أو يتواصل معي من شلتنا، فقط مروة اتصلت بي تشتمني وتعنفني بصراخ يشبه ولولة الديناصورات، وأغلقت الهاتف في وجهي وهي تنفجر في البكاء. كلنا يعرف كم عانت مروة من خيانة زوجها التي اضطرت لتحملها سنوات، ولم تعد تطيق سيرة النسوة اللاتي ينمن مع رجال متزوجين، فكيف لو اكتشفت أن واحدة من أعز صديقاتها مثلهن؟ هزني انفعال مروة حتى عظامي، جعلني أفيق لهول ما فعلت رغم أني استسلمت له عامدةً مشتهية، مشتهية له ولنتائجه ولما يعنيه، لكن حين رأيت انعكاسه في صوت صديقتي، حين أدركت حجمه الحقيقي، كان الأمر أشبه باختفاء الأرض من تحت قدمي، وانزلاقي لهوة أغرق فيها.

لم أشعر بالمثل نحو أمنية رغم أنها الأجدر بهذا، تاريخنا يجعلها الأجدر بهذا. لقد أخبرها إيهاب في الليلة التالية لفعلتنا، وعندما علمت جاءت لزيارتي.. اتصلت بي صباحًا تخبرني أنها على ناصية الشارع، تبتاع الفول والطعمية والباذنجان المخلل والبطاطس الشيبس الرديئة التي يصنعها المطعم المتواضع في منطقتنا، وتطلب مني تجهيز الشاي.. صباح معتاد عشناه ألف مرة، وربما هذه الاعتيادية هي ما جعلتني أجهز المشروبات بهدوء من يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وأفتح لها الباب بوجهٍ بشوش، أُدخلها، وأمنحها جلبابًا لي وجلبابًا يخصها تتركه عندي لتختار الأريح، وآتي بالصينية الكبيرة وأفرغ في الأطباق الطعام، وألسع الخبز البلدي بالنار ليطرى، وأعود لها لأخبرها أني قررت الانتقام من محب، حبيبي السابق الفاشل في المودة، الذي تجاهلت ما فعله بي لشهرٍ أو يزيد ثم استيقظت يومًا شاعرة بحجم المصيبة، بحجم اللسعة التي تلقيتها على قفاي، والخديعة والغدر اللذين تلقيتهما دونما استحقاق، في نفس اليوم الذي استيقظت فيه أمنية لتجدني قد أطعمتها خديعة أشد مرارة. في وسط الطعام أخبرتني أن إيهاب أخبرها، نظرت لها فوجدت تعبيرات وجهها أليفة معتادة فلم أعلم أي رد فعل آخذ، أو أي رد فعل أُمثِّله لأني لم أشعر بشيء محدد، واصلتُ الأكل مفكرة، وطال صمتي دون أن أستطيع التفكير في ردٍ فعلٍ، أو شعورٍ أمثله لأني في الحقيقة خاوية من كل شيء.. ومن يومها يخلو قلبي من كل المشاعر، مُسِختُ صَدفةً تتنقل على قدمين.

ازدردت آخر لقمة ثم أخبرتها أنه لم يكذب عليها، فهزت رأسها بإيماءة تقول “عارفة”.. كانت تحدق في طبق الفول كأنه سيهرب لو غفلت عنه، وبعد طويل صمتٍ سألتني “ليه؟”، فرددتُ “مش عارفة!”، وبعد صمتٍ أطول استطردتُ: “يمكن عشان كان ضروري”. لم تعلق أمنية، أنهت الطعام وشربت الشاي، ثم انتعلت البوت وانصرفت. قبل أن تخرج قالت لي إنها ستنتظر أن أكلمها وأخبرها بالسبب، وبعد سبعة أشهر من صمتي اتصلت هي، وها نحن ذا.. نسير في شوارع القاهرة غير المبالية، في مسلكنا نفس الاعتيادية المربكة لصديقتين تقاسمتا نصف عمريهما رغم المصيبة التي قصمتهما نصفين، بدت أمنية غارقة بشكلٍ هائل، شيء ما فيها اختلف، ومع ذلك فإنها كما هي.. نظرت لها مرارًا فلم تبادلني النظر، فأخذت راحتي في تأملها لأفهم، ولم أفهم.

قالت لي: “استنيتك تتصلي”.

-“ما كانش عندي حاجة تتقال”.

-“نفس اللي قاله إيهاب لما اتصل من يومين يستأذنني إننا نتطلق.. سكت ست شهور قبل ما يتصل، وإنتي كمان سكتّي خالص كأنكم مستنيين إني أنا اللي أتواصل معاكم رغم اللي عملتوه فيا. أوكي، أنتم تكسبوا، ودلوقتي؟”

-“دلوقتي ايه؟”

نظرت لي بكل جوارها، قالت: “عايزة أفهم”.

وسَّعتُ عينيَّ تساؤلًا، وكان هذا أغبى شيء ممكن لأن الغضب سطع في وجه أمنية، تشوه وجهها بانفعال لم أره قط من قبل، وللمرة الأولى منذ شهور يهزني انفعال.. الرعب.. جزَّت على أسنانها وقالت: “اسمعي، أنا استحملت اللي حصل كل الشهور اللي فاتت لحد ما اتجننت. أنا حاولت أفهم وفشلت، مفيش حاجة تقول ليه ممكن تعملوا فيا كده! مروة قالتلي أنتقم منكم شر انتقام، بس أنا مش قادرة، لأني مش فاهمة. احنا اتقاسمنا الحياة مع بعض، كنت فاكرة إني أعرفكم كويس.. كنت فاكرة إني شايفاكم كويس.. إزاي تعملوا فيّا كده؟ إزاي إنتي تعملي فيَّا كده؟”

رغم الغضب المتوحش في وجهها نَضَحَتْ عيناها بالدموع، كان هذا أقسى ما رأيتُ قط، واستحضرت داخلي كل المشاعر التي دفعتني لكل ما فعلت، كل ما دار بذهني وكل ما فكرت فيه، وكل ما قاله إيهاب، وكل ما شعر به، لكن لساني التزم الشلل؛ كانت أمنية هي الأكثر ثباتًا بين كل من أعرفهم، لم تخطئ قط في قرار، ولم تهتز أمام مصيبة، هرستها الحياة وجرَّعتها كل المرارات الممكنة حتى استسلمت لعدلها الغائب كأول وأهم نواميس الوجود، وسلَّمت بأن البشر جميعًا أولاد وسخة لا يجب الثقة فيهم بأي درجة، لا أحد منهم حصين عن اجتراح الخيانة، لا أحد منهم يتمسك بالحفاظ عليك بأي ثمن، بل ينتظر الثمن المناسب ليودعك بدمعة آسفة لأنه لم يقصد، ويخبرك أنه يتمنى لو كان بيده شيء غير الأسف. مع هذا كانت لديها قائمة قصيرة جدًّا من الأحباب الموثوقين، شلتنا الصغيرة التي تنعت نفسها بالعائلة، نحن الذين تقاسمنا الحياة كما تقول، جمعتنا القراءة والأحلام والثقة في قدرتنا على تحريك الكوكب لو أردنا، كنا في نهاية طفولتنا حين التقينا، مضت علينا المراهقة وزهرة الشباب ونحن معًا، هُرِس كل منا بلونٍ مختلف من القهر فرضته علينا الحياة هنا، في تلك البقعة البائسة من العالم والتاريخ، خسرنا كل شيء، وبقي من أحلامنا شاهد قبر من تجاعيد حفرت نفسها على وجوهنا قبل أن نبلغ الثلاثين، وشعيرات بيضاء اشتعلت بها رؤوسنا.. كنا الحصن الأخير بعضنا لبعضٍ، والآن فقدت أمنية هذا الحصن.. أمام دموعها الوليدة فهمت لماذا يخلو قلبي من كل شعور، لأنني أيضًا فقدت هذا الحصن، وهذا.. هذا الذي أنا عليه الآن.. المرأة التي خسرت رجلًا منحته كل شيء تملك، المرأة التي سلبت صديقتها رجلًا منحته كل شيء تملك، المرأة التي شوَّهت صديقها المقرب بالنوم معه فأخرجته من حياتها أبدًا، والتي فقدت حصنها الأخير، وتخرج محتمية بجيتار لتهرب من أي صديقٍ تلتقيه، هذا هو كل ما تبقى مني. أنا الآن لا شيء.

لم تفهم أمنية ما حدث بيني وبين إيهاب، لم يشرح لها أحدنا شيئًا، لقد أخبرها ما حدث بلهجة تقريرية كأنه ينقل لها أخبارًا روتينية، وأنا صدَّقت على ما قاله ولم أنكر، وأيضًا لم أبرر أو أفسر. رحل إيهاب عنها ولم يتكلم، ورحلت هي عني قائلة إنها تنتظر أن أتكلم، ثم ساد الصمت. أتخيلها الآن وهي تمضي لياليها تتقلب في فراشها الواسع الذي يضاعف عزلتها ونُبْذها، تحاول بعقليتها المستوعبة لقبح الحياة والمتسامحة مع ظلمها الفادح، فهم ما فعلته مع إيهاب، وأي شيء دفعنا له، أتخيل الآن جنونها وهي تتخيلنا معًا، تتخيل التفاصيل التي أدت بنا لما فعلنا، وتضرب رأسها بالجدار من عذاب الحيرة، تتخيل ما فعلنا، والتفاصيل التي تشبه ما عاشته مع إيهاب، يمكنني فهم ما مرَّت به، لأني مررت به بعدما أخبرني محب أنه نام مع أخرى لأنه ملَّ تفاصيلي. انصبَّت النار في حلقي للفكرة.. ما كان لي أن آتي للقائها، كان يجب أن أبقى في صَدَفَةِ اللا شعور حتى يندثر كل هذا القبح، حتى أنساه أو أُنْسِيه، حتى تحدث معجزة ويتلاشى كأن لم يكن.

أمسكت أمنية ذراعيَّ وهزَّتني، حاصرتني نظراتها الغاضبة وقد شابتها لمحة توسل لا تطاق، قالت: “الجهل هيجننّي، قدامي كل الاحتمالات العاقلة والمجنونة ومش قادرة أتجاهل حاجة منها. قوليلي الحقيقة وأنا هاستحملها، حقيقة قبيحة أهون من الجهل والأمل المزيف، وأهون من إني أشوِّه كل ذكرى حلوة معاه بالشك.. كان بيحبني فعلًا؟ طب كان بيخونني دايمًا؟ قوليلي الحقيقة عشان أتجاوز ده. إيهاب راجل طيب، صديق طيب، مش راجل يخون مراته وينكر اللي بينهم. عملتي فيه ايه يخليه يعمل فيَّا كده؟”

ابتلعت ريقي، لكن النار ازدادت تأججًا في حلقي.. ودون تفكير بخختُ نذرًا يسيرًا منها: “يا أمنية، إنتي اللي عملتي فيَّا ايه يخليني أعمل فيكي كده؟”

خَلَت نظراتها من لمحة التوسل، فانفلت قلبي من سجنه، وولدت تنهيدة ارتياح في صدري الذي صار قابلًا للتمدد واستيعاب الهواء، تجلَّى الغضب عليها حد الجنون، ثم اندفعت دموعها غزيرة دون أي لمحة كبرياء، فردَّتني لشعور الاختناق والهلع، ثم خالط غضبها اشمئزاز وقهر بلغا روحي, قالت: “يا خسارة!”

كان وجهها كاملًا في تلك اللحظة، اكتمل فيه كل ما أردت رؤيته، وما اكتشفت الآن أني لم أرد رؤيته، ولم يكن لي أن أراه. تفاصيلها حادّة الغضب، الغنية بالكراهية، المفعمة بالاحتقار، هنا انهار السدَّ الذي يحجب مشاعري، رددتُ في ذهني: “أحيه! أنا عملت ايه! طب أقول لها ايه؟”، ورغم هلعي انفرجت شفتاي لأنطق شيئًا لم أكن قد قررته بعد، ثم سمعت دويًّا هائلًا. لم يخطر ببالي أن يكون لاعترافي كل هذا الصخب المرعب، ولا كل هذا التأثير.. شعرت بأني أطير، ليس طيرانًا مقترنًا بالخفة وإنما بالضياع، ثم فطنت إلى أني أطير حقًّا.. حلَّقتُ لثوانٍ أدركت خلالها أن قوة طاغية تدفعني إلى الأمام، تقودني كدمية بلا حيلة نحو شيء لم أرغب في فتح عينيَّ لأراه، ثم ارتطم صدري بحائطٍ صُلب. فتحت عيني لأجدني ملتصقة بالشجرة العملاقة التي كنا نسير نحوها قبل قليل، وشيء ما يضغطني فيها بقوةٍ مدمرة، صرختُ، وسمعت صرخة أمنية كصفارة إنذار هستيرية تعلن للعالم هول ما وقع لي ولم أدركه بعد، ثم ابتعدت عني القوة الساحقة المغروسة في ظهري فهويت أرضًا بغير تحكم.

في تلك اللحظة انقلب عالمي كله، بلغ سوء حياتي منتهاه.. كنت مرتمية أرضًا والضعف يسحقني، ودب فيَّ ألمٌ بلغ حدوده القصوى حتى لم أعد أشعر به. طرفت بعيني وأنا أشمُّ الدم ينتشر أسفل رأسي، وقد شرع في الامتداد كبساط قانئ على الإسفلت. حرّكت عينيّ لأعلى فرأيت عشرات الأقدام تتزاحم حولي، وعجلة سميكة لدراجة ناريّة تتحرك بتردد ثم ترقد على الجانب الآخر مني، وقربها ألقى شخص ما جيتاري، وقد انثنى عنقه بزاوية قائمة في اتجاه الأوتار، منكسرًا بطريقة مستحيلة.

شق الألم ظهري كما تشق السكين بطيخة ناضجة، ثم دخل وجه أمنية مجال رؤيتي ورأيت صراخها المجنون، تجسد أمامي عويلها والتياعها، تناثرت دموعها في وجهي، شعرت ببرودة الخوف في يديها إذ تتحسس جبيني لأبقى مستفيقة، غير أني لم أسمع شيئًا على الإطلاق.. كنت في فقاعة قصيّة تعزل صوتها عني، فبدت لي مجنونة، غبية بشكلٍ يثير الشفقة، مجرد كائن أحمق يصرخ بكلمات أكثر حمقًا حجبها عني صمتٌ عظيم.

مسّني وحيٌ عميق بهبة الصمت المريحة، المُنْقِذة، وعرفت أن الوقت قد حان لأنتهي من كل حياتي. وكما لو أن الوحي انتزع السواد الذي يلوثني، ابتسمتُ، ابتسامةً حقيقية ليس فيها أثر لشد الشفتين الميت، المجرد من المعني، المجرد من الشعور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائية مصرية .. صدر لها “أيام برائحة عطرك” الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع ـ و”تسوباسا” صادرة عام 2017

“رواية الصمت” روايتها الثالثة حائزة على المركز الثالث في جائزة راشد للإبداع 2019

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون