فصل من رواية “أنا النحات”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد اللطيف

(السفر الثاني)

اليوم الثاني

نسمة الهواء الصباحية توقظني، فأرى التماثيلَ، يا للعجب، تتحرّك في الجزيرة. أفرك عينيّ جيداً، وأنظر مرة أخرى. من شباك الكوخ الخشبي، أراقب خطواتها المتباطئة. سوداء بلون الطين الجاف. قصيرة ونحيفة، كما كانت حتى البارحة. تبدو تائهة. حائرة في أي اتجاه تسير. يلتقي كل منها بالآخر دون تبادل النظر. كل صورة تغوص في عالمها الخاص، كأنها تجتر ذكريات، أو ربما تتعرّف، بالنظر، على العالم الجديد.

أخرج من دهشتي وأنا أركض في العراء كمجذوب، لمّا أرى الأوراق التي كانت ترافق التماثيل تتناثر، يطيّرها الهواء بمجرد أن تحرّكتْ من أماكنها. أسير يميناً ويساراً وألملمها، أطويها وأحتفظ بها تحت إبطي لأقرأها بعد ذلك من حين لآخر، وأتذكّر بها ما قد يقع في حيّز النسيان. قد تكون هذه الأوراق هي تاريخ تماثيلي الوحيد، التي قد تخط لنفسها تاريخاً آخر بعيداً عما أعرفه. 

أخطو نحو منحوتاتي. أراها متناثرة أيضاً كما الأوراق. تمثال يسير، وآخر يقف، وثالث يجلس، ورابع يرقد في جانب بعيد، وخامس يركض دون أن أدري إلى أين يريد أن يصل، وسادس يحفر في الأرض كأنه يبحث عن عملة مفقودة. أراها بظهورها. تنظر إلى النهر كأنها تشتاق إلى مكوّنها. أمي كانت الأكثر جمالاً، تجلس بشعر مسترسل على ظهرها. شابة كما رأيتها دائماً. أقترب وأجلس بجانبها. يدها الصغيرة ترسم وجوهاً على الأرض. أضع يدي على يدها. ناعمة كما كانت. أقبّلها. فلا تلتفت صوبي. أفكّر في أن خطأً ما قد اقترفتُه أثناء التشكيل، أفترض أن أمي لا تراني ولا تسمعني، ولن تتحدث معي. أنظر إلى التماثيل الأخرى، أبي يرقد بوجهه للسماء، واضعاً ساقاً فوق أخرى؛ زوج أمي يقف منتصباً كممثل يؤدي دور الملك في مسرحية، دون أن يدري أن مكونات جسده لا تسمح إلا بدور التابع؛ بائعة اليانصيب تتجول كما التائهة، ربما تبحث عن رجل البرميل الذي يجلس القرفصاء في الجانب الشرقي، بالقرب من النهر. الرجل ذو القضيب المنتصب دائماً، يتشمم حفنة الطين ويواصل الحفر من جديد بأصابع يده الطويلة. أخمّنُ هوس التماثيل بإدراك المكان المحاط بالماء من كل جانب. أتحسس وجه أمي من جديد. أشم رائحة جسدها، فلا تصلني إلا رائحة الطين المجفف. أضع أذني على صدرها، أسمع دقات قلبها، فأتنفّس براحة.

أنهض فجأة وأركض نحو منحوتاتي. أظن أن الهمسات التي سمعتُها ليلاً ليست إلا مناوشات بين الريح وورقات الشجر (ودبّات الأرجل التي كانت تكسّر الأوراق المتساقطة، ماذا كانت؟ هل تحركت بعض التماثيل قبل بعضها الآخر؟ هل دار في ذهن إحداها سؤال عن من صنعها وجاء بحثاً عنه؟). أقترب من تمثال أبي وأتحسسه لأتيقن من الفكرة التي خطرت ببالي، أنتقل منه لتمثال زوج أمي، لبائعة اليانصيب، للرجل ذي القضيب المنتصب دائماً، لرجل البرميل. أنظر في عيونها جميعاً، أقترب من أفواهها، أشم روائحها الطينية. خطئي أنني لم أشق حواسها. لم أفَتّح مسام جلدها، لم أثقب فتحاتها السفلية. ستبقى، بهذه الطريقة، كائنات منعزلة، بقلوب تنبض وأفواه مغلقة، بسؤال معلّق على طرف اللسان، ونظرة لا تتخطى الأهداب. ستشعر بالجوع دون أن ترى الثمرات، ولو رأتها لن تعثر على فتحة تعبر من خلالها للداخل، ولو دخلت ستبقى للأبد بلا مخرج، فتصبح الثمرة الجميلة في الخارج، تلك التي كانت سبباً في الحياة، كتلة سم في الداخل، محض موت مؤجل.

أبتعدُ عنها. أقفُ على مسافةٍ كافية لتأمُّلِها. ألومني على تسرّعي. لستُ إلا هذا النحات صاحب اليد المرتجفة. لم أكن أدري أن تماثيلي ستلتقط أرواحها الهائمة في السماء، هل حدث هذا فعلاً؟ أم أن التراب مع ماء النهر تفاعلا فتولدت روح جديدة، أو نفس الروح من جديد؟

أخلع ثيابي وأنزل للنهر وأسبح. مع موتها المؤقت، سأشق حواس تماثيلي، أفكّر. سأبلل جلدها بالماء ليكتسب نضارةً ولوناً، وليتفتّح. يخطر ببالي أنها ربما لا تكتفي بثمرات الأشجار وبلحات النخيل، ما يُحتّم عليّ تشكيل حيوانات نافعة.

أنام مع غروب الشمس، غير أنه نوم مشوش. أفتح عينيّ وأنظر إلى الماء، يُهيأ لي أن عروسةً جميلة تخرج من النهر، بيضاء جداً وطويلة وبضة، بعينين مسحوبتين لهما لون عصير التفاح، وواسعتين حد أنه، من خلالهما، يمكن العبور إلى روحها الشفّافة. تخرج عاريةً تماماً إلا من قطرات على نهديها المنتصبين، وشعرٍ أسود وطويل تلفه حول رقبتها. أتأملها جيداً وأصفّق لنحاتها، فالمسافة الدقيقة بين الكتفين مع استوائهما كسيف حاد، واستدارة النهدين بحلمتيهما الصغيرتين، كرأس رمح، تنتظران فماً غير مرئي، والبطن المستوية دون بروز إلا حول السرة، والجانبين المشدودين حولها، مع الوركين العريضين قليلاً، والمستندين على فخذين ملفوفين بخفة وملتحمين عبر ركبتين، مكسيتين ولهما شكل قلب، بساقين بلا عظم على ما يبدو، وأصابع قدمين طويلة كأصابع اليدين، كأنها ستعزف بها في التو، برهانٌ مرئي على يد ثابتة لنحات لا يعشق الجمال فحسب، بل ويقدّسه ويحترف صنعه. حتى الشق الطولي بين الفخذين أحمر كما الوردة. أثناء ذلك، أنتبه أنها خرجت من الماء لتستقر فوقه، وبعد دقائق تتراقص، تدور عدة دورات فأرى ظهرها المقسوم بخط رقيق، ومؤخرتها المكوّرة واللدنة، بالقناة التي تفصل بين الردفين وكأنها نهر بين هضبتين. تتمايل عروسة النهر للأمام وللخلف، يتساقط شعرها الملفوف حول رقبتها على صدرها فيداريه حيناً ويكشفه حيناً آخر، تتقاطع يداها فوق رأسها كضفيرة مرفوعة لأعلى، وتغطس تحت الماء وتخرج من جهة أخرى، بجسد مفرود على صفحة النهر، بقدمين تسبحان كفراشة، وعينين تنظران إليّ، بشوق، وتعانقاني، فأراني بين ذراعيها، عارياً يكسيني جسدها، ويمنحني دفئاً. تقبّلني بشفتين لهما طعم التفاح، وتلعق وجهي بلسان وردي. أرفعها من مؤخرتها اللدنة، فتعانق خصري بساقيها، ونصير واحداً، نتكامل كما ينبغي، وتتساقط العزلة من فوق جلدي، تذوب مع ماء النهر وتُصَب في البحر لتزيد مرارته. وفي لحظة الشبق تدغدغني بين ذراعيها، ونستريح على صفحة الماء فأرى، من بين فخذيها، كائنات في حجم كف اليد تهرب وتتراقص، تحمل ملامح كل منا. أفتح عينيّ لأجدني راقداً في الجزء الغربي من الجزيرة، عارياً ومبللاً. الظلام قاحل جداً، والقمر محاق، وأشعر بالبرد.

أركض إلى الكوخ وأرتدي ملابسي. مع السكون، ونور الجزيرة الخافت، أتجوّل في صمتِ راعٍ يتفقّد رعيتَه بقلق. أخطو خطوات ثقيلةً ومترددةً حد أنها تبدو لي متراجعةً أكثر منها متقدّمةً نحو هدف معلوم وجلي. أي رهبة تلك التي تسبق منح الآخرين حواسهم! يتردد في ذهني، قبل أن أصل لتمثالي الأول، سؤالٌ عن صفة للفعل الذي سأقوم به بعد لحظات: هل هو نعمة أم لعنة؟ بعض الشرور، في نهاية الأمر، لا يُمكن تجنبها لتستمر الحياة. أفكّر في أن الوقوفَ في منتصف الطريق مصيرٌ ملعونٌ. أردد بصوت مسموع أن اللعنات تكمن عادةً في أنصاف الأشياء. لو كنت مكان آدم لأكلتُ التفاحة كاملةً، ومددتُ يدي لتفاحات أخرى حتى أشبع، فماذا يضيرني من العقاب إن كنت قد اقترفتُ الخطيئة بمحض إرادتي. وما دام الطرد من الفردوس مصيري في كل الأحوال، فلما لا أتطرف في الحصول على متعتي.

أقترب أولاً من تمثال أمي. وبخشبة صغيرة في حجم عود الكبريت، أشق عينيها وفمها وفتحتي أنفها وأذنيها. وأفكّر قليلاً قبل أن أشق فتحةً سفلية(هذا المكان الذي خرجتُ منه للعالم)، وأثقب مؤخرتها بحيطة وألم. أسكب قليلاً من الماء على جسدها  وأتحسس جلدها بكف يدي، ثم أخطّط بأظافري خطوطاً طولية طفيفة. أنتقل بعدها من شرق الجزيرة لغربها، ماراً على كل التماثيل، فاعلاً نفس الشيء، غير أنني أتساءل أمام تمثال بائعة اليانصيب عن جدوى شق فم امرأة كانت خرساء، ما يدفعني لتوسيع فمها وصنع لسان طويل لها، فربما من خلاله تقول كل ما ودت أن تقوله في حياة سابقة. ومع رجل البرميل، المجاور لها، يخطر ببالي سؤالٌ مشابه عن رجل أصم، فأقرر بنفس الطريقة أن أضاعف دائرة أذنيه وأطيلهما بشكل ملفت، ليسمع كل ما لا يمكن للآخرين سماعه. وبعدها أردد كلمات تبدو ساذجة: هذا الفم سينطق، وهاتان الأذنان ستسمعان كل ما يدب على الأرض. 

أترك تماثيلي في سلام، دون أن أدري إن كان بوسعها رؤية أحلام أم لا، وأي نوع من الأحلام يُمكن رؤيته. الحلم اختراق لما وراء الأفق، اطلاع على غيبيات أو إعادة تشكيل للمرئيات. بهذا المعنى، أي قدرة ستتمتع بها الأرواح الجديدة، أتساءل. أي عوالم يمكن أن تخترقها. فكرة النوم التي كانت تشغلني من قبل، هذه القطيعة مع الحياة الملموسة من أجل التواصل مع حياة مجردة، ستصير من الآن سؤالاً آخر جديداً فيما يخص منحوتاتي.

أقترب من الكوخ، غير متيقن إن كنتُ فعلتُ ما ينبغي أم اقترفتُ إثماً، وأفكّر في حيواتهم السابقة. الذاكرة لا تحتفظ بالأحداث مرقّمة كما ينبغي، وربما تبعثرها ما يجعل منها ذكريات، أفكّر. التسلسل صفة مرتبطة بالحاضر، وتمتد للمستقبل، في حين أن القطيعة شرخ بين ما كان وما يكون. في العشق كما في الحياة، الغياب يصنع الذكرى، بينما الحضور امتداد لنفس الحدث. بتحرُّك تماثيلي، أصنع هذا الاتصال، أبعثهم من الموت فأنشيء جسوراً بين الماضي والحاضر، دون أن أعرف بأي ذكريات سيعودون.

أدخل الكوخ. أستلقي على ظهري. وقبل أن تمر دقائق، أرى أشياءً عجيبةً تحدث. أنظر من مكاني المنخفض، عبر النافذة المفتوحة، إلى السماء.  تسيل دماءٌ بغزارة في شكل خيوط طولية لا متناهية، ومن هذه الخيوط تنشق مقاصل يقف على حافتها رجال ملتحون، قبيحون بشكل مرعب، يرفعون سيوفاً في الهواء فتتطاير رقاب تحمل جمالاً نقياً وبريئاً. مع كل ضربة سيف، تتحول الوجوه الملتحية، تتخذ أشكال حيوانات ضارية، أكثرها ألفة كانت الكلاب. في لحظة ما، تُكوّن المقاصلُ بيوتاً وتصير خيوطُ الدم الطولية أعمدةً خشبية ترتكز عليها سقوفٌ من الرقاب المتطايرة. يخرج منها ملتحون بظهورهم ويجرّون أجساداً خاضعة، منهكة حد الموت، يصلون بها إلى بحر أسود ويلقونها دون أن ينظروا إليها. كلما ألقوا بجسد خرج حياً من الضفة الأخرى، كأنه قد تعمّد، وتحوّل، وصارت له لحية شبيهة بلحيتهم. ومع خطوات الأجساد في الأرض الجديدة، تكتسب ملامح وجوهها ملامح من عمّدوها، فيصير بعضها ثعلباً أو ذئباً أو حماراً، وتخرج لها ذيول، وكلما تقدّمت للأمام عثرت على من يشدها منها، ويلويها، بينما تبتسم في سعادة من يتطهر من دنسه. على ضفتيّ البحر الذي يشق السماء، تتكاثر البيوت وتتخذ أشكالاً مختلفة، يتكاثر الشبيهون بالبشر دون أن ينتبهوا أن سُكّان الضفتين، رغم المسافة بينهم، امتداد لنفس الخط، حتى بيوتهم المختلفة في الشكل مشيّدة من نفس الأعمدة والسقوف.      

ـــــــــــــــــــ

تصدر قريباً عن دار العين

  

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون