عن الفرح والبؤس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لو أن فيرجينا وولف كان عليها كل صباح أن تغسل كل هذه الصحون، وترتب صندوق الألعاب الخاص بصغيرة تأكل الورق بحماس، تقطعه من عدد قديم من مجلة أدبية تركته وسط ألعابها حتى يشتت انتباها عن الكتب التي تحاول سحبها من المكتبة طوال الوقت، تقطع صفحات من المجلة كثيرة الأوراق وتأكل نصف صفحة كل يوم على مهل، تنزوي في جانب وبهدوء تجلس لتمضغ غنيمتها، قبل أن ينتبه لها أحد ويضع إصبعه في فمها ويخرج ورقا وسط ثورتها وعضها للأصبع في محاولة لحماية غنيمتها،  الصغيرة التي ورثت الأرق وقلة النوم والمزاج العصبي المدلل والتي تمشي خلفك مثل ظل صغير جدا، لو كان على "فيرجينا وولف" أن تضع الملابس المتسخة في الغسالة وتشغل برنامج السبعة وسبعين دقيقة قبل أن تخرج الملابس بلا رائحة وبالبقع ذاتها .

 

البرنامج الذي تستخدمه يزيل فقط الروائح الكريهة ، لكنه يترك البقع التي غالبا ما تكون على الصدر، هي التي أصبح لديها عدد لا بأس به من الخيبات والخصلات البيضاء لازالت تترك الطعام يسقط على صدرها ويترك أثرًا لا يمحوه برنامج الغسيل الذي تستخدمه.

الملابس التي لا ترغب في نشرها، والصحون الراكدة منذ يومين في المطبخ مثل سفن غارقة قريبا ستنمو فوقها الطحالب وتلفها، تنمو وتتوحش حتى تبتلع كل شئ .

حتى إنها ستمسك بقدمي فيرجينا ولن تسمح لها بالغرق هذه المرة .ستتركها تعيش بأوجاعها وأصوات خيالها المفزعة  … فتجلس بحركتها المضطربة الحزينة كما في فيلم “الساعات” تدخن السيجارة وتعطي أوامر للخدم بالمطبخ وتتعفن فوق كرسيها من الجنون .

لو أن البنت  أجلت زيارتها للشارع الذي يسكن فيه بطل روايتها يوما واحدا، لشغلتها الدماء والفوضى ورائحة الظلم، عما ذهبت للبحث عنه في شوارع السيدة زينب .

تخرج من الندوة قبل نهايتها ، وتبدأ رحلتها الصغيرة ، تلم تفاصيل ما يراه  بطلها في رحلته اليومية ، تعبر الشوارع ، وتراقب البشر ، ويتسلل البراح لداخلها ، والبهجة بفعل الأضواء والزحام والبائعين الذين يفرشون كل أنواع البضائع على الارصفة ، تتجمد قليلا أمام بائع الحرنكش والتفاح المغموس بالعسل وتراودها ذكرى باهته وقديمة ، ثم تدقق فيما يشبه حجر الشيشة ، تعرف فيما بعد ان اسمه ” كوز العسل” .

الشوارع نفسها التي سيحدث بعدها بيوم أن يقتل  رجل بمسدس ميري ، رجل آخر  ، تتخيل المشهد ، تفكر في مشهد أكل الجنود للطفلة أخت ” هانبيال ليكتر ” في جزء رهيب من تلك السلسلة ، تفكر في موت ” الغيطاني” او تستدعيه بوفاة ” علاء الديب” وتفكر كيف كانت تحب الثاني وتهاب الأول ، وأحزنها رحيلهما معا .

تفكر في الموت ، وفي مخاوفها عن المرض وإخفاقها في توصيل ذلك الرعب الذي يسكنها للورق ، فيخرج دائما باهتا ومصطنعا .

كيف لأحد أن يصف شعورا مخزيا بالخوف!

كيف تصف غضبها من الكتابة التي تخذلها ، ومن الضوضاء التي تملأ العالم حولها ، والبرد والوحدة التي تغزوها .

والكتابة التي تخونها كثيرا هذه الايام ، فتفكر في البنت التي توقفت عن الكتابة لأن ثمة شئ إنطفئ داخلها ، تفكر في ذلك وتشعر بالخوف ، فتقطع المزيد من أشجار الغابة ، وتفك بعض مسامير الكوخ الذي تنام فيه تحديدا اخشاب السقف والفراش ، لتشعل جذوة الروح والكتابة .

تشتعل النار ، ويبقى الكوخ معرضا للغرق بفعل الأمطار التي ستعود في هجمة شتاء جديد ، وتفترش الأرض لانها كسرت الفراش لتدفأ به الكتابة ، ستنام من جديد على الارض حتى يترك الحصى أثرا جديدا على جسدها ، فيشبه نهش الدب لجسد ليوناردي كابري في الفيلم الضعيف الذي يحاول ان يحصل به على الاوسكار هذا العام ، ربما بعدما أكله الدب ، والتهم هو السمكة نيئة ، ومسح  الغابة جاثيا على بطنه وصرخ كثيرا ، واتسخ وجهه بالدم والطين أن ينالها هذا العام ويموت راضيا .

الرغبة في معجزة كأن يرتب المطبخ نفسه ذاتيا ، يغسل الصحون ويغسل الموقد، ويعد طعام غداء مناسبا ليوم الجمعة ، ولا ينسى أن يصنع طعاما صحيا للصغيرة .

معجزة تساعد الملابس في التخلص من البقع في برنامج السبعة وسبعين دقيقة .

معجزة لتعديل الأجزاء السخيفة في الرواية ، معجزة للتخلص من الحزن والتعايش مع الفقد، والإستعداد للمزيد منه ، و تكسير أخشاب منضدة غرفة الطعام لتدفئة الكتابة .

المزيد من الشجاعة لتقبل الواقع ، والمزيد من الخيال للكتابة ، وتجاوز القبح ، الكثير من الفرح حتى لا تتجلط دماء القلب ، وبعض هدايا القدر ، والمحبة وكوز عسل وشوارع تمتلأ بالزحام والبهجة ، وكرسي هادي تحت الشمس وسط الأشجار لقراءة الكتب الجديدة ، والتأمل في أحوال البهجة والبؤس على حد سواء  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون