علامات على الطريق

موقع الكتابة الثقافي art 9
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيمان بنداري

لم يرن جرس الباب لكنها فتحته. كان يقف أمامها، ابتسمت له، ابتسمت حتى دمعت عيناها، كانت تلك علامته في القصة القصيرة الوحيدة التي كتبتها، “طارق” الناجي الوحيد، الذي قفز فوق شريط المترو، بينما ألقى العساكر القبض على صديقيه والفتاة التي تتبعه من مقهى لآخر. كان يناير لمن مكثوا في البيوت مجبرين أو مخيرين دخَانًا وترقبًا وحذرًا. كتبت المشهد كما لم ترَه. كانت عانسًا لدرجة ألّا تحمي أوراقها من أبيها، فلا يمزقها. عانسًا لدرجة التاسعة والثلاثين، ثم كان أن أنهتها بعدها بثلاثة أعوام. كان الوقت يقترب من الثالثة، وكان عليها أن تجلس على الكنبة قبالة الباب، حتى تقف حين يدير المفتاح ككل يوم عائدًا من العمل، رغم أنه لم يفعلها منذ ثمانية أشهر، منذ مات. ولكنها فتحت الباب لطارق ودمعت عيناها، وكانت تلك علامته. كان يستند إلى الباب بدمٍ جاف على رأسه وملابسه، ورباط حول معصمه. كانت تنظر إليه وإلى الساعة فوق الحائط، الساعة التي لا تدق لأحد غير وحدتها، وملأها ذعرٌ.

الأسئلة التي تخطر ببالك عن خروج الأشخاص من القصص والروايات، لم تكن تخطر ببالها في تلك اللحظة. كل ما كان يهمها ألّا يراه والدها الذي لن يعود من العمل. أمسكت بيده المصابة، ولم تؤلمه، وتوجهت به إلى غرفتها، أجلسته على السرير، وأشارت إليه ألّا يصدر أي صوت. خرجت من الغرفة، وجلست فوق الكنبة قبالة الباب تتابع الساعة التي تقترب من الثالثة.

 الساعة التي دقت الثالثة لم تتوقف. عند الرابعة دخلت غرفتها. كان قد غلبه النوم والتعب، وفكرت أنه ينام على جانبها من السرير، ولم تشأ أن توقظه، فجلست على كرسي حتى غلبها النوم. طارق الذي سلَّم نفسه طواعية إلى نوم ثقيل، استيقظ على نهنهات أمينة النائمة فوق كرسي مغطى بكسوة مزركشة. ربت على يدها بهدوء محاولًا إيقاظها دون أن يُفزعها. عيناها اللتان فتحتهما كانتا شديدتي الاحمرار، وممتلئتين بالموج، مسح دمعها فاختلط بدم جاف، ولطخ وجهها فاعتذرت.

ثلاثة أيام قضاها في غرفة أمينة، تحميه من أبيها الميت والكتب تحت السرير، والعساكر في كل مكان. كانت رعشة صوتها تقل وابتسامتها تزداد وتلك علامته. أمينة التي لا تملك تفسيرًا لطارق الذي تضمِّد جُرحًا غائرًا بقدمه اليمنى، وتحس بأنفاسه فوق شعرها، يبدو حقيقيًّا أكثر مما قد يحتمل. حين انتهت قامت وأحضرت علبة حلوى معدنية قديمة، جلست بجواره وفتحتها. أخرجت أوراقًا أُعيد لصقها بلاصقٍ شفاف. فَهِم أن عليه أن يقرأها. كان يقرأها وينظر إلى أمينة من آن لآخر. إن كان مجرد شخصية في قصة ما، ما الذي يفعله هنا؟ هل عليه أن يثور الآن ويمزّق الأوراق لدرجة لا يفلح معها إصلاح؟ لم يفهم، وأحمد وسعد صديقاه والفتاة التي تحبه وتتبعه أينما ذهب، ولا يريد أن يجرحها، ولم يغنِّ من قبلُ. لمَ أتى لأمينة؟ لا يتذكر من أين يعرفها، هل تحبه أمينة؟ هل يحبها؟ يعرف أين تحتفظ بأشيائها الخاصة، ويعرف الغرفة وهو لم يدخلها من قبل، ويعرف اسم حبيبها الأول، وعلامته. يجعلها تضحك حتى تدمع عيناها. إن كان شخصا في قصة؛ هل الديكتاتور الآن يطارد أبطال القصص؟ عندما رفع نظره كانت دموعها تسيل، وظن أنها تعتذر وقَبِل.

 استيقظا على أصوات عالية، وصراخ ولعنات. قامت وارتدت ملابسها وتبعها، أشارت إليه برأسها أن يبتعد وفتحت شباكًا. كانوا يقومون بتفتيش المباني المجاورة. أخبرته أنها ستتصرف. خرجت لبعض الوقت، وحين عادت لم تجده. اقتربت الساعة من الثالثة، كانت تبكي فوق سريرها حين كسروا الباب؛ لأنها لم تفتح. غرفتها كانت نظيفة إلا من رائحتهما. جمعوا الأوراق والكتب، وأخذوها معهم.

من فوق البناية المجاورة، كان ينتظر خروجهم ليعود إليها. قبل أن يراهم خارجين، كان كفه بدأ ينزف. وحين رآها كان قلبه يفعل أيضًا. حين خرجت من البناية كانت تعرف مكانه، نظرت إلى أعلى، فابتسمت حتى دمعت عيناها، ونسيت كل ما سواه؛ وتلك كانت علامته. في القطار كان يُحكِم الرباط على النزيف في يده، ويغني أغنية عن الديكتاتور الذي جنّ، ويطارد الثوار في القصص والحبيبات في الغرف، وكانوا في القطار ينصتون له، وحين رفع عينيه ابتسموا له، حتى دمعت عيونهم، ونسوا كل ما سواه وتبعوه، محطة بعد محطة، ومدينة بعد مدينة، تبعوه، كانت الأخبار تتداول سرًّا. الديكتاتور قد جنّ، ويطارد الثوار في القصص، مدينة تلو مدينة تسقط، الشرطة تتخلى عن عصيها للنمل. الديكتاتور ربما لم يكن قد جنّ بما يكفي بعدُ. دفع المال لكل شخص ليصل إليه في الحواشي والأغلفة، في الكلمات المتقاطعة والرسائل المخبأة بحرص.

كان خارجا من عربة المترو، ويغني للديكتاتور الذي جن. الزحام كان عاديًّا، والناس أيضًا، ثم صار هرج ومرج، وفي لحظة كان كل شيء يتكرر كالمرة السابقة، مَن فعلها مرة، بإمكانه فعلها مرة أخرى. يقفز ويتخطى عربات المترو للناحية الأخرى، ويتوه في الزحام. كل شيء يتكرر، غير أنه لم يكن هنالك من وقت للتفكير، بينما يقفز ستعلو آهته بعد صوت الطلقة التي اخترقته. سيوقفون حركة المترو؛ بحثًا عنه في الأنفاق، ستتكدس الرحلات والمارون والمسافرون؛ طلبة وعجائز وموظفات يردن العودة لإعداد الغداء، وبنات جميلات جدًّا.

في النفق المظلم تحت ضوء الكشافات، سيجدون عشرات الكتب ومئات الأغاني تنبض كجنينٍ مكتمل النمو، يوشك أن يولد في أي لحظة.

في ممر معتم يفصل زنازين تفوح منها رائحة بول وبكاء، كانت دقات القدمين المقتربتين تشير إلى الثالثة. وضع الصينية على الأرض، ودفعها بقدمه اليسرى لتستقر قريبًا قُربَ الباب. كانت في الداخل تُغني. نظرت إلى الصينية، وتابعت تسجيل الأيام فوق الحائط بيدها اليمنى، بينما يدها اليسرى تتحسس بطنها. تكتب وتغني، وتلك علامتها.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون