عضضت ذيلي فما أطيبه

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 25
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ناجي

1

عَثرت عليهم على حافة حدود الدولة.  رحلة تنقلت خلالها بين عشرات المناطق والمدن. تلقيت تدريبات عسكرية عشوائية، بايعت وخضعت لولاية ثلاث أمراء مُختلفين، تزوجت مرة لكن بعد أسبوعين قصفت فرنسا بيتنا. لم أهتم بجمع أشلائها فالشهيد لا يُغسل ولن يكون هنا ما يمكن دفنه. لكنى انطلقت في رحلةِ خلف هذا الصوت كأنها رؤيا ربَانية، كيف لا وقد كان الصوت يتلو آياته؟

ثم وصلت إلي تلك النقطة الرمادية على مقربة من الشريط الحدودي مع تركيا، وجدت رايتهم السوداء عليها كلمة واحدة “واعتصموا”.

تلقيت واجب الضيَافة ثلاثة أيام، في اليوم الرابع بعد صلاة العصر مشينا نحو شجرة السَكينة. جلس خمسة شيوخ وشابان يستجوبونى والأمير الذي لا يتعدى عمره العَاشرة وسطهم صَامت عيونه مُسلطة عليّ، وفؤادي وأذناي وكل حواسي مُنتبه لأى همسه تَصدر عنه، في انتظار إشارة أو تأكيد أن الصوت الذي تبعته كل هذه الليالي هو حقاً صوته، لكن لم يخرج من بين شفتيه حرف.

أحياناً فقط يهز رأسه الأمرد عند إجابتى لسؤال ما كأنما يستحثنى على قول المزيد. في النهاية رفع كفه الصغير مَضمُوماً إلا أصبع الخنصر مَبسوطاً في الهواء، أشار عجوز بجواره إليّ أن أتقدم.

جلست تحت أقدام الأمير الطفل الأسمر، وعن يمينى يلقنى أحد الشباب نص البيعة “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن أميرنا بكار أبو كف رقيق وصغير هو المهدى المنتظر، أبايعه على النصر أو الشهادة، ولا أخون العهد قط حتى وإن ذُقت الموت، وأحميه بدمى ومالي وأبي وأمى حتى يحين الوقت ونتبعه على صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم ولا الضالين”

مد الأمير بكار أصبع الخنصر، ومددت خنصري كذلك. وحين  تعانق الأصبعين شعرت بخراب العالم  يزال، بألمى  يبري، وبالدموع أخيراً تجف.

2

 اعتقلت الحكومة والدى وتحفظت على  أموالنا ومحلاتنا التجارية. كُنت في المرحلةِ الثانوية حينما وقعت الواقعة، من بعدها ولسبعِ سنوات انقسمت حياتى بين التسول من أعمامى، والركض ورَاء الموظفين ورفع الالتماسات ليرفعوا المرتب الذي يصرفوه لنا من أموالنا المتحفظ عليها، وبالطبع زيارة والدي في السجن حيث مات هناك.

حصلت على عَملي كطبيبِ مُمَارس في مخيم  المهاجرين غير الشرعيين في العالميين. لم يكن دورى رعَاية المهاجرين بالطبع، بل رعاية أعضائهم البشرية التى يتم تصديرها لأوروبا. فبعدما تم توقيع اتفاقية الخصوصية الثقافية لدول البحر المتوسط، أقيم سياج حديد  كهربائي ناري يفصل الشمال عن الجنوب، وعملت الحكومات الأوروبية على زيَادةِ مُخصصاتها المَالية التى تدفعها للجنرالات العرب والأسلحة التي تُصدرها وتمنحها لهم، مُقَابل الحرص على قيامهم بدور السجَان بكفاءة.

اُنشأت مُعسكرات احتجاز المهاجرين غير الشرعيين على طول السَاحل الجنوبي للمتوسط. عملت مؤسسات المجتمع المدنى وأحزاب الخضر واليسار الأوروبي على دعم هؤلاء المهاجرين المساكين من خلال مشاريع تنموية مُختلفة. أحدها كان المشروع الذي أعمل فيه، وهو مشروع استبدال الأعضاء بالفرصِ المحلية.

لنفرض أنك شاب بائس ترغب في السفر لأوروبا، تم القبض عليك وإيداعك مُعسكر الاعتقال. يقوم المحللون والاخصائيون الاجتماعيون بدراسة حالتك، ويعيدون تَخطيط مُستقبلك. يقولون  “لديك مواهب جميلة، أنك تحسن الطهو، لذا سنعرض عليك صفقة لا يمكن رفضها. يمكنك التبرع بكليتك أو فص من كبدك لهذا الطفل السويدى الحزين لكي يعيش ويسعد عَائلته، وفي المقابل سنوفر لك عربة تقف عليها لبيع سندوتشات الكبدة والسجق”.

طبعا بعد شهر من وقوفك على عربة الكبدة سعيداً بكيانك الذي يتحقق عبر عبودية العمل، ستأتى الشرطة لمُصَادرة عربتك لمخالفتك قواعد قلي الزيت في الأماكن العَامة المقررة ضمن ملاحق اتفاقية باريس للتغير المناخى ومُكَافحة الاحتباس الحراري، لتعيد رسم دَائرة بؤسك المكررة. تبدأ من البداية التي تبدو كما النهاية، كمن يعض ذيله أو من ذقنه وافتل له.

  صادقت الكثير من الأجانب والفتيات الأوروبيات اللواتي يأتين لمُسَاعدةِ اللاجئين والمهاجرين من خلال تَعليمهم الرسم أو عزف الموسيقي الكلاسيكة وغيرها من الأنشطة الخولاتى التى تشتهر بها الثقافة الأوروبية البيضاء. كنت أستغل كل فرصة تظهر أمامي لحشر قضيبي في هذا اللحم الأبيض المتوسط لعل واحدة منهن تجن بما يكفي لتتزوجنى وتأخذنى معها، لكن تلك الفارسة البيضاء لم تأتِ أبداً، لذلك حاولت الحياة عبر بيعِ الأعضاء التي تفسد في الثلاجات لحسابي الخاص في السوق المحلي لمستشفيات زرَاعة الأعضاء في مصر. فجحا أولي بلحم ثوره أو عضوه أو أياً كان..

3

لم أسمع صوت رُصَاصة طوال إقامتي في منَاطق ولاية الأمير بكار. فردوس مخفي عن الصواريخ والقطع العسكرية والكتائب التى تتحرك.  حياة هادئة كلها عبادة وذكر لله. لاحظت تهاوناً في التدريبات العسكرية، وتركيز على التربية الروحانية.  طلب منى أمير الشرطة ذات يوم تسليم كل الأسلحة التى في حوزتى، يمكننى الاحتفاظ فقط بمسدس واحد.

الجبال خضراء في أرضنا هنا، والمياه العذبة تنساب من شلالات صغيرة مُتفرقة لتكون برك وبحيرات  عدنية، كثيراً ما نسهر حولها نُقيم الليل ونذكر الله حتى صلاة الفجر وشروق الشمس. أثناء عودتنا من البحيرة إلي أرض الولاية فاتحنى الأخ عبد الرحمن بعد مُقدمة  طويلة، أنه يحبنى في الله ويثق في أخلاقي ويريد أن يهَادينى ولا يجد هدية أفضل من أن يخطبني إلي أخته. الأخ عبد الرحمن من سُكَان البلاد وليس مُهَاجرا مثلي، لذلك كان لعرضه قيمة كبيرة وفي عينه رأيت هذا الحب، رابطة الأخوة المجدولة، العروة الوثقي التى لا تنحل، وحبل الله الذي نعتصم به.

4

جاءنى مرة أحد المحبوسين في مُعسكر الهجرة غير الشرعية، سلام في كلام، حباية في جوان. ثم أخبرنى أن لديه وسيط في مستشفي  إيطالي، يمكن أن يهربه إلي أوروبا وذلك بمُسَاعدتى أنا، الطبيب الشاب الذي لم يحصل على الماجستير بعد.

“أنا، أخبرنى كيف؟ على الأقل أساعد نفسي لأغادر وأترك صفيحة الزبالة تلك” قلت له.

فقال أن وسيطه سيرسل تقريراً لطلب عدد من الأعضاء بمواصفات مُحددة كلها تنطبق عليه وهنا يأتى دورى كطبيب حيث أشرحه وأقسمه، وأضعه في ثلاجات وأوعية الحفظ. وبما أن القاعدة الأولى في اتفاقية الشراكة المتوسطة هي “نعم لحرية نقل البضائع، لا لحرية تنقل البشر” فسيتم نقل جسده بصفته بضاعة على أن يقوم الوسيط في إيطاليا بتجميعه وإعادته للحيَاةِ.

“هذا مستحيل، لا يمكن أن يحدث. الروح من أمر ربي، ولا يمكن لوسيطك أن يعيد إحياءك إذا شرحت جسدك، هذه مُخَاطرة لن أفعل هذا” قلت له.

غضب وقال إن الأوان قد فات وأنه سينفذ خطته قبلت أو رفضت. وصلنى بعدها بأيام تقرير من المستشفي الإيطالي الذي ذكره، وبدأت في إعداد وتجميع الطلبية وبعضها كان يجب قطفه طازجاً من أجساد حية.

بعد أسابيع عرفت أنهم  عثروا على جثته في خيمة بطرف المعسكر. كان مستشفى سرياً يستخدم لإجراء عمليات الإجهاض للمهاجرات اللواتي يغتصبهن جنود حفظ السلام وحماية المتوسط. كانت جثته مشطورة من الوسط مَفقودة الأعضاء.

ثم أغلقوا البرنامج. أعلن الاتحاد الأوروبي مقَاييس جديدة. تبين أن الأعضاء الصنَاعية الكَاملة أفضل اقتصادياً من الأعضاء البيولوجيا التى يتم نقلها وزراعتها، بالتالي لم تعد هناك حاجة لاستمرار مشروع “الأعضاء والفرص المحلية”. طُردت من المخيمِ، وأغلق بَاب فرصة السفر، عُدت ثانية إلي المستنقعِ، بلا أمل ولا يأس.

5

أنفقت من عمرى عامين وسط المجاهدين هنا. كل يوم قبل النوم  أدعو الله أن يتم نعمته ويكملها بالشهادة، وحينما وصلت لأرض الأمير الصغير وانضممت إلي كتائب الأمير بكار أبو كف رقيق وصغير. دعوت الله إذا رزقنى الجنة في آخرتى أن يجعلنى في صحبة نبيه وأميري.

تزوجت أخت عبد الرحمن الذي جعله الله خير سند. أخته زوجة صَالحة مُطيعة مُثمرة نظيفة المنزل والجسد.

تناثرت الأخبار والإشاعات، وبعد صلاة الجمعة. ارتقي الأمير ذو الكف الصغير المنبر، حمد الله وبسمل وبصوت جميل بدأ يقرأ من سورة الأنفال. انسابت دموعنا وصوته ينساب لقلوبنا بكلام الله العزيز فيطهرنا.

صوت الأمير بكار هو الدليل الناصع البين أنه  المهدى المنتظر. صوت  يقنص القلوب، كلامُ الله المنزل يتجسد حينما يتلوه واضحاً جليا في إعجَازه وقوته. حينما انتهى كانت العيون شَاخصة والأجسَاد مستسلمة لما سينطق به لكنه أشار لشيخ من مستشاريه، صعد المنبر وألقي الخطبة التى أكدت الإشَاعات المُتناثرة.

بعد الهزيمة الثانية في الموصل وانسحاب الأخوة من مُقاتلي الدولة الإسلامية والمبايعين للخليفة البغدادي. اشتد الحصار على كل الولايات دَاخل الدولة حتى تلك التى لم تتورط في المستنقع العراقي القبلي. أقر الأوروبيون الهدنةَ مع الولايات التي لا تُقَاتل في الموصل أو العراق، ومنها ولايتنا. أعلن الشيخ أن الأمير التقي بمبعوث عن جيش فرنسا، التى تسعى للعب دور الوساطة بين الولايات التابعة للدولة والروس، لم تصل المفاوضات لنتائج نهائية. ثم قال الشيخ خاتماً حديثه مُستشهداً بسورة الأنفال “وإن جنحوا للسلم”. قبل أن تعلو الهمهمات والاعتراضات. ارتفع صوت الأمير الصغير مُكملاً تلاوة القرآن فصمت الجميع، دخلت حمَامة بيضاء للمسجدِ حَلقت عَالياً ثم جلست على كتفه. القلوبُ خَاشعةُ، والعيون تنظر لمعجزةِ الحمامة البيضاء، ثم حلقت الحمامة فجأة وفي خط طيرانها بالت على جميع الجالسين.

6

عُدت مرة آخري لمنزل العائلة مُقيماً مع أمى بعد طردي من العمل في معسكر الهجرة غير الشرعية. كل يوم أمر على المستشفيات الخاصة بحثاً عن عمل مؤقت أو “نبطشية” ليوم واحد. لم يكن لدي مصدر دخل ثابت ولا مال لكى أكمل تعليمى وأحصل على ماجستير أو زمالة لأتحول من طبيب عام لطبيب مُتخصص.

جاء خالى لزيارتنا، وفتح الموضوع هناك صديق له يعمل في العراق، يبحثون عن أطباء شباب بمرتبات تتراوح من 3 إلي 5 آلاف دولار في الشهر.

“ايدى على ايدك يا خال” قلت له.

كان العمل في أرض العراق لكنه لم يكن في دولة العراق. استلفت أمى المال من هنا وهناك. حاولت السفر إلي تركيا لكن تم إيقافي ومنعى من السفر في المطار لأسباب أمنية، على الأرجح بسبب ملف والدى الأمنى والسياسي. قال خالى إن هذا يجعلنا نأخذ الطريق البري وهو أوفر من ناحية التكلفة والفلوس. سافرت بالأتوبيس لجنوب سيناء، ثم تسللاً من نويبع إلي ميناء العقبة في الأردن، ثم مخيمات الأردن ومنها إلي حدود الدولة الإسلامية في العراق والشام.

عملت أولاً كطبيب مُجَاهد في كتائب العدنانى. كان لدينا مُستشفي صغير في الخطوطِ الخلفية. والعمل مثل أى عمل في أى مُستشفي في مصر، ثم سمعت لأول مرة عن كتائب الأمير الصبي. أنهم لا يقتلون الشيعة لكن مع هذا تَرهبهم وتحترمهم كل كتائب الدولة، لهم حق إدارة مناطقهم بشكل منفصل. ورغم أنهم يوردون الضرائب للدولة، لكنهم لا يطلبون منها السلاح أو الدعم ويهبون لتقديم المعونة حينما يطلبون. يخضعون كلهم لسلطة الأمير الصبي ذي الصوت الساحر الذي لا يملك أحد أمام طلاوته وحلاوته إلا الابتسام والتلبية.

قلت لعل الأمر أسطورة مَحلية، حتى تزوجت أول مرة. وفي  يوم تناكحنا، نمنا بجوار بعضنا البعض أخبرتنى زوجتى أنها تتمنى أن تسافر لولاية الأمير بكار، وهناك فقط هو المكان المناسب لتربية وتنشأة صبي.

“لكن هل هذه الكتيبة موجودة فعلا؟ ثم أنى سمعت أنهم في الحدود الشمالية على خط النار يقصفهم الروس والأتراك، كيف يكون هذا المكان؟” قلت

أخرجت جهاز الآيباد الذي أعطيته لها كمهرها، ثم وصلته بالسماعات، فانبعث صوت الصبي بكار. رصاصة من النور ثقبت أذنى وفجرت دماغى. العالم لم يعد كما كان، سقط “فلتر” رمادى  يغطى رؤيتى لكل شئ حولى. ورددنا عليك بصرك فبصرك اليوم حديد. وحينما استشهدت زوجتى في القصف الفرنسي غادرت بحثاً عن صوت الأمير الصغير.

7

في اليوم الذي وضعت فيه زوجتى مولودنا وأسميناه قاسم، طُلب من الجميع الاجتماع في ساحة المسجد.

صعد الأمير الصغير وتكلم هذه المرة بنفسه ولم يكتف بتلاوة القرآن.

قال الأمير إن حرمة الدم المسلم وعصمته مقدمة فوق كل الاعتبارات. وأتبع هذه الجمل بجمل أخرى متشابهة، وفي النهاية كان الأمر كما يلى. بالاتفاق مع روسيا كممثلة للنظام ومع الفرنسيين والأوروبيين كشهود ووسطاء، تم منح جميع من بايع الأمير بكار عفواً شاملاً، ولا يجوز لأى جهاز أمنى في سوريا ملاحقتهم بأى تهمة. في المقابل فعلى العشيرة أن تسلم كل أسلحتها، وهو ما فعلناه بالفعل، والانتقال إلي أقرب مدينة ومُغَادرة الجبال والأحراش. استغرقت النقطة الأخيرة الكثير من المناقشات والاعتبارات، حيث شرح الأمير وعشيرته أن بيعتنا للأمير لم تسقط، وأننا سنواظب على طقوسنا بل سنزيدها لنكثف الترابط بيننا كمذهب قابل للاستمرار والنمو، لا كمرتزقة حرب تجمعوا للنهب والسرقة.

8

حينما أتم قاسم عامه الأول كنت قد عُينت وكيلاً لوزارة الصحة في المدينةِ. أصبحت مواطناً سورياً الآن. خضعنا لسلطة الأسد وفي المقابل منحنا حق إدارة المدينة طبقا للشريعة الاسلامية من خلال الشرطة التى سيطر عليها أخوة لنا في جمَاعةِ الاعتصام.

نجونا من الهزيمة والمذبحة، واستبدلنا قري الريف والغابات بالمدن الخربة التى أخذنا سريعاً في بنائها وتعميرها، بأموال الغرب وتابعيه من العرب. كانت صورة الأسد تعلو كل مبنى يتم ترميمه، لكن بجوارها صورة أميرنا الصغير بكار. بعض العامة والدهماء ظنوا أنه ابن الأسد، لكن حتى هؤلاء لا يجهلون سلطان جماعتنا على المدينة التي صارت بأكملها في قبضتنا، كأننا ولاية مُستقلة تابعة لحكومةِ فيدرالية.

ذهبت للعمل في ذاك اليوم لأجد وفداً من الاتحاد الأوروبي في مُهمةِ إنسانية كما العادة بمشروع جديد، بيع الأطراف المُستعملة والأعضاء المُصنعة المستخدمة للمواطنين والضحايا وذلك ببرنامج ممول من الاتحاد. تشترى تلك الهيئات الإنسانية “الكلية” الصناعية من أهل الطفل السويدى البائس وتقوم بصيانتها ثم بيعها للمريض السورى. حاولت أن أشرح للأمير كيف أنهم كذابون كفار قادرون على تحويل أى جريمة لفعل إنسانى، وبيعه لنا لكن أهدافهم تظل أبعد. هز رأسه وقال لى ابتسم في وجوههم ولست مُضطر لتنفيذ أى شئ مما يطلبونه، أكد لهم فكرتهم كم نحن همجيون وفاشلون ولا سبيل لإصلاحنا وسوف ييأسون سريعاً ويذهبون ليأتى غيرهم، يبيعون المزيد من السلاح ويقدمون التبرعات الخيرية.

كان قاسم نائماً بين ذراعى، وأنا أتفكر في هذه الدوائر التى تتكرر بلا ملل. في مصيرى كيف بدأت بطموح السفر لأوروبا والعمل هناك وكيف أصبحت مجرد موظف في الجهاز الاداري لحكومة الأسد.

 إن الخير والشر كلبان يطاردان ذيول بعضهما البعض. وأنا الآن أعض ذيلي، بل أمضغه، وما أطيبه من لحم.

قوتنا في أميرنا. في سحر صوته الذي يجعل الجميع يطيعه ويؤمن بكرامته ومُعجزاته. استدعونى لقصره المنيف المقام على الجبل. دخلت الغرفة  بإشارة من يده طُلب من الجميع الانصراف، وحينما خرجوا رحب بي قائلاً:

-السلام عليكم أيها الطبيب الطيب.

حينها عرفت ما هى المشكلة وأى كارثة  حاقت بينا.

انهار التنظيم كله في أسابيع. ضغط عليّ الشيوخ والمستشارون لإيجاد حل لهذه المعضلة، أخبرتهم أن الأوان قد فات. كان من الممكن إخصائه قبل بلوغه للحفاظ على أحباله الصوتيه. أما الآن وقد اكتملت علامات البلوغ عليه بل ومثلما أخبرنى فإنه  احتلم، فلا سبيل لإصلاح الأمر. لقد فقد أميرنا المفدى بكار أبو كف رقيق صوته، وأصبح صوتاً آخر خشناً رجوليا بلا طلاوة ولا حلاوة.

أتى ضابط من أمن الأسد إلي مكتبي في المستشفي، كان عرضه صريحاً مُحدداً. الأمير وجماعة “اعتصموا” انتهت وتتكسر سريعا. لم يعد هناك من يحمينى. إما أن أعود إلي مصر وهناك يراجعون ملفي ويتصرفون بمعرفتهم معى. أو أنتقل للعمل كطبيب في الجيش السوري نظراً لخبرتى الميدانية حيث يمكن أن تكون لى أدوار آخري. طلبت مُهلة للتفكير لكنه قال:

– فقط حتى الغد يا دكتور، في الصباح أمام المستشفي سوف تأتى سيارة خضراء لتقلك، وأنت من سيخبر السائق هل تريد التوجه للمطار ومنه للقاهرة، أم تسليم نفسك للأمانة العامة للقوات المسلحة للجيش العربي السوري العظيم.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون