عبده خال: لا يقرأون الرواية لكونها رجساً من عمل الشيطان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره : علي المقري*

أثارت رواية “ترمي بشرر” كسابقاتها من أعمال الروائي السعودي عبده خال الكثير من الجدل في الوسط الاجتماعي باعتبارها تسرد، حسب البعض، جوانب مخفية أو غير مرئية، لها منحى إشكالي عام. في هذا الحوار يتحدث خال عن الرواية المرشحة لجائزة البوكر العربية، بعد صعودها ضمن الروايات الست في القائمة القصيرة المرشحة للجائزة. كما يتحدث عن هواجس الكتابة وإشكالياتها الواقعية والفنية.

? في روايتك “ترمي بشرر” نجد الذاتي والعام يتلازمان ويتشظّيان في دائرة تبدو مغلقة اجتماعياً، أو أنها في حال بحث عن أفق، على الرغم من حيويتها على المستوى السردي المتعدد من ناس الحارة الشعبية في جدّة إلى طبقة القصور العليا، وما بينهما من صخب في البيوت والأسواق. هل يمكن الحديث عن هاجس سردي اقتضى هذا التلازم؟

 

? النص انفجار لحظات زمنية متباعدة المواقع، فهي انفجار شخوص، وحالات، وتاريخ، وحياة، هي انفجارات متوالية كاستجابة لإشعال فتيل السرد، مما يؤدي إلى إحداث تداعيات متلازمة (مع اختلافها زمنياً)، وعند توقف السرد يتم التقاط الصورة لتثبيت كل تلك الانفجارات.وفي هذه الحال يكون الحكم على الصورة وليس على التفجيرات السردية المتتابعة أثناء السرد.لنبدأ من تقريرية أخرى، وهي أن البوح حديث خارج من أعماق صدر مغلق، يحمل أسراره التي دفنها لزمن ما داخل وجدانه وكان ضنيناً على إخراجها خشية من أن تتعكر حياته، وعندما يقرر إخراجها يكون بفعله هذا يقوم بتوليد عالم مطمور في داخله… أي أنها عملية إحياء موتى، ارتبط بهم، وضمروا ظاهرياً إلا أنهم أحياء في وجدان أو في ماضٍ أو في تسكين حياة، والعوالم المطمورة هي تراكمات من حيوات مختلفة تمسك بالأسماء والمدن والشوارع والحكايات والأسرار والمعتقدات والفضائح، وتنثرها دفعة واحدة لتكتسب وجودها المماثل لزمنية الطمر.. أي أنها تبحث عن حياة طازجة كما لم تطمر من قبل..والحياة هي لحظة انفجار ما يحقق التغير والتبدل، ولكل حياة لحظات زمنية تتبدل فيها لتغير موقعها، يحدث هذا لفظياً (من خلال الأفكار) أو حدثياً (من خلال الأفعال).. وأي لحظة تبدل تقتضي الانفتاح.وفي رواية “ترمي بشرر” حدثت عدة انفجارات من خلال الانفجار (الذاتي) من قبل شخوص الرواية على ما هو عام. كان العري، غير قابل للستر. وعلى مستوى السرد يحدث تسكين للزمن، فيبدو المتحرك ساكناً حينما يتم تثبيت زمن القراءة، هذا التسكين هو إماتة للحدث من قبل القارئ، فيبدو له أن ثمة انغلاقاً حدث حينما توقف تحرك الذاتي في المجموع.. فحركية الذات مقابل صخب الحياة برمتها لا يتم رصده بدقة، كما يحدث معنا حينما لا نستشعر بحركية الأرض، كتلة المجموع الضخمة تسحق بوح الفرد. لكن التسكين يحقق لها فرصة التقاط اندفاعها وانفجارها، ولهذا تبدو جريمة قتل صارخة ومذهلة حينما يتناقلها المجتمع لكن الموت الذي يحدثه المجموع على الفرد الواحد لا نتمكن جميعاً من التنبه له. لهذا يكون السرد ممثلاً للحظة التقاط صورة وثائقية بين انفجارين: أحدهما مدهش والآخر اعتيادي، والسرد في “ترمي بشرر” استهدف لحظة السحق التي نتعامل معها باعتيادية قاتلة. إذن ليس هناك انغلاق سردي بقدر تمتعنا كمجموعة بالانغلاق حيال أي بوح فردي واعتباره أمراً لا يليق بالجماعات الالتفات إليه خاصة إذا كان بوحاً عارياً وقذراً.كلنا يريد أن ينزه نفسه وأن ينسى أنه يتغوط ويتمخط وأنه بذرة ماء اغتسل أبواه بعد زرعه.و”ترمي بشرر” تمزج قذارة النفس حينما تغتسل بالمال والسلطة وتظن أنها تطهرت بهما بينما يكون الواقع أكثر قذارة مما تحمله الصورة. وفي الأصل، وفق النظرة الفيزيائية، تستقبل العين الأشياء مقلوبة فيقوم موقع الإبصار في المخ بإعادة إرسالها إلينا كشكل سوي. “ترمي بشرر” هي التقاط الصورة الخام وتقديمها في أصلها الأولي، ولذلك فصورة النار والجنة جاءت معكوسة كواقع حقيقي قبل تعديلها وبمعنى آخر هي لحظة وقوف على أصل الصورة والإشارة للتزوير الذي حدث لها عند رؤيتها في حالها الأخيرة.

 

قشرة رخوة

? في هذا المنحى، تبدو هذه الرواية وكأنّها وصل لرواياتك السابقة: “الطين”، “نباح” و”فسوق”؛ فهي تشتغل على موضوع بانورامي يمكن أن نسميه (الوطن)، فيه الكثير من الإشكاليات الاجتماعية المتحولة والمضطربة ضمن هويات متعددة تبحث عن ذواتها، كأن الرواية صارت ذاكرته المتناسخة وتاريخه المعيش؟

? أحداث الرواية، أي رواية، تبدو ظاهرياً كنجوم ثابتة في مواقعها، فنسترشد بها (أنت كقارئ) بحثاً عن الجهة التي ترغب السير إليها، لذلك تجد مسميات الأنجم ثابتة، وأن هذا يقود إلى الشمال وذاك إلى الغرب، بينما شخوص الرواية نجوم مضللة، ألزمها الروائي موقعاً لا يشير إلى الجهة التي يقصدها القارئ ثمة ألاعيب وأحجية سردية، إن لم تتنبه لها تقودك إلى ضلال، تلك الأحاجي تحدث أثناء الكتابة بين الراوي وشخوصه، وجلب شخصيات هامشية في مواقع ليست مواقعها ربما تقود إلى جهات غير أصلية. لذلك فالنص كائن يحمل روحاً ساخرة، يضحك من كل شيء، ويتخفى ويظهر، ليحدث مفارقته الساخرة. وشخوص رواية “ترمي بشرر” هم في حال انفجار داخلي، تسربت حممهم بالتقاء طبقات متحركة مع قشرة رخوة، فحدث الانفجار الذي سكن بفعل الكتابة كتهذيب لإخراج كل تلك القذارات. الكتابة تقتل الروح بتأنقها المفرط. شخصية طارق لو لم تكن مكتوبة لما قبل بها شخص ما يدعي الفضيلة، هي شخصية شبيهة بمن يعرف أسرارك الداخلية وتخشى من هذه الشخصية إن هي تحدثت تعريك، فتحجبها أو تلغيها. وكلنا يستتر بقفص صدري كي لا تتساقط قذارته.

 

? قوبلت “ترمي بشرر” كسابقاتها بموجة من ردود الفعل الاجتماعية، الدينية خصوصاً. وما يلفت أن البعض اعتبرها تشويهاً للمجتمع، أو أنّها لم تنقل الجانب الإيجابي فيه. كيف تتفهم كتابة الرواية في ظل مناخ لا يسمح لك بكتابة رواية لا تتوافق مع الواقع واشتراطاته، بل إنّه يستبعد فكرة أن الكتابة الروائية عمل فني متخيل وليست واقعاً تماماً؟

? قبل الشروع في الإجابة علينا معالجة مقولة أن الكتابة الروائية عمل فني متخيل وليس واقعاً تماماً، فهذه المقولة هروب بالنص وبالروائي من نطع الحانقين وإبعادهما عن مقصلة الاعتراضات التي ترفع على الكاتب، وهو تهريب ينقص من قيمة الرسالة الإبداعية للفن، وتحويله إلى تجارب مخبرية ذهنية أحدثها الكاتب بعيداً عن الواقع، وفي هذا جزء من حقيقة إلا أن العناصر التي خضعت إلى التجارب المخبرية (الكتابية) هي منتج واقع صرف (وهذه حقيقة أيضاً)، ومن الحقيقتين لا يمكن تصفية النص من شوائب الواقع، ولا يمكن عزل الكاتب عن واقعه، بوضعه في حال هذيان كتابي بحيث يلد نصاً بعيداً عن واقعيته.

كما لا يمكن الابتعاد عن تاريخية وزمانية المكان واللغة معاً، فاللغة تحمل تاريخها وكذلك المكان، ويصبح الانفلات تماماً من هذه العناصر مستحيلاً في النص المشتغل على واقع بعينه، ربما يحدث هذا الهروب في أدب الخيال العلمي، لبعض الوقت، غير أن النص الروائي ينطلق من تاريخية، مشتملة على الزمان والمكان والمؤثرات التي تولد أحداثها.ولأننا غير موجودين في التاريخ الرسمي كشخصيات صانعة للأحداث، فإننا موجودون (كمجاميع) داخل الروايات نصنع تاريخاً موازياً. الرواية جاءت لتكتب تاريخ الناس.انشغلت بغياب المجموع عن التاريخ الرسمي من خلال جملة كتبتها في إحدى القصص التي كتبتها مبكراً والتي تقول: “إن حصان المعركة لا يتذكره التاريخ.. ونحن الأحصنة التي نسيت التاريخ منذ القدم”. بعد هذا نأتي لردود الفعل الغاضبة، الواردة في السؤال، أنت تعلم يا علي أن من يدخل (عش الدبابير) عليه أن يتحمل اللسع. والمعارضون الذين يدخلون إلى الرواية، لا يأتون من الأبواب، هم يقفزون على الأسطح أو يتسللون من النوافذ، أو يتطلعون من ثقب الباب. والتلصص لا يمكّن المرء من رؤية المشهد كاملاً، وحضورهم في كل الحالات حضور جزئي أشبه باللصوص الذين يسطون على بيت آمن، فيأخذون منه ما خف وزنه وفحش معناه. هم لا يقرأون، ولهم مندوبون يجتزئون مقولات من داخل الروايات أو دواوين الشعر أو كتب النقد الثقافي. ويتم تعميم تلك المقولات لتصبح حاضرة على لسان أي معترض. أضرب لك أمثلة:الرجل الذي طعن نجيب محفوظ لم يقرأ حرفاً له، من خرج في تظاهرة رواية “وليمة لأعشاب البحر” لا يعرف لماذا خرج ولم يقرأ لحيدر حيدر أي عمل أدبي بما فيها الرواية التي خرج معترضاً عليها، ومن خرج مطالباً بحرق ألف ليلة وليلة لا يعرف أن ألف ليلة وليلة سفر حكائي عبر الزمن، ومن قتل فرج فودة لم يقرأ حرفاً واحداً لفرج فودة، ومن يهاجم تركي الحمد لم يكمل رواية واحدة لتركي الحمد، ومن كفر الدكتور عبد العزيز المقالح لا يعرف هل المقالح شاعراً أم ناقداً. هم نسخ معادة لمن وقف ضد طه حسين ومحمد عبده وجمال الأفغاني وقاسم أمين وزَنْدَق ابن رشد وابن عربي. هؤلاء يقفزون على الأسطح ويتسللون من النوافذ ويسرقون المقولات من سياقها ليؤكدوا بها وجهة نظرهم. يستحلون البيوت الآمنة، بحجة أن بها طائراً يغني، ولأن الغناء حرام لابد من نسف الحياة برمتها.

 

الفوضى أساس

? في رواياتك السابقة هناك تعدد في أشكال السرد، فإذ تتجاور اللغة الشعرية باللغة الصحافية تلاحظ تقنيات يتعدد فيها الراوي وشكل روايته: من سرد جمعي إلى استرجاع تذكّري، إلى مقتطف في تقرير أو رسالة، أو فقرة لفكرة. مع بناء فني للشخصيات تبدو فيه وكأنّك قد رسمتها على هذا النحو: مختلفة ومشوّهة ومضطربة كحالها المسرود. هل “ترمي بشرر”، في فضائها الجديد الذي لم يتخل عن هاجس التجريب وخبرته، جاءت كاختزال مكثف لتجربتك السردية التي تشمل ست روايات وست مجموعات قصصية؟

? “ترمي بشرر” عتبة جديدة وضعت قدمي عليها وهي في نصف السلم، سأرتقيها لعتبة تليها. كل تجربة روائية أكتبها لا أعود إليها، ولا اعتقد أن “ترمي بشرر” هي عتبتي الأخيرة والتي استجمعت قواي كي أبين فتوتي ووفرة نشاطي بالوقوف على هذه العتبة.تعلمت أن لا أنظر إلى المسافة التي قطعتها بل إلى ما تبقى من مشوار طويل عليّ إنجازه في عمر قصير. وكل الطرق الكتابية التي سلكتها تفضي بي إلى عوالم روائية تستصرخ بي لإخراجها من رقدتها، عشرات الشخصيات التي عبرتها أو عبرتني تستهوي أي كاتب لأن يجالسها في رحلة كتابية توصل إلى المدهش. وكل شخصية هي مترعة بأساليب سرد جديدة.حينما كان الخليل بن أحمد يسير في الطرقات ويسمع الشعراء، كان يشق بحوراً ليتعرف إلى مسالك الشعراء وظن أنه حصرها لكن الروح البشرية لا تقبل بالقيد أو التقعيد. وكذا الفن لا يمكن تأطيره ولا يمكن أيضاً أن تتشابه الخطوات حتى للفرد الواحد.وفي سيري لا أبحث عن تقيد الشخوص بأشكال كتابية سابقة، أبحث عن فضاء يحرر الشخصيات من النص المقيد. في رواية “الطين” كسرت السرد عنوة، وفي “الأيام لا تخبئ أحداً” جعلت الهامش هو المتن، والمتن هو الهامش، وفي “الموت يمر من هنا” كانت الاستهلال هو النص، وهناك طرق مختلفة في بقية الروايات والقصص القصيرة. بمعنى أن الروح لا تقبل بالسجن، فإذا سجنت في الجسد فإنها تتسلل منه ليلاً كي تبحث عن فضاء متسع. والنص الروائي مجموعة أرواح تأتي إليه هاربة من حياتها الواقعية وباحثة عن فضاء يتسع لتمددها. فإذا ضاق النص الروائي بزفرات شخوصه سقط. لذلك على النقاد أن يتنبهوا لفوضوية السرد عند بعض الروائيين فربّما تكون الشخصيات في حال ثورة ينظر لها النقاد كمفتش وزارة التربية والتعليم حين يخاطبون المعلم أن فصلك غير منضبط. فأحياناً كثيرة تكون الفوضى هي الأساس وليس الانضباط، ويخطئ من يظن أن الحياة منضبطة، هي منضبطة من خلال ميزان نضعه لأنفسنا كي لا نرتج من تقلباتها المستمرة.. فليس هناك انضباط داخل النص الروائي إلا كما نضبط أنفسنا لكي تستقر الحياة بالنسبة لنا. وعلى الروائي ألا يقبل بوظيفة الخياط التي يعرضها النقاد في بعض الأحيان حين يطالبون بأن يكون العمل الروائي يتماشى مع مقاييس نقدية مؤسسة نظرياً قبل النص.

 

? القارئ لرواياتك سيلاحظ الحضور اللافت للموت والمقبرة، فالشخصية الرئيسية في رواية “الطين” يجيء من الموت ليتكشّف ماضيه أمام الطبيب النفسي الذي راح يبحث عنه، كذلك تهرب (جليلة) في رواية “فسوق” من قبرها لتصبح سؤال الرواية. هل لديك هاجس رؤيوي في هذا المنحى، أم أنّه موت معيش، موت اجتماعي وفردي؟

? ربما كان اسم الرواية الأولى (الموت يمر من هنا) هي الحبل السري الذي يجذبني به المتحاورون مع تجربتي الكتابية. لكن عملي في جدلية متواصلة مع الموت كلفظة حاوية لكل شيء بما في ذلك الحياة نفسها. والموت عندي ليس موت الجسد، فهذا حدث عابر لا يلغي العمق لمفردة الموت. نحن ككائنات نحضر فترة وجيزة من الزمن وندعي أننا عشنا هذه الفترة فقط بينما نحن موجودون في أول التاريخ وآخره، أي، وجوداً متواصلاً لا انقطاع فيه، والذي يختلف هو حال الوجود، والوعي، والكيفية. ربما كانت رواية “الطين” هي إبحار حقيقي نحو هذا الجبل الجليدي من الأفكار غير المطروقة، ومع أن الرواية جمعت بين الحكائي والفلسفي في تجاذب لشهية القارئ، انتصر فيها الفلسفي على الحكائي.. فالرواية تقع في أكثر من 400 صفحة، تم إنهاء الحكاية في منتصف هذه الصفحات، وأعلن الراوي انتهاء الحكاية، وأن ما تبقى من صفحات هو إبحار مع الأفكار، فاستجاب كثير من القراء لتلك المواصلة. بمعنى أن موات اللحظة يمكن لها أن تنبثق في شكل آخر ووعي آخر. هذا على مستوى القراءة، وهناك مستويات متعددة لمقدرتنا على كسر الموت كحالة فناء، ولأنني أؤمن أن ليس هناك فناء أجدني أتنقل في كل زمن محاولاً تلبس وعي يقربني من حياة أخرى.

 

? قلت مرّة أنك “يتيم من صرامة الرجال”. هل هذا اليتم كان وراء الحضور المكثف للمرأة في أعمالك، إلى جانب الموت ورجل الدين والسياسة، على الرغم من أنها تبدو شبه مغيّبة في الفعل الاجتماعي؟

? المرأة هي الحكاية وليس الرجل. منذ الأزل والمرأة تخلق المفارقات لتمكن الحياة من الجريان، ولولاها لتوقف الخلق عند سجود الملائكة لآدم، وانتهت الحكاية. حواء هي التي صنعت الحياة. ولذلك وعندما تعيش في حضن هذه الحضانة الكبيرة للحكايات، ستجد نفسك ترضع الحكاية بأساليب وطرق مختلفة. هذا على مستوى الوجود للمرأة، أما أن تكون حاضرة أو غائبة في نشاطات مجتمعها فهذا ليس إلغاء لوجودها الحكائي فحتى غيابها المعيشي يمكن أن يكون محركاً للنص في سكونها. وأعتقد أن تهميش المرأة اجتماعياً يقود إلى خلق نصوص جاذبة، أولاً لكون هذا التهميش يشير إلى المكان، ومن ثم تتساقط حبات السبحة، فسكونية المرأة تولّد حكايات لا تكتب إلاّ في بيئتها وبالتالي تخلق نصاً لا يستطيع أن يكتبه شخص آخر لا يشاركك ظروف المكان نفسها.

 

تحريم كتابة القصة

? كثيراً ما تنشر الصحف السعودية والمنتديات والمواقع الإلكترونية اعتراضات من رجال دين على بعض ما ورد في رواياتك، ومن ذلك تصويرك لشخصية رجل الدين في المملكة، وفي ندوة عن كتبك قال أحد الشيوخ محدداً علاقة الرواية بالدين: “إن الواجب علينا الدفاع عن الدين وحينما نقرأ بعض الروايات نمعن النظر بمحتواها فإن وافق ديننا وافقنا كاتبها، وإن كان ما فيها يخالف ديننا ناصحنا كاتبها فإن لم يستجب عاقبناه بالطرق النظامية والشرعية”. كيف تقرأ مشكلة العلاقة بين الرواية، كفن من الفنون، وبين رجل الدين؟

? رجل الدين، كما قلت، لا يقرأ الرواية، إما لكونها رجساً من عمل الشيطان أو لكونها محرمة، صدرت فتوى بتحريم كتابة القصة، أو لكونها سياقاً من الأحاديث الكاذبة، وكل هذه المسببات التي يراها رجل الدين هذا، تحرم حكمه من الصواب.وتصبح أحكامه مستقاة من المقولات المجتزأة من الرواية أو عن الرواية، وهو حكم لا يعتد به.كما أن جل رجال الدين ليس لديهم الدربة في قراءة الرواية والمفاهيم الحديثة لدور الرواية، فهم يعتبرونها من سقط الدب وأن ليس بها من فائدة تذكر، ومن يقرأ في الرواية منهم يحاكمها محاكمة أخلاقية (من خارج النص) بينما أخلاقيات الفن تنبع من داخل النص وليس من خارجه.هذا الارتباك في مفهوم الفن يجعل رجل الدين شخصاً طارئاً على العمل لا يمكن له أن يتأمل معه متذوقاً أو باحثاً أو (…) ولو افترضنا أن الرواية هي تجسيد للحياة فلا يمكن لها أن تكون شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً، ولو أن رجل الدين انطلق من هذه الركيزة فسيجد في الرواية، أي رواية، تحقيق شرط الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* على المقري : شاعر وناقد من اليمن

* عبده الخال :ولد الروائي والقاص السعودي في إحدى قرى جازان (المجنة) عام 1962، وقبل أن يحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية جامعة الملك عبد العزيز عام 1987 كان قد بدأ اشتغاله بالصحافة عام 1982 وهو حالياً يدير تحرير جريدة عكاظ في جدة، ويكتب فيها عموداً يومياً يثير فيه الكثير من المشاكل الاجتماعية. خال الذي يشارك بنشاط ملحوظ في التجمعات والمناشط الأدبية ويدخل في سجالات واسعة مع رجال الدين في بلده لم يشغله ذلك عن الكتابة الأدبية، التي صيرها بعض هذا السجال، فأصدر العديد من المجموعات القصصية، منها: “حوار على بوابة الأرض”1984، “لا أحد”1986، “ليس هناك ما يبهج”، 1988، “الأوغاد يضحكون” 2002. ومن رواياته: “الموت يمر من هنا” 1991، “مدن تأكل العشب” 1998، “الأيام لا تخبئ أحداً”‏2000‏ ، “الطين”، “نباح” و”فسوق”. ترجمت له العديد من القصص، وبعض فصول الروايات، إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية. وتم تكريمه في عدد من المهرجانات والفعاليات الأدبية. روايته الأخيرة “ترمي بشرر” صعدت إلى القائمة القصيرة المرشحة لجائزة البوكر العربية التي ستعلن لجنة التحكيم اسم الرواية الفائزة بها في 2 مارس المقبل في

أبوظبي. وجاء في قرار ترشيح الرواية إلى القائمة القصيرة من قبل لجنة التحكيم: “يأتي قص الكاتب السعودي عبده خال حاملاً تكملةً لعنوان الرواية: ترمي بشرر “كالقصر”، قصر بهيج هو جنة جحيمية، ترمي بشررها على جحيم الحارات البائسة في جدة، فيمتد الحكي جسراً بين عالم سيد القصر ومن تحولوا دمى بشرية وعبيداً، من اجتاحهم القصر وسلبهم بحرهم وقوارب نجاتهم. رواية ساخرة فاجعة تصور فظاعة تدمير البيئة وتدمير النفس بالمتعة المطلقة بالسلطة والمتعة المطلقة بالثراء، وتقدم البوح الملتاع لمن أغوتهم أنوار القصر الفاحشة فاستسلموا إلى عبودية مختارة من النوع الحديث”

مقالات من نفس القسم