طارق إمام: “ضريح أبي” نبعت من الثقافة الشعبية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: أحمد عبد اللطيف

كثيراً ما سألت نفسي: لماذا يبحث شخص ما عن ولي؟ عن “واسطة” بينه وبين الله؟ لأنه، مهما بلغت درجة إيمانه، تفصله مسافة ضرورية كإنسان، كيان مادي متجسد، عن الإله، كمجرد بعيد.

منذ عدة أيام، عاد الروائي المصري طارق إمام من رحلته إلي إسبانيا بعد أن تسلم جائزة “متحف الكلمة العالمية” في القصة القصيرة جداً عن قصته “عين”، وهي الجائزة التي تأتي بعد عدد آخر من الجوائز التي حصدها خلال مشواره الإبداعي، ومن بينها جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة ساويرس التي فاز بها مرة عن رواية “هدوء القتلة” ومرة عن مجموعة “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها”. لكن جائزة “متحف الكلمة” لها مذاق خاص، يقول إمام”لأنها جائزة دولية مفتوحة علي أربع لغات ولها قيمة كبيرة لديهم”. ويحكي: “أتيحت لي نقاشات جيدة حول كتابتي بشكل عام مع كتاب ومثقفين وصحفيين من بلدان عديدة، خاصة أن القصة كانت متاحة للقراءة بعدة لغات ترجمت لها”.

طارق إمام يعيد كتابة رواياته كثيراً، يعمل بروتين يومي قاس، يتفرغ تقريباً للكتابة والقراءة والنقد، يدور في فلك الأدب كليةً، ولذلك يواصل السير في طريق خاص اختاره لنفسه في الكتابة، هو الطريق الأصعب، يتنقل من نشأة الكون في “شريعة القطة” للقاتل المتسلسل في “هدوء القتلة”، للسيدة الأرملة المهووسة بكتابة الرسائل الغرامية في “الارملة تكتب الخطابات سراً”، ثم يصنع عمله الكبير والضخم “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” الذي يعد علامة في تاريخ الرواية العربية الحديثة. ثم ينتقل لمكان جديد في تجربته في عمله الأخير “ضريح أبي” حيث الغوص في الثقافة الشعبية.

 يقول إمام:”سؤال الثقافة بشكل عام يشغلني في الكتابة الروائية، مثلما يشغلني خارجها، وربما لذلك أعتقد أن التفتيش في الثقافة سؤال لصيق بطبيعة الفن الروائي، وهو في ظني سؤال قادر علي استيعاب تعقيد الواقع من خلال التقليب في تناقضاته بدلاً من الاكتفاء بنقلها روائياً عبر المحاكاة، لأنه وإن كان ينبع من المعيش إلا أنه يكثف أسئلته ويذهب مباشرةً إلي الأفكار، هنا بالتحديد تنتفي المسافة المصطنعة بين الواقع والخيال”، ويضيف:”ضريح أبي نبعت بكاملها من مناخات الثقافة الشعبية، بدءاً من طبيعة الحكاية وشخوصها وحتي الأفكار التي تطرحها ومنها علاقة الواقع بالخيال، وهو سؤال فني بامتياز فضلاً عن جانبه المعرفي، وصولاً لشكلها الفني الذي يمتح بدوره في عدد من جوانبه من أدبيات الحكي الشفاهي والحكاية الخرافية والموروث الحكائي العربي”.

يحلم صاحب “ضريح أبي” منذ فترة بعيدة “بكتابة رواية يكون الخيال الشعبي عمودها الفقري، تستفيد لغوياً من أدبيات الحكي الشفهي كما تتصل ببعض خصائص السرد العربي في خصوصيته مثل ألف ليلة وليلة مثلاً”، ويضيف:”في القلب من سؤال الثقافة يقع سؤال اللغة نفسها كحاملة لها”. هذا الشغف أنتج القماشة العريضة التي “نسجت منها الرواية، والتي كانت مشروعاً حكائياً جربت عدداً من تفاصيله في عدد من الحكايات، منها “العجوز الذي أغضب الموت” (2006) وهي الحكاية التي تعد خطة عامة للرواية تضم أبرز الشخوص والحبكة الرئيسية، ومن بعدها “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها”.

يواصل إمام:”الشغف بالحكاية كان ملتبساً بشغف يخص سؤالاً ملحاً حول طريقة المصريين الإبداعية في تحويل الدين لطقس دنيوي، ما أنتج ما يسمي ب”الدين الشعبي”، إنه تفكيك فطري للكليات والمجردات وهي طريقة لتقريب المفارق من المعيش، وفيها أعظم رهان لتحويل الخيال إلي واقع والعكس، إنه من جديد سؤال فني أيضاً بامتياز”، ويضيف:” المسافة بين المطلق والنسبي كانت دائماً سؤالاً جرت الإجابة عليه في الجانب الاستعمالي للدين لدي الوعي الجمعي حتي تمت أنسنته علي مر العصور، وكثيراً ما سألت نفسي: لماذا يبحث شخص ما عن ولي؟ عن “واسطة” بينه وبين الله؟ لأنه، مهما بلغت درجة إيمانه، تفصله مسافة ضرورية كإنسان، كيان مادي متجسد، عن الإله، كمجرد بعيد”. يقول إمام إن هذه المسافة نفسها هي ما “تخلق الحاجة لحالة وسط بين إنسانية الفرد والمطلق، خاصة أن الدين الإسلامي ينكر التجسيد، لله والأنبياء والرسل وحتي الصحابة، لكن عندما يتحول ذلك بجرة قلم إلي “بدعة” أو “طقس وثني”، فإنه يصير انتقاماً من الإنسان وليس انتصاراً للإله، من هذه الأسئلة مجتمعة بدأت تتشكل فكرة “ضريح أبي” إلي أن وصلت لشكلها النهائي.”

تقوم تقنية الرواية الأحدث لطارق إمام علي التشظي، علي الحكايات المتناثرة داخل إطار سردي هو الطريق للوصول للأب، يقول:” لا أستطيع تخيل البنية السردية بمعزل عن الأفق الدلالي نفسه أو وجهة النظر أو مجموع الأفكار التي يبغي الكاتب طرحها بطريقةً ما، فالبنية ليست محض معطي شكلاني أو تكويني، لكنها، في ظني، جزء من عملية إنتاج الدلالة نفسها”. ويضيف:” البنية هي الكيفية التي عبرها يمكن توصيل العمل في صورة ما دون غيرها، وتغيير البنية يتبعه بالضرورة تغيير في وجهة النظر نفسها، وبالتالي فالبنية السردية ليست أبداً قراراً سابقاً علي العالم المحكي، بل تنبع منه، من ضروراته”.

وكيف تنظر للإحكام في البنية؟ يقول إمام:”الإحكام في ظني ليس حكراً علي بنية دون أخري، ولكن كل بنية يمكن أن تكون محكمة أو لا، حتي الأدب القائم تماماً علي التشظي يخلق بنية خاصة، يمكننا الحكم عليها من داخل شروطها، وفي “ضريح أبي” نبعت البنية من طبيعة العالم، فالأب (الولي) ذلك المحرك للعالم رغم أنه ميت، والحاضر كسلطة مهيمنة رغم غيابه، تقوم حكايته الكبري في الحقيقة علي المحكيات الصغيرة التي تغذيها لتدعم حضوره أو لتقوضه.. بالتالي فهو حكاية إطارية تكتسب كليتها في الحقيقة من نسبية الحكايات الصغيرة التي ترفدها دون هوادة. التقنية هنا كما أتخيل أوجدتها طبيعة الحكاية”.

يضيف إمام:”علي مستوي آخر، تقوم الرواية علي رحلة عمرها يوم واحد، وطبيعة الرحلة تقوم علي الحكايات المتتالية، التي تسلم الواحدة منها الأخري، بحيث لا تتطور حكاية واحدة في مسافة زمنية طويلة، بل تبدأ كل حكاية وتنتهي بحدثها وشخصياتها في حيز زمني ضيق لتتولد من داخلها حكاية جديدة بشخوص جدد، وهي تقنية مستلهمة من “ألف وليلة وليلة” أراها أيضاً تتسق مع طبيعة الحكاية نفسها”.

في “ضريح أبي” يجمع الراوي ما بين لغة شعرية محملة بالدلات والعمق والتأمل، ولغة سردية تقف عند سرد الحدث، واللغة الثانية تحديداً جديدة علي كتابة إمام، يقول:”إذا كان الأدب في الحقيقة رؤية لغوية للعالم، فإن اللغة في الأدب تتجاوز غرضها الاستعمالي لتساوي الرؤية”. ويضيف:” تكوين الرواية لغوياً قائم علي هذين المنحيين، بين تأمل الابن لطبيعة مأزقه الوجودي، وبين رحلة الابن السردية التي يخفت فيها التأمل لصالح الانغماس في التجربة، فثمة شخص ممزق بين الأفكار والواقع ينبغي علي

اللغة أن تجسد تمزقه، ومن هذين الخطين جاء المستويان الرئيسيان للغة، دعمهما مستويان آخران: الحكايات الصغيرة القادمة من الوعي الجمعي بأسطورة الأب وحقيقة موت الأم، واستخدمت فيها لغة أقرب للحكي الشفاهي، ومشهد الأب الطويل وهو يحتضر، وفيه يحضر صوته ملتبساً بلغة صوفية شعرية تعكس خطابه، وتكثف تصوره النهائي عن العالم في لحظة الفناء، حيث يساوي فناؤه فناء العالم نفسه”.

تدور الرواية بين البحث عن الأب الذي يمثّل الإله ربما، وبين البحث عن الأم التي ربما تمثل الحياة، دون أن ينتصر أحدهما علي الآخر، يقول إمام:” لأنني لم أكن معنياً بالانتصار قدر عنايتي بتقليب تناقض موروث علي أوجهه: حيث لا تستقيم الدنيا، ولاحظ أن المفردة لغوياً قادمة من الدنو المناقض للرفعة، مع الفردوس، عليك أن تختار أحدهما مثلما عليك أن تختار بين الولاء لأبيك أو أمك رغم أنك نتاج الاثنين معاً. فالابن لن يعثر في نهاية المطاف علي أمه التي ظلت رحلته تقربه منها حتي ظن أنه علي وشك رؤيتها، كما أنه عندما أوشك علي رؤية أبيه للتأكد من وجوده كان الضريح قد بدأ يتهدم”. يضيف:” الحقيقة الوحيدة في النهاية هي حصوله علي ابن زنا من خادمة الضريح، قبل أن يموت يتيماً كما ولد، لتبدأ الحكاية نفسها من جديد، وكأن التاريخ يعيد نفسه بفعل الآلة الهائلة للقدر. ربما علي مستوي أعمق، كان يلح علي سؤال أثناء الكتابة: في واقع كالذي نحياه، هل نعثر حقاً علي السكينة؟ هل تمنحنا طبيعة حياتنا عزاء؟ وهل يمنحنا الاتصال بالميتافيزيقي سلوي؟ في الحقيقة كلاهما يحيل في النهاية للخواء نفسه، كما أري أن أي ثنائية تنتهي في الحقيقة لتقويض طرفيها بدلاً عن الانتصار لأحدهما”.

وأمام هذا العالم المتناقض، وأمام عبثه، تبدو هشاشة الإنسان، وتأتي الاسئلة الوجودية لتعريه تماماً أمام نفسه فيكتشف ضعفه، ربما لذلك تعد “ضريح أبي” أكثر روايات طارق إمام كشفاً لهذا الضعف، يقول:” أعتقد أن الرواية فن الإنسان في هشاشته، عي العكس من الملحمة التي كانت تنهض علي البطل الاستثنائي أو الخارق”. يضيف:” لماذا استمرت الرواية واختفت الملحمة؟ لأن الإنسان الذي نشأت من أجله الملحمة لم يعد موجوداً، وبالنسبة لي، كل فكرة لرواية جديدة أفكر في كتابتها تطرح شخصاً أكثر هشاشة من سابقه، كأنها رحلتي الشخصية نحو الاعتراف بالضعف والحيرة مرة بعد أخري.

يواصل إمام:”في هذه الرواية مثلاً لا يحمل البطل اسماً بالأساس، ولا أوراق هوية. فكرت بعد أن انتهيت من الرواية أن أمنح بطلي اسماً، لكني لم أستطع. ربما في هذه اللحظة أدركت كم هو هش ذلك الشخص حتي أنه يرفض الحصول علي اسم!

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم