طارق إمام: أريد أن أصبح مطرب روك.. وسأصطحب سلمى حايك معي

أبناء الجبلاوي المتخيل المحفوظي كواقع روائي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: موقع الكتابة

يعرف طارق إمام أين توجد "الخلطة السرية" للكتابة، يعرف تفاصيلها جيداً، وطرق إعدادها، كيف يحولها إلى قصة، أو حكاية، أو رواية، أو قصيدة شعر. ربما أدرك الأمر عندما أصابه مس الكتابة حين كان طفلاً، ورغم أنه لا زال في السنة الأولى من الأربعينات، إلا أنه يقف على "ربع قرن" من الكتابة. خمسة وعشرين عاماً كاملة. ربما يبدو "الرقم" مفاجئاً له شخصياً، لكن الأكيد أنه يعرف أنه خلال هذه السنوات الطويلة استطاع أن يحفر اسمه بارزاً بمشروعه الكتابي، بتجربته اللافتة، بطريقه وطريقته الخاصة في الكتابة. هنا حوار حول هذا كله.

حاوره: موقع الكتابة

يعرف طارق إمام أين توجد “الخلطة السرية” للكتابة، يعرف تفاصيلها جيداً، وطرق إعدادها، كيف يحولها إلى قصة، أو حكاية، أو رواية، أو قصيدة شعر. ربما أدرك الأمر عندما أصابه مس الكتابة حين كان طفلاً، ورغم أنه لا زال في السنة الأولى من الأربعينات، إلا أنه يقف على “ربع قرن” من الكتابة. خمسة وعشرين عاماً كاملة. ربما يبدو “الرقم” مفاجئاً له شخصياً، لكن الأكيد أنه يعرف أنه خلال هذه السنوات الطويلة استطاع أن يحفر اسمه بارزاً بمشروعه الكتابي، بتجربته اللافتة، بطريقه وطريقته الخاصة في الكتابة. هنا حوار حول هذا كله.

1

_ هل قصد طارق إمام في “مدينة الحوائط اللانهائية” أن يكتب ألف ليلة وليلة الخاصة به؟

_ ثمة كتب لا سبيل أمام قارئها لامتلاك نسخة منها إلاَّ بكتابتها. تملك “ألف ليلة وليلة” تلك القدرة المذهلة على إقناعك بإمكانية أن تمتلك نسختك منها، ليس كقارئ، إنما ككاتب. تفعل ذلك بكل تواضع وبإقناع رغم بذخها الحكائي وبنيتها الفريدة. تداعب غرورك، وفي الغالب تفعل ذلك لكي تقتلك، لكي تنهيك من حيث تدعوك لأن تبدأ. بالتأكيد كنت أطمح في كتابة “ألف ليلة” خاصة بي، نسختي الخاصة من الليالي، كمؤلف، إن جاز التعبير، بعد أن امتلكتها طوال عمري كقارئ.

“ألف ليلة وليلة” أيضاً ليس من تلك الكتب التي تغري بتقليدها أو محاكاتها، بل بمعارضتها، فهو يجعلك تبحث عن حكايتك لا عن إعادة تدوير حكايته. أنا أحد من قرأوا الليالي في أطوار حياتهم كلها، قرأتها ملخصة للناشئة وأنا طفل، وقرأتها منقحة في مراحل تالية، قبل أن أقرأها كاملة. من بين جميع الكتب التي قرأناها، يتمتع “ألف ليلة وليلة” بتلك الميزة التي يرغب فيها كل كاتب وإن لم يعترف بها: أن يكون مجهولاً، وأن يصير قراؤه هم أنفسهم مؤلفو كتبه. “ألف ليلة”، ابن ثقافتنا مجهول الأب، الكتاب الذي كتبه الجميع، وبالتالي الكتاب لم يكتبه أحد. لم تغادرني هذه الفكرة يوماً منذ بدأت أكتب، أن أكون مؤلفاً مجهولاً لكتاب يوزع نسبه بين الجميع، كتاب يكون قابلاً لأن يُكتب من جديد إلى ما لا نهاية. الحكاية وحدها تملك القدرة على أن تفعل ذلك.

_ لكن بناء المجموعة يتشابه إلى حد كبير مع ألف ليلة وليلة، بداية من التصدير “بلغني”، إلى القصص المترابطة المنفصلة؟

_ نعم التقطتُ من ألف ليلة وليلة مفردته الأساسية “بلغني”، وكذلك استلهمتُ بنيته في وجود حكاية إطارية تتوالد منها الحكايات لتحظى كل منها باستقلالية حكائية دون أن تشرد عن مناخ يشدها إلى بعضها بخيط طائرةٍ ورقية. فعلتُ ذلك لأنني وجدتني أمام كتاب يريد ذلك، نحن لا نقلد الكتب التي قرأناها أو أثرت فينا، لا نستدعيها عن عمد، بل تستحضرها ذاكرتنا القرائية بشكلٍ لا واعٍ ونحن نواجه نصنا الخاص، وهذا في ظني الدور الجوهري للكتابة: مجادلة كافة النصوص التي شكلتنا لحظة الكتابة لتصبح جزءاً من تصور جديد. كل كتابة جديدة يجب أن تكون نجاة لكتابة سابقة.

“ألف ليلة” أيضاً أقوى كتاب يردك إلى “حيرة النوع”، والتي نظن، نحن الكتاب المعاصرين، أنها حيرة طارئة تسبب فيها تعقيد خارطة “النوع” وانفلاته عن الأطر المرعية. ألف ليلة رواية موزعة على حكايات، أو حكايات تؤلف رواية نهائية، ولم يسأل واحد منا نفسه عن “تصنيفها” لأنها استطاعت أن تعبر هذا ببنيتها الفريدة، وهي نفس بنية “مدينة الحوائط اللانهائية”، التي وضعته في حيرة التصنيف لدى النشر، والتي دفعت عدداً من القراء فضلاً عن بعض الكتاب والنقاد للتأكيد بأن “مدينة الحوائط اللانهائية” هي روايتي السادسة وليست كتابي القصصي الخامس.

_ هذا يطرح سؤالاً، حول الكتابة الكلاسيكية، أقصد التي تأخذ سمت النصوص الكلاسيكية

_ هناك فارق بين محاكاة نص كلاسيكي أو إعادة استنساخه، وبين معارضة نص صار جزءاً من ذاكرة القراءة لينتمي لحاضر الكتابة في نص جديد. إنه “حوار” أو “جدل” يقوم على “تقليب تربة” النصوص التي كتبتنا، إن جاز التعبير، للخروج بنص جديد. موروث الأدب والفن كله كان، وسيظل، موضوعاً متجدداً للكتابة، فكر معي: كم عملاً فنياً، من النحت للموسيقى للأدب للفن التشكيلي، أعاد قراءة (نصوص العالم) من الميثولوجيا الإغريقية وقصة الخلق حتى دون كيشوت وروبنسون كروزو إلخ؟ إن النصوص تصير بعد قليل مواضيع لنصوص أخرى، لا لتحاكيها بل لتتعامل معها كـ”مادة” متجددة للأدب. أحياناً يكون “واقع” النص الأدبي، نصاً آخر، يكون هو مادته وموضوعه، وبهذا المعنى فالأدب لا يكتب الواقع بالضبط، بل يتصل بصورة الواقع أو انعكاسه كموجود دال وليس كمعطى يفتقر للدلالة، والنصوص من مكونات هذه الصورة. لذلك شكل “مدينة الحوائط” النابع من ألف ليلة هو نفسه رؤية الكتاب، أو رؤيتي للعالم كمجموعة من الحكايات تخرج من رحم بعضها لتؤلف رواية غائبة.

_ هل يأخذ الأدب هذه الصفة بسبب شكله أم بسبب مضمونه؟

_ لم أفرق يوماً بين “الشكل والمضمون”، ولم أقتنع بفكرة الثنائيات عموماً لأنها تبذر فوراً تفريقاً “قيمياً” فضلاً عن كونه مستحيل عملياً. وأقول دائماً إن الثنائيات حيلة مدرسية يستفيد منها محدودو الموهبة ورعاة الإيديولوجيات. كل شكل هو مضمون، بمعنى أنه يلعب دوراً في تشكيل وجهة النظر، هل يمكن أن تعكس “بنية متشظية” مثلاً رؤية متماسكة للعالم  في رواية؟ مستحيل، هل يمكن لبحور الخليل “كشكل” أن تعكس واقع المدينة الحديثة؟ لا يمكن. الشكل يضعك أمام سؤال الرؤية، الشكل نفسه مضمون، هما، ككافة الثنائيات الزائفة، وجها ورقة لا يمكن عملياً فصلهما.  وفي ما يخص التعامل مع نص كلاسيكي من خلال نص حديث، أعتقد أن هذا أحد أدوار الكتابة، جميع النصوص الكلاسيكية التي تشكل موروثنا الوجداني والثقافي يُعاد “تقليبها”، وكما نعيد قراءتها كقراء فهي تحتمل أن نعيد كتابتها. الكتابة فعل مراجعة، وجدل، والكتابة لا تجادل فقط الواقع، بل تجادل الثقافة بالأساس، والثقافة قارة في مجمل النصوص التي ورثناها مثلما هي قارة في المعمار. هناك تمثيلات “صلبة”، مادية، للثقافة، تنهض لا لتكرس “للقديم” بل لتدفعنا لمساءلته، لكن ثقافتنا العربية، ثقافة الإجابة والجمود وتقديس السالف، تجعل هذا النوع من الحوار تجديفاً، وفي الأدب يصبح الموضوع أصعب، لأننا ورثنا لغة مقدسة، لغة الله، والتي لا يجب أن تصبح لغة البشر، ولا ينبغي أن “تُغرِّب” النص المقدس أو تجعل منه مهجوراً. خوفٌ أبله، فالأدب فعل إحياء ولم يكن أبداً رصاصة.

 بالمناسبة، في أغلب رواياتي هناك هذا السؤال، سؤال “الثقافة”، “شريعة القطة” مثلاً كانت معارضة كارتونية لقصة الخلق عبر الحيوان، في “هدوء القتلة” كان الموروث الصوفي يشكل وجدان البطل، لكن كقاتل. في “كفافيس”، كان البطل نفسه هو المنجز الشعري، أي أن جزءاً من سؤال الرواية كان سؤالاً نقدياً لذا لم تخل الرواية من مقاطع “نقدية” ومحاضرات مختلقة ورسائل لم تُكتب في الواقع.

_ بمناسبة الشكل، هل تعتقد أنه يشترط في القصص المرتبطة بهذا الشكل، أن تدور في زمن قديم فيه جوارٍ وعبيد وإسكافي وأسماك متكلمة وبحارة وقراصنة؟ علماً بأنك كسرت هذه القاعدة ربما ثلاث مرات في المجموعة عندما تحدثت عن طائرة، ومرة عن ساعي بريد، ومرة عن الشرطة (ربما تقصد العسس)، هل تم هذا بدون قصد، أم كنت تود كسر النمط التقليدي لهذا النوع من الكتابة؟

_ سؤال الزمن هو أحد أسئلتي الجوهرية في هذا الكتاب، “مدينة الحوائط النهائية” يعيش فيها أيضاً مصور فوتوغرافي وبائع ساعات وصاحب حجرات يمكن أن تكون تمثيلاً بدائياً لفكرة “الفندق”، أي أن الزمن الذي يوحي بالقِدم يُخترق بشخوص وعناصر يفترض بها أن تحيا اليوم. ربما هو أحد أسئلتي المؤرقة، لماذا يمكن أن تتعايش أمكنة متباعدة في الزمن نفسه بينما يستحيل أن تلتقي الأزمنة في مكان واحد؟ وحده الفن يسمح بهذه الفرصة المستحيلة، ويغفر لنا، فما بالك بـ”حكايات خرافية”؟ هذا الحلم المستحيل بتجاور الأزمنة بحيث توجد كلها في لحظة الكتابة نفسها، إنه شيء ساحر ومرعب في الوقت ذاته لي ككاتب. فضلاً عن ذلك، الزمن في الحكاية هو دائماً كل الأزمنة، لأن الحكاية تفترض في نفسها التوفر على قيم أو دلالات عابرة للمكان والزمان، لم أُرِد أن أغفل هذه التفصيلة، أو بمعنى أدق، ساعدتني هذه التفصيلة على أن أتعامل بحرية شديدة مع فكرة الزمن.

ـ ـ بالمناسبة، لماذا “حكاية”؟

_ لعدة أسباب. أولها أن الحكاية تحتمل سرد حياة كاملة من الميلاد للموت حتى لو في حيز ضيق، هي حلقة مشبعة لأن فلسفتها الأصلية تقوم على إبراز قيمة من خلال صراع مكتمل، ولأنها تضع المتلقي في اعتبارها حيث تمثل الحكاية “فن إشباع الفضول” لدى متلقيها. بينما القصة فن اللقطة المقتلعة من بين زمنين (سابق ولاحق). من ناحيةٍ أخرى، هذا الكتاب وُلد من جذر شفهي، الحكاية تولد بالأساس من فكرة إعادة تمثيل العالم شفاهة عبر مجاز قابل للتصديق كونه يلتقي حول المشترك الإنساني عبر تغريب الواقع، وهي مفارقة بديعة، بخلاف “القصة القصيرة” كشكلٍ كتابي من اللحظة الأولى متلقيه هو فقط الفرد. الحكاية نص شفاهي على التدوين ألا يُفقده عنصره الجوهري: قابليته للتحريف وقدرته على مخاطبة الوعي الجمعي. وقد كتبتُ هذه الحكايات بعد أن سمعت صوتها الداخلي أولاً، وكنت حريصاً على ألا أخون ذلك العنصر الجوهري فيها.

_ على عكس الحكايات القديمة التقليدية، التي تنتهي بانتصار الخير، فإن في بعض نصوص هذه المجموعة نجد أن الشيطان ينتصر مثل “ظل الشيطان” أو “هبوط الملاك” أو تكون النهايات قاسية “حكاية الحطاب وذيل الثعبان” أو ينتصر فيها الشر مثل “حكاية المسافر الذي صعد البئر”؟ أقصد أن النهايات ليست عادلة ـ هناك أيضاً نهايات غير متوقعة، مثل حكاية الإسكافي المجنح والحذاء الذي يتكلم، وتفتح أفقا على التفكير، يعني كان المتوقع أن يرتدي الإسكافي حذاء ابنه تنفيذا لوصيته، لكنه لم يفعل؟

_ هذا بالضبط ما أقصده بمتعة التحريف، والتحريف لا يشترط أن يكون في تغيير الأحداث، لكن أيضاً في كسر بعض الآفاق المتوارثة لدى تلقي حكاية، وأبرزها “القيمة الأخلاقية”، موضوع الحكاية الأثير. قد ينتصر الشر، وقد لا تنفذ الوصية، وقد تكون العاهرة موضوعاً للتعاطف لا الإنكار، أقصد أن الحكاية قد تنحرف عن رسالتها الأخلاقية المتوقعة وهذا ما يقربها للتجريبي ويبعدها عن “المثال” لتصبح حكاية عصرية، تنتمي لزمن إنتاجها ولا تستدعي بعماء زمناً سالفاً في إنتاج القيم، أنا في النهاية أدخل الواقع من باب التخييل، لا أهرب منه أو أدين مقولاته، بالعكس، أعمق حضوره من حيث يبدو أنه غائب، وهذا ما يجعل من مدينة متخيلة تمثيلاً للعالم، تطفو فوقه لتدل عليه، لا لتنكره أو تدين تعقيده.

ـ هناك أيضاً نهايات مثيرة للجدل، يعني في نهاية قصة “ظل الشيطان”، لماذا اخترت أن يكون الظل في النهاية لزوجة المعلم، مع أنها لم تكن هي السبب في أن زوجها يقيم علاقة مع شقيقة الطالب، لماذا لم يكن ظل شيطان فحسب، مادام الأربعة أخطأوا؟

_ المرأة في هذه الحكايات دائماً فاعل ومحرض، لذا بدأت الكتاب بحكايات “نساء مدينة الحوائط”، ووجدتها أنسب للإمساك بمقود “الفعل”، فالمرأة هي الرحم والمقبرة معاً. المرأة هي العالم، وهي أيضاً من أوجدت الأرض باجتراح الخطيئة. هذا جذر صلب في الميثولوجيا أردت أن أعيد اختباره حكائياً وفنياً. ارتباط خطيئة حواء بإغواء الشيطان قار في موروثنا، لذا أحببت أن أعيد تمثيله في حكايات جديدة دون إدانة أخلاقية بل ربما بإعجاب. ليست المرأة تمثيلاً وحيداً للشر، فالشيطان هو نحن جميعاً حتى لو بدت المرأة باباً لدخوله، بدليل أنه في حكايةٍ أخرى “الشيطان وصندوق الدنيا” لا تظهر المرأة كسبب في ظهور الشيطان بل يكون السبب عاشق خاسر.

_ بمناسبة المرأة، المرأة في هذه المجموعة فاعلة أكثر من الرجل، وقوية ـ ربما أقوى من الرجل ـ  وشريرة غالباً، لا أريد إيقاعك في مشاكل مع جمعيات حقوق المرأة، لكن سؤالي عن نظرة التراث المروي للمرأة كيف تراها، وهل لهذا  علاقة ببناء شخصية المرأة في روايتك؟

_ ليس بالضرورة أن تكون هذه رؤيتي للمرأة في مجمل أعمالي، لكن في “مدينة الحوائط اللانهائية” ظهرت المرأة كمحرض، متصلة بـ”حواء” التي تسببت في وجود الأرض وبشهرزاد التي حكت كتاباً “منبوذاً” و”خادشاً”  في الثقافة العربية أنزل “اللغة المقدسة” منزل الفحش والفجور والإباحية. إنها ترديد مزلزل لهذا الصدى، وحتى في “مدينة الحوائط اللانهائية نفسها”، تُفني المرأة المدينة وتمنحها نسلاً جديداً كما في حكاية “كتاب الحياة المفقودة”، أي أنها تعيد الكرة مرات ومرات بإعادة خلق الدنيا كلما اقتربت من حافة الأمان الفردوسي. لا أعتقد أن المرأة بهذا المعنى تمثيل لقيمة الشر، بل لقيمة “الهدم” كقيمة فنية بالأساس، والانتصار لخرق الاعتيادي والخروج عن القطيع.. فعلت ذلك “العاهرة التي باعت شعر رأسها ليلاً”، و”امرأة ديسمبر”، و”المرأة ذات العين الواحدة” و”المرأة التي تغني” و”القرصانة”. كل نساء هذا الكتاب شردن عن “الفردوس” باعتباره جنة القطيع واخترن جحيم الاختيار الفردي.

_ بعض النصوص كانت أقرب لعوالم الديستوبيا، خاصة تلك التي يجيء فيها ذكر الحرب، مثل حكاية “رجل عجوز من الورق المقوى”؟

_ أندهش بعض الشيء من فكرة أدب الـ “ديستوبيا” لأن الأدب (والرواية والقصة بالتحديد) نادراً ما اتكأ على المدينة الفاضلة أو بشّر بها، أين اليوتوبيا في فن الرواية؟ الرواية بالأساس نهضت لتمنح الفرد المنتمي للطبقة الوسطى مدينته التي لم تعرفها الملحمة، وهذه المدينة، دائماً، ديستوبيا، مدينة نهاية العالم بعد أن سقطت الرسالات ومقولات التطمين، مدينة الاستباق المستقبلي كتعميق للمجهول أمام فرد فقد حاضره: إنه مكان الرواية الأبدي.

_ بعض النصوص لم تكتف بالاستناد إلى “مفاجآت المعجزات”، وإنما استندت إلى التجريب مثل حكاية شيخ الأمواج، إذ بدت بعض مشاهدها ـ لا سيما النهاية ـ أقرب إلى لوحة لسلفادور دالي؟

_ لأن أحد أسئلتي كان التجريب مع فكرة “الحكاية”، بنائياً ولغوياً. في هذا الكتاب كنت ألعب مع الحكايات، أهدها وأبنيها، أجرب معها أشواقي الخاصة كحكاء وأختبر قابليتها لتراوحات في اللغة، في الطول والقصر (في الكتاب حكاية تتجاوز الخمسة آلاف كلمة وأخرى مؤلفة من سطر واحد)، في التشخيص الشديد والتجريد الشديد على حد سواء. كنت أفعل كل ذلك دون أن أنسى أنني أكتب “حكاية” وهو ما قد يطيح بجوهر المشروع.. وهذه الحكاية التي تستشهد بها، تحديداً، تشتغل على فكرة أليفة بوجود صياد يبحث عن جوهرة في أحشاء سمكة، من هذا “الموضوع” المألوف والراقد في وجداننا مددتُ خيط خيالي لأقدم صورة لشخص مجنون يصطاد الأسماك فقط ليبحث فيها عن جوهرة ثم يعيدها من جديد. ربما هو “خيال الخيال” بتعبير الروائي الصديق أحمد إبراهيم الشريف في توصيفه لطريقتي في التعامل مع الحكاية في هذا الكتاب.

_ في القصص هناك اهتمام كبير بالذاكرة، وبالذكريات في بناء الشخصيات المجموعة، كيف ترى ذلك؟

لا وجود للعالم إلا في الذاكرة، فالمضارع آخذ في التحول لماضٍ فور تحققه، وما يحدث هو أن الذاكرة تعيد تشكيل الواقع بطريقةٍ شعرية، حيث تنتفي العلاقات الزمانية (السببية، التعاقبية) لتحل محلها علاقات مكانية (يحكمها التجاور). وفق هذا المنطق، فإن الذاكرة تحول التاريخ من سردية (بدءاً من التاريخ الجمعي وصولاً للتاريخ الفردي) إلى نصٍ شعري: قصص الميلاد والحب، ولحظات الموت، تحولها الذاكرة من سرديات إلى قصائد، تجردها لجوهرها الذي يتجاوز التشخيص بحيث يصبح سؤالاً إنسانياً. هذا ما أسميه “ظل الحكاية”، فجسد الحكاية أو القصة أو الرواية هو الإخبار أما ظلها فهو الإيحاء وتجاوز الدلالة الاتفاقية لدلالات محتملة بلا حصر. أنا أكتب من أجل هذا الظل، من أجل استخلاصه والوقوف عليه.

ـ هناك أيضاً إشارات إلى لحظة ميلاد في نهاية نصين “كان يعرف أنه ولد الآن”،

_ لأنني افترضت أكثر من مرة أن الحياة يمكن أن تبدأ بالموت وتنتهي بالحياة، يمكن أن تكون رحلة فرد ما من المقبرة إلى المهد، في حكاية “العجوز الذي أغضب الموت” مثلاً يموت الشخص قبل ولادته ويُعاقب للأبد بالخلود، وفي حكاية أخرى مثل “العجوز الذي يتذكر المستقبل” نواجه شخصاً يتذكر ما لم يحدث بعد بينما يتعامل مع الماضي باعتباره شيئاً لم يقع. إنه سؤال الزمن من جديد، وقد كانت “الحكاية الخرافية” كنوع هي الشكل الأكثر ملائمة لتحويل كل شيء إلى خرافة قابلة للتصديق.

_ في آخر المجموعة، هناك نصان شعريان، هل ينتميان إلى كتابتك السابقة أكثر، أم إلى هذه المجموعة؟

_ إن كنت تقصد نصي “الحكاية الحقيقية للقباطنة” و”حكاية قراصنة نهاية العالم”، فإنهما تنتميان لهذا الكتاب، وكتبتا في أجوائه، لكنهما بتا مختلفتين لأن التجريد يسيطر عليهما أكثر من التشخيص، وهو أحد جوانب لعبي مع “الحكاية” الذي أسلفت إليه.. بدأت من تشخيص كامل وانتهيت بحكايات تحفز القارئ أكثر لإنتاجها معي، أو حتى عوضاً عني، ولهذا أنهيت الكتاب بـ”الحكاية التي لم أكتبها بعد”، الحكاية التي أردت كتابتها وفشلت، وهي الحكاية التي يُسمح لكل متلقٍ أن يكتبها، ليبدأ من حيث انتهيت كتاب حكاياته الخاص، ولتستمر اللعبة.

_ أعتقد أن هذه المجموعة، هي نتاج تجربة صحفية، وأيضاً قصص “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها”، وهذا يطرح سؤالاً حول صعوبة الكتابة الإبداعية بشكل أسبوعي، فأنت كنت تفعل ذلك بشكل أسبوعي في جريدة الدستور؟ـ وهل كان في ذهنك عندما بدأت تلك التجربة مع إبراهيم عيسى أنها ستتحول إلى هذا الشكل، أم أن فكرة بناء المجموعة القصصية نتاج أفكار تالية؟

_ اعتقادك في محله. كانت تجربة شاقة وغير متوقعة وأنا شخصياً لم أتخيل أنها ستحظى بالاستمرارية التي حظيت بها. نشرتُ مرة حكاية في جريدة الدستور، وفوجئت برد فعلٍ مذهل، وكانت الجريدة نفسها في ذلك الوقت هي المطبوعة المصرية الأكثر رواجاً وخاصة في أوساط الشباب. طُلِب مني أن أواصل، وافقتُ متشككاً في قدرتي على الوفاء بوعدي، وأنا شخص لم يعد يقلقني عدم الوفاء بالوعود من فرط ما نكصت بوعودي. لكن ما حدث أن التجربة غمرتني تماماً، وصرتُ أكتب حكاية أسبوعية في موعد تسليم محدد، بل إنني في بعض الأوقات كنت أذهب للجريدة بأوراق فارغة يوم “التنفيذ” دون فكرة في رأسي وقد عجزت عن إرسال حكاية جديدة في اليوم السابق، أُغلق غرفة أخرج منها بعد قليل بحكاية مكتملة. كانت تجربة مدهشة ومازلت أحياناً لا أصدق أنني فعلتها لعدة سنوات. لكنني تعلمتُ منها أن الإلهام يمكن استحضاره، وأن الكتابة يمكن أن تصبح التزاماً، بالمعنى الحرفي للكلمة، وأعتقد أن هذه التجربة أفادتني كثيراً فيما بعد ككاتب، وخاصةً كروائي. لكن بناء الكتاب بالشكل الذي ظهر عليه كان مختلفاً، انتخبتُ حكايات واستبعدتُ أخرى، يفوق عددها ما ظهر في الكتاب. لم يكن السبب يخص الجودة، لكن عالم هذا الكتاب/ المدينة تحديداً ومناخه وبنيته هي من اختارت قاطنيه. أعدتث تحرير الحكايات المختارة بالكامل، وشيدت “مدينة الحوائط اللانهائية” بسمات محددة، وهي التي كانت مدينة مضببة بلا اسم لدى النشر المنفرد للحكايات. الكتاب يضعك أمام سؤال البنية، بعكس الكتابة الحرة التي تجعل من كل قصة أو حكاية عالماً مستقلاً. الكتاب جملة طويلة تصبح فيها كل قصة مفردة، يجب أن تلعب دوراً في بناء الجملة ومعناها، والمفردة/ الحكاية التي تمثل فائضاً تُستبعد فوراً مهما كان جمالها أو حبي الخاص لها. إنها قسوتنا حين نصنع الكتب، حيث نوجه رصاصات رحمة لابد منها لأشخاصٍ يدفعون ثمن الانتماء للمخيلة.

_ كيف ترى تجربة العمل مع صلاح المر؟

 _ صلاح المر أحد شركاء هذه التجربة وليس فقط رساماً لها. صنع نصوصاً بصرية موازية وليس مجرد لوحات مصاحبة. حدث ذلك باقتراحٍ مني، لأنني رأيت أن هذه التجربة لن تكتمل دون شراكة بصرية لفنان أشعر بانتماء نصوصي لأجوائه، وأيضاً جرياً على العادة القديمة بأن تحظى الحكايات برسوم. لكنها هذه المرة لم تكون رسوماً شارحة أو ترجمة مباشرة وأولية للحكايات، بل نصوصاً بصرية موازية تصلح كمدخل مغاير للقراءة. هكذا جاءت “مدينة الحوائط اللانهائية” عناقاً بين اللغة والتشكيل وهو ما حلمت به.

 

 2

_ هل أنت سعيد بالـ “بيست سيلر”، هل تعتقد أن هذا سيؤثر فيما بعد على كتابتك، أو حتى على دور النشر التي ستتعامل معها؟

_أغلب كتبي صدرت في أكثر من طبعة، ليس الروايات فقط، فمجموعتي القصصية “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” (2010) وصلت لطبعتها الخامسة، بالتالي فلستُ غريباً عن فكرة الكتاب الرائج ولست ضدها بالتأكيد، نحن نكتب ليقرأنا آخرون، وأغلب الكتاب “الجادين” في الغرب ممن نقرأ لهم هم كتاب رائجون بالمعنى التجاري، من جارسيا ماركيز لبورخيس لسلمان رشدي، ومن باتريك موديانو لروبرتو بولانيو وأندريس نيومان. ودائماً أقول إن مأزق الكاتب الذي يكتب فقط “ليروج” بعشرات الطبعات من رواية تافهة، لا يختلف كثيراً عن مأزق الكاتب الذي لا يقرأه أحد تحت ادعاء أنه يكتب أدباً جاداً. كلا النمطين يحتقر القارئ بطريقته، يتعالى عليه، من يتعامل مع القراء كقطيع يلتم حول “عظمة” لا يختلف كثيراً عمن يعتبرهم غير موجودين. الكتابة عملية تنهض على طرفين، شريكين وليس “منتج” و”متلقي” (أذكرك مجدداً بإفلاس الثنائيات) وأنا أحب أن أكون كاتباً رائجاً بهذا المعنى.

ـ من أقرب كتاب جيل الستينيات إليك؟ ولماذا؟

_ ألهمتني انحرافة محمد حافظ رجب الكبيرة عن النص الواقعي التقليدي، طزاجة خياله ولغته الخاصة وإدانته الجمالية للأدب المألوف والمطروق. كذلك ظل يحيى الطاهر عبدالله كاتباً ملهماً، بمناخه اللغوي الخاص وقدرته على الوقوف في مسافة حساسة بين الشفاهي والكتابي وتحويل سؤاله الإيديولوجي الفائح إلى فن غير زاعق. هذا على مستوى القصة القصيرة، في الرواية، أحب روايات مثل “فساد الأمكنة” لصبري موسى و”أيام الإنسان السبعة” لعبد الحكيم قاسم، لكن أعتبر مشروعي “جمال الغيطاني” و”خيري شلبي” المنجزين الأكبر والأشد اتساعاً وتعقيداً في تجربة الستينيات، رغم اختلافهما الكلي عن بعضهما البعض. في الحقيقة هما يكملان بعضهما، فالغيطاني استعاري، وعمق نصوصه تجريدي وخاصة فيما يتعلق بسؤال الزمن، أما خيري شلبي فكنائي، لديه القدرة على استخلاص خبرات الإنسان الهائلة في مرويات لا تكف عن بذر البشر. ومن الكتاب الذين ينتمون “جيلياً” لما بعد الستينيات أعشق كتابة “محمد المنسي قنديل”، إنه روائي شاعر، وكاتب ملهم، وأعتبره أعظم روائي مصري على قيد الحياة.

ـ بهذه المناسبة، هل تحب تلقيبك بـ “الحكاء” على طريقة عم خيري شلبي، أم أنك حكاء من نوع آخر؟

_ من منا لا يحلم بلقب كهذا خاصة إن اقترن بكاتب في حجم “خيري شلبي”؟ لكن الحقيقة أنني أنتمي لنوع آخر من التعامل مع الحكاية.

ـ هناك نقلات في كتابتك يا طارق، يعني المجموعتان القصصيتان مختلفتان، عن روايتيك التاليتين، مختلفتان عن رواية كفافيس، مختلفتان عن الرواية الأخيرة، لا أقصد الاختلاف في اللغة، ولكن في تكنيك الكتاب، هل تقصد التجريب، أم أن الأمر ليس مقصودا بهذه الطريقة بالنسبة إليك؟

_ هذا سؤال مهم ومعقد، أسلوب السارد هو إدارته للعالم السردي سواء كان رواية أو قصة، وليس “اللغة” فقط بالمعنى الذي قد نفهمه لدى التعامل مع قصيدة. القصيدة صوت شاعرها، وهي فن مونولوجي بالأساس، أما الرواية فكرنفالية أصوات يديرها الروائي دون أن يكون بالضرورة واحداً منها، بل ربما يختار صوتاً يملك لغة مختلفة عنه ليكون هو “سارده” وعليه في هذه الحالة أن يصغي لذلك الصوت ويتقمصه، رؤيوياً ولغوياً. لا يعني هذا أن الروائي غير موجود، فنحن في النهاية نكتب الروايات لنقلِّب أسئلة تؤرقنا لكننا نفعل ذلك بكسر واحدية الصوت وبتجسيد حوارية العالم فنياً. من هنا يخلق كل كتاب “موده” وعالمه، لكن في سياق أسئلة الروائي الملحة وانحيازه الجمالي، بمعني أنني مثلاً أنتجت عشرة كتب إلى الآن، لا ينتمي واحد منها إلى الأدب الواقعي، وكلها تنحاز للتخييل سواء جاء كفانتازيا خالصة مثل “طيور جديدة لم يفسدها الهواء” و”شارع آخر لكائن” و”شريعة القطة” أو حمل مزيجاً بين الواقع والخيال مثل “هدوء القتلة” و”ضريح أبي” و”الأرملة تكتب الحكايات سراً”، أو حتى لو تعامل مع التاريخ بتشكك يرده من فكرة “الحقيقة” لفكرة “الحكاية” أي الكذبة القابلة للتصديق كما في “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”. لكل كاتب انحياز جمالي، وأنا لا أحب (ولا أقتنع في الحقيقة) بفكرة الكاتب “الكتالوج” مثلما لا أرحب بفكرة الكاتب “النموذج” الذي يُغني أي عمل له عن البقية، أقصد بالكاتب/ الكتالوج الكاتب الذي ينساق في كل مرة إلى نموذج بداعي “التنوع” أو “التجريب”. التنوع لا يعني أن تكون في كل مرة كاتباً جديداً، لكنه يسائل أسئلتك الجوهرية عبر أبواب مختلفة.

ـ لديك عدد من الكتب تدور في أزمنة مختلفة مثل “كفافيس”، أو هذه المجموعة الأخيرة، كيف تتحضر لكتابتها، أقصد كيف تعيش في زمنها الخاص؟

_ لكلٍ صعوبته، في “كفافيس” مثلاً أنت أمام زمن بعينه، وجد بملابسه وأمزجته وشكل شوارعه، لذا تطلَّب ذلك منّي جهداً ضخماً في البحث لأعيد تشييد مدينة (الإسكندرية) بقوة المخيلة لكن دون أن تفقد قوامها كمكان موجود في لحظة زمنية بعينها، مكان غير مقتلع عن سياقه التاريخي والرؤيوي. الوضع مختلف في “مدينة الحوائط اللانهائية” حيث الزمن يبدو مفارقاً لكنه غير محدد بحقبة، بل ويحتمل خروقات عديدة كتلك التي أسلفنا الخوض فيها. الكتابة فعل “تقمص”، و”استحضار”، و”بحث”، والكاتب، علينا ألا ننسى، مؤلف، يحق له أن يكتب قصصاً لا يعرفها، أن يخمن ويتخيل، لكن أن يعمل على أن يكون ذلك مصنوعاً بشكلٍ جيد. ورثنا خرافة “اكتب عما تعرف”، أو “اكتب ما عشته”، وأنا لا أعرف في الحقيقة ماذا أعرف. دائماً ما أردد ذلك، وعندما يقول أحدهم إنني لم أعش التاريخ لأكتبه، أسأله فوراً إن كان يستطيع التأكيد بأنه يعيش الواقع وبأنه، من ثم، قادر على كتابته.

ـ كل رواياتك كانت في الأصل قصصاً قصيرة، هذا يطرح سؤالين الأول حول تطور فكرة النص لديك ورؤيتك له ولنوعه وبنائه، والثاني حول القصة القصيرة ذاتها، حيث أن معظم الروائيين لا يعودون لكتابة القصة بعد كتابتهم الرواية، لكنك تتنقل بينهما وكأنهما شيء واحد؟

_ لأنهما في الحقيقة غرفتين يصلهما الممر نفسه الذي يفصل بينهما. في “مدينة الحوائط اللانهائية” ثمة شخصيات أتت من روايات، أي فعلت عكس ما يطرحه سؤالك (وهو سؤال صحيح طبعاً). في النهاية لكل كاتب عالمه، عالم يمكن فيه أن تتحرك قصة لتصبح جزءاً من رواية، أو تتسع لتصبح هي نفسها رواية، يمكن أن تخرج شخصية من رواية لتصبح بطلاً لقصة، أو أن تتكثف حبكة رواية مرتدةً إلى قصة. الحوائط بين الأنواع واهية يا محمد، والتهجين جزء من حرية الكاتب. علينا أن ننتقل من سؤال “لِمَ” الضيق، إلى السؤال الأرحب، سؤال الفن: “لِمَ لا؟”.

_ أنت استفدت من الخيال الشعبي المصري في ضريح أبي، وفي مجموعتك الأخيرة، هل لديك مشروع لإعادة صياغة هذا التراث كتابياً، وكيف يمكن أن نفعل ذلك؟

_ الخيال الشعبي يقشر عن الخيال اغترابه، بل ويجعله أقرب للمقبولية (ولا أقول التصديق)، أنت مثلاً تستوعب بسهولة فكرة وجود ولي كان يمشي على الماء، لماذا؟ لأنه جزء من الوعي الجمعي الذي، حتى وإن خرجت أنت عن معتقده، تظل قادراً على التعامل مع “شفرته”. الخيال الشعبي أيضاً مرتبط بكافة أسئلتنا الشائكة، الدين الشعبي مثلاً مقابل الدين الرسمي، إنه سؤال شائك، الحكاية الخرافية باعتبارها حاملة قيم، يمكن أن تظل ثبوتية أو أن تجري مراجعتها، إعادة اللعب مع هذا الخيال لا ينفصم عن إعادة مجادلة أسئلة الثقافة التي تشكل الواقع بالمناسب. بالتأكيد ينهض جزء من مشروعي على إعادة صياغة الخيال الشعبي لأن الخيال لم يُخلق ليُترك، بل ليمتد خيطه.

 كيف كانت تجربتك في المسرح، وهل تفكر في تكرارها؟

_كانت مغامرة، تجربة جديدة، وكانت ملهمة.. أن تخوض فعلاً إبداعياً جديداً ومختلفاً، أن تواجه جمهوراً في “دور”، وأن يكون هذا الدور نفسه عبارة عن نص لك ضُمِّن في إطار عرض يخص نصاً آخر.. كل ذلك كان مدهشاً، دربتني الصديقة العزيزة نورا أمين تدريبات حركة وصوت وأداء (جعلتني ممثلاً!!).. بالتأكيد أتمنى تكرار التجربة (لو جاني ورق كويس!)

ـ هل من الممكن أن يغير تعليق قارئ على جود ريدز رأيك، أوتوجهك في الكتابة، وكيف ترى تأثير تعليقات السوشيال ميديا عموما على كتابتك؟

_ أعتني بكل ما يُكتب عني، بل إن رأياً لقارئ يجعلني أراجع نفسي أحياناً أكثر من رأي ناقد.. لأن علاقة القارئ بك هي الاستمتاع، وهو لا يهمه أن يجاملك أو يخطب ودك، بالتالي فهو يكتب ما يراه. أنا مثلاً كثيراً ما أكتفي بقراءة مقال نقدي كُتب عني دون أن “أشيره” على صفحتي على فيس بوك.. لكني بالمقابل أرحب جداً بخاطرة كتبها قارئ عن كتاب لي، بمحبة، ودون أن يتخيل حتى أنها ستصلني.

ـ ماذا أضاف لك الاشتغال بالنقد، وماذا أخذ منك؟

_ لم يأخذ مني الاشتغال بالنقد أي شيء، بالعكس، أراه تطويراً دائماً لفعل القراءة، فالنقد بالنسبة لي هو مرحلة متطورة وواعية من الفعل القرائي للكاتب. وبسبب دراستي للأدب الانجليزي فهمت مبكراً أن أعظم الروائيين والشعراء في الغرب كانوا أعظم النقاد بل والمنظرين في أزمنة مختلفة وإلى الآن أستطيع أن أحصي لك عشرات الأسماء لكُتّاب فارقين ونقاد استثنائيين في الوقت نفسه. ربما في مصر يحب البعض “الخانات”، ويخشى بعض النقاد المدرسيون إقدام المبدع على النقد لأنه يكشف محدودية أفكارهم وافتقارهم للقراءة المبدعة للنصوص. لكني أرى أن الفعل النقدي فعل إبداعي بالأساس، وطريقة نموذجية لفهم الأدب، لفهم كتابات الآخرين، ولخلق “ذائقة متسامحة” إن جاز التعبير مع مالا نحب، أو مالا نستطيع، أن نكتبه. لابد للكاتب أن يمتلك وعياً نقدياً، لأن الأدب أيضاً حرفة، سواء ترجم ذلك لكتابة نقدية أم لا.

 

 3

ـ هل أنت من الإسكندرية أم من البحيرة؟ لا أسأل عن الميلاد، لكن عن الانتماء النفسي؟

_ أنا من دمنهور، وإليها أنتمي، إنها المدينة التي لا أحتاج فيها عينين لأرى. لكن الإسكندرية مدينة شغفي، عاصمة روحي، والمدينة التي طالما حلمت أن أعيش فيها.

_ كيف أثرت البحيرة في تكوينك النفسي؟

_ ثمة عبارة لإليوت “ونهاية كل اكتشافاتنا المكان الذي منه بدأنا، وعرفناه للمرة الأولى”. المكان الأول هو شفرتك، ومكوِّن قيمك ومزاجك، من رائحة الهواء وحتى رائحة الطعام، وهي أشياء أعمق من أن تُمحى بتغير المكان. نحن أماكننا الأولى.

_ كيف ترى الآن طفولتك بين سيد إمام ورضا إمام؟ وماذا ورثت منهما؟

_ سيد إمام هو الشجرة الكبيرة والجذر العميق. أعتقد أنه أب لرضا قبل أن يكون أخاً أكبر. في دمنهور كانت هناك ورشة يومية لقراءة القصص ومناقشة الكتب والتحدث في الأدب في بيتنا قبل أن أنتقل للقاهرة.. وأغلب خبراتي النقدية انتقلت إليّ من السيد إمام الذي سقاني كل خبراته النقدية الهائلة في ملعقة. رضا كاتب قصة كبير من وجهة نظري، لكنه لا يحب الظهور ولا يحب القاهرة وربما هذا ما خصم مما يستحقه من حضور.

ـ هل أنت محظوظ لأنك بدأت النشر مبكراً، أم تعتقد أنك لو عاد بك الزمن لانتظرت قليلاً؟

_ لم أكن لأنتظر. النشر يضعك مباشرة في التجربة ويجعلك مسئولاً لأنك تعرف أنك صرت موضوعاً للتلقي وبالتالي يجعل مسألة تطورك أمراً حتمياً، فضلاً عن عدم وجود قانون حاسم يحدد هل تنشر الآن أم لا إلا قابلية ما تكتب للنشر. بالتأكيد كنت محظوظاً بالنشر مبكراً ولو عاد بي الزمن لحاولت أن أبكِّر أكثر بالنشر!

_ لكن هذا جعلك عالقا ما بين جيل التسعينيات والجيل التالي له؟ لكن نفسيا إلى من تشعر أنك تنتمي؟

_ هذه المراوحة كُتبت علي. ذات يوم وصف حسن عبد الموجود علاقتي بحقبة التسعينيات بأنني “كنت كاتباً يبحث عن جيل”. أعتقد أن هذه أدق جملة وصّفت علاقتي بجيلين يتراوح وجودي بينهما… يبدو أنه كُتِب عليّ أن أكون عالقاً بين الأجيال والأنواع الأدبية على حد سواء!

_ بهذه المناسبة، هل تحب مجموعتك الأولى “طيور جديدة لم يفسدها الهواء”، كيف تنظر إليها الآن؟

_”طيور جديدة لم يفسدها الهواء” كُتبت قبل خمس وعشرين سنة ونشرت قبل ثلاثة وعشرين سنة، إنه شيء مرعب بالنسبة لي عندما أتأمله. أعتقد أن رأيي فيها لم يعد يمثل شيئاً، ما يهم هو رأي من سيتصادف أن يقرأها الآن لأول مرة بعيداً عن كونها كتاب أول أو كتاب مضت سنوات على صدوره.. هذا هو رهان الكاتب الوحيد عندما تبتعد به السنوات عما كتب. لكنني بالتأكيد أحب غلافها، ولوجو “شرقيات” عليه، وأحب المربع الذي ما يزال شاغراً على هذا الغلاف عندما أصر الناشر ألا يضع لكتابي تصنيفاً لأنه رأى أن هذا الكتاب ليس مجموعة قصصية ورفض نشره في القطع المخصص في ذلك الوقت للسرد، لينشره في القطع الصغير الذي كان ينشر فيه المجموعات الشعرية. أحب ذلك المربع الشاغر الذي جعل مني شاعراً رغم أنفي من حيث اعتقدتُ أنني أحكي.

_ مجموعتاك الأوليتان “طيور جديدة”، و”شارع آخر لكائن”، كانتا أقرب للشعر، هل لأن هذه طريقتك في الكتابة وقتها، أم لأنك كنت تريد أن تكون شاعراً؟

_ لأن هذه طريقتي في التعامل مع الحكاية، طريقتي الفطرية من قبل القراءة والتنظير وقدرتي على التأصيل لما أفعل. يضم هذان الكتابان قصصي التي كتبتها بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر، لم أكن حتى قرأت الكثير من الأدب ولا تغذيتُ نقدياً. الشجاعة التي دفعتني لتقديم نصوصي كقصص، لم تكن لتنقصني لكي أقدم نفسي كشاعر، لكنها طريقتي لأسرد.

_ هل ندمت لأنك لم تصبح شاعراً؟

_ على الإطلاق، فالقصص والروايات هي من جعلتني شاعراً.

ـ بالمناسبة، ماذا تقول لحلمي سالم، كيف ترى تأثيره عليك؟

_ “أبويا الروحي”. نشر لي أولى قصصي عام 1991 وأنا ما أزال طفلاً على وجه التقريب، ولم يتوقف عن دعمي. يحتاج حلمي سالم إلى شهادة بحجم عمري وعمره معاً، وإلى الآن “والله العظيم مش قادر أصدق انه مات”.

ـ هل لك “شلة” في وسط البلد؟ وهل هذا جيد أم لا؟

_ نعم لي شلة. بالتأكيد هذا جيد لأنها شلة تجمعها الصداقة وليست “جيتو” أدبياً كبعض الشلل الأخرى.

ـ طيب، هل هناك فرق في تصورك بين “الصداقة” و”الشلة”؟

_ كل مجموعة أصدقاء يكوّنون “شلة”، الفكرة أن كلمة “شلة” سيئة السمعة في الوسط الأدبي لارتباطها بآلام الكتاب غير المتحققين من جهة، ولأن بعض الشلل تقوم على التقاء المصالح من جهة أخرى.

ـ خطك مميز جداً، لدرجة أن أحد الأصدقاء قال إن كتابتك لإهداء تشبه لوحة تشكيلية، كيف وصلت لأسلوب “الخط” الخاص بك؟

_ يكاد يكون خطي هو هو منذ طفولتي المبكرة، لم يطرأ عليه تغيير جوهري، ويمكنك أن تكتشف ذلك إن رأيت خطي في طفولتي. ربما صقل فقط قليلاً مع تقدمي في السن، لكن “أنا مولود بيه كدة.. خلقة ربنا!!”.

ـ هل فكرت في الكتابة للسينما؟

_ فكرت ولكني لم أقدم على هذه الخطوة بعد. الأدب فردي ومشبع بينما الكتابة للسينما جزء من عملية جماعية معقدة وبحاجة لعناصر عديدة. لكني حالياً أفكر في الإقدام على هذه الخطوة لأنني فعلاً أحلم بها منذ سنوات.

ـ أذكر أنك كنت أول كاتب يجاهر على مدونته بحبه لعمرو دياب في الوقت الذي كان يهاجمه الآخرون، أيهما أفضل بالنسبة لك: محمد منير، عمرو دياب، محمد محيي؟ ولماذا؟

_ عمرو دياب طبعاً هو المفضل، وقد قلت ذات يوم إن المثقفين يتحدثون عن محمد منير على المقهى ويسمعون عمرو دياب في بيوتهم. أنا أحب عمرو دياب لأني أحب أغانيه وشكله ورحلته وأعتبره مثلي الأعلى، هكذا ببساطة ودون تنظير.

 4

أسئلة سريعة  

ـ لو قيض لك أن تصير طائراً أو حيواناً، ماذا تختار؟

_ الأسد

ـ ستصطحب معك شخصاً واحداً إلى الجنة، من هو؟

_ حبيبتي.

ـ ستصطحب معك شخصاً واحداً ليرافقك في النار، من هو؟

_ أصدقائي، وأعتقد أنني فور دخولي سأجدهم في انتظاري.

ـ ستصطحب شخصاً واحداً إلى النار، ثم ستتركه هناك، من هو؟

_ الديكتاتور.

ـ ماذا تقول لـ سيد إمام؟

_ أنت كل شيء. أنا بالكاد حرف في الجملة الكبيرة التي يترجمها وجودك.

ـ من هو/ هي شخصيتك المفضلة في مدينة الحوائط اللانهائية؟

_ كلهم أبنائي J

ـ من هو شخصيتك المفضلة في الكارتون؟

_ “لاكي لوك”، أحبه كثيراً وأشعر أنه يشبهني.

ـ أنت في مكوك فضاء إلى المريخ، ستصطحب معك ممثلة هوليودية، وكتاب، وأغنية، اذكرلي الأسماء؟

_ سلمى حايك، ألف ليلة وليلة، وأغنية “إيه بس اللي رماك” لعمرو دياب.

ـ ما مقهاك المفضل في وسط البلد؟

_ مقهى ستراند بباب اللوق.

ـ لو أنك شارع إلى أي ميدان تريد أن تنتمي؟

_ ميدان سعد زغلول بالإسكندرية

ـ لو كنت تؤمن بتناسخ الأرواح، أين تريد أن تحط روحك المرة القادمة؟

_ في مطرب روك.

ـ ما رأيك في مرتضى منصور؟

_ ماهر في فن “الإضارة”.

ـ هل تفكر في الموت؟

_أفكر أكثر في الشيخوخة. الشيخوخة هي الموت.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم