صاحب الوجه القبيح

موقع الكتابة الثقافي art 14
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسامة عاطف

أنت، يا صاحب الوجه القبيح، نعم إنّي أُحادِثُنا الآن.

إنظُر إلىَّ بعيني بين أخاديد وجهك ووجهي في ذلك الزجاج القابع بين تلك الغيمات، نرانا في المرآةِ فنخافُ مِنّا. أنت أنت، ليس سوالك أنت، يا أيُّها الشيطان، كيف تقبّل الإله أن ينتهي بك المطاف في مثل تلك الهيئة الرّثّة وتلك الملامحُ التي تُفزع الكبار مثلما تفزع الصغار.

وقف رائيل أمام المرآة حاله حال كل يوم، ووجّه لانعكاسة القبيح حديثهما اليومي المُتكرر في فتور وكراهية، وبكى، بكى كعادته، بكى عينيه الدميمتين، وبشرتةُ الواهنة، بكى قبحه وبكى جحود البشر عليه. أهؤلاء من يدّعون المثالية والفضيلة؟، اللعنة عليهم إذًا فلا خير في أحدٍ منهم.

جلس على مكتبه واتخذ الدفتر سبيلاً ليسرد مُعاناته، وبدأ يخِطُّ الورقة لا يعرفُ إلى ما سيقودهُ ذلك في نهاية الأمر ولكنّهُ استمر وكأن شئيًا ما في الورقةِ يُناديه.

*

– أنتَ يا جميل، قل لي ما اسمُك؟

قالتها العجوز واضعة يدها على خد الصبي فرد الأخر:

– اسمي رائيل يا جدتي، كيف لا تتذكّرينَني!

فأردفت العجوز في غنج:

– اسمٌ قوي كصاحبهِ، ولكن ليس بجمال وجهك على ما أظُن. سامحني يا بُني فأنا امرأةٌ عجوز.

فإبتسم رائيل وقال:

– لا عليك يا جدتي الحبيبة، أنا إبن مريم ابنتك.

وعندما بدأت الجدّة في التذكُّر أتى صوتٌ رفيع ناهرًا الولد ومانعًا إيّاه من استكمال الحديث مع جدته، وكان الصوت لأُمهِ مريم.

حول طاولة الطعام في الفناء الكبير جلست الأُسرة في شكل دائري، وحين اتجه رائيل نحو كُرسيه ليجلس عليه استوقفتهُ مريم قائلة:

– ألم تأكُل منذُ قليل، كفاك إهدارًا للوقت وذاكر دروسك.

صمت رائيل، صمت حتي انفجرَ في البكاء ورحل مُسرعًا إلى غُرفتة.

كم كانت قاسية وثقيلة تلك الليلة على قلبه الرقيق وكأنها جبل يحملهُ بمفرده، بكى حتي كاد أن يفقد عينيه المُرقرقتين بالعَبرات، ولكن في النهاية أخذهُ النوم؛ الذي يُريح البشرية من بعضها البعض.

في اليوم التالي، وفي الطريق إلى الجامعة قابل سمر؛ فتاةٌ لطيفة ولكنها مُترفة بعض الشئ كدأب الفتيات في تلك المرحلة من العُمر.

– مرحبًا رائيل.

قالتها الفتاة مادّة يدها نحوهُ في سلام فتلاقت الأيدي في مُصافحة وقال:

– مرحبًا سمر.

وبعد ثوانٍ من الصمت اجتاحت الطُرقات قالت سمر في استنكار لِما بدا على الآخر من علامات المقت الشديدة.

– ما الذي حدث؟ لا تُبشرَ ملامِحُكَ بخيرٍ ألبتّه.

فأجاب رائيل في وهن:

– بعض الهموم، ستأخذها الأيام وترحلُ بعيدًا كغيرها في طي النسيان.

فتبسّمتْ سمر مُخففة وقالت:

– أتمنّى إذًا ألا تنساني معها يا صديقي.

ابتسم رائيل واكتفى بتلك الإبتسامة البلهاء قبالتها وتابعا المشي سويّاً.

في المساء، وبعد انتهاء اليوم الدارسي في الجامعة عاد رائيل إلى البيت بعد أن هرول في الطرقات كالمسعور بعد أن تلقّى رسالة من أمه فحواها أن جدّتُه قد غادرت الحياة، غادرت دون أن يقول لها وداعًا، يالسُخف الموت وسُخف الحياة. ما الذي نختارهُ هُنا، ليست للإرادة معنى في الموت. ليس على الموت أن يكون إجباريًّا حتّي نرتعد عند تذكُّرِه.

*

قام من على مكتبه وعيناه تبكيان، نظر في المرآة فوجد وجههُ الجديد القبيح، أغمض حدقتيه وابتعد، وضع القبعة السوداء على رأسهِ واتّجه نحو الباب ورحل،

في الطُرقات التي لا تنتهي أبدًا نكسَ وجههُ أرضًا مُخفيًا ملامحُة الغريبة بقبعتةِ حتى لا يرى أحد دمامتُة.

في عيادة التجميل جلس، ينتظر دَورةُ الإسبوعيّ، ولكن على غير العادة خلت العيادة إلا من امرأة، لمّا تلاقت الأعيُن للمرةِ الأولى حسبها شبحًا لغموضها وغرابة هيئتها، وعند تلاقي الأعيُن مرّة ثانية قاموا بتحية بعضهما في فتور وغرابة، وبعدها نكس الإثنان وجههما أرضاً. بعد دقائق سمع رائيل نحنحة المرأة وبعدها وجّهتْ لهُ الكلام في تردد:

– إذا أردتَ الحديث، فأنا أُريد الإستماع.

لم يُجب ولم يُحرّك ساكنًا حتّى، فتابعت قائلة كمن لا ينتظر ردا:

– أُريد التحدُّث مع مَن يُشبهُني. اسمح لي بالكلام إذا لم ترغب أنتَ في ذلك.

حينها رفع رائيل وجهه وابتسم قائلاً:

– تحدّثي إذًا، أنا أسمعُكِ.

– أنظُر إلى هذه الصورة.

قالتها وهي تُري رائيل صورة لفتاة جميلة يظهر من ملامحها أنها في العقد الثاني مِن العُمر، فتاة خمرية ذات شعر بُنّي وعينان بُنّيتان واسعتان وشَفتين رفيعتين.

– مَن الجميلةُ إذًا؟

تساءل رائيل بحماس يُخالف ذلك السكون الذي يجتاح دواخلُه منذُ فترة. تلك الآونة التي تنعدم فيها رغبتنا تجاه الأشياء، تصبح أصعب الآونة التي نكون فيها على طبيعتنا البشرية – المشاعرية – الحمقاء.

وقالت المرأة مقاطعة صوت رائيل الداخلي الذي ينهش كينونتهُ دواليك:

– إنها مريم ابنتي.

– اسمٌ جميل، حفظها الله.

فاستدركت قائلة والدموع تنسدل من مؤق عيناها:

– لقد ماتت.

أظهرَ رائيل المواساة على ملامحةُ الواهنة، وتابعت المرأة دون أن تُبالي بملامح وجهه المتخبّطة:

– حاول زوجي أن يغتصبها فرفضتْ وأخبرتني بذلك، ولكن يا لجحودي لم أُصدّقها وطردتها من البيت. لعنني الله.

تفاجأ رائيل عند سماعُه تلك العبارات، وتساءل جاهداً في ضيق:

– وكيف ماتت؟

– ألقت بجسدِها من أعلى مبنيً شاهق، وألقت بروحي إلى الهاويةِ معها.

قالتها وأجهشتْ في البُكاء فما كان على رائيل سوى أن يكسر حفيظتة ويقوم من مقعدة ويجلس بجانبها، مُخففًا ربت على كتفها وتبسّم قائلًا:

– لا تحزني، ولتتغمدها الرحمة بإذن الله، لا لوم عليكِ في ذلك.

– وكيف لا وأنا التي طردتها من البيت.

فتنهّد رائيل قائلًا:

– قَدَر.

– لا تقُل لي قدر وأنا من فعلتهُ بإرادتي.

صمتَ لمّا احتدَّ صوت المرأة وأدركَ أنهُ لا يملك مِن الكلمات ما يُخفف وطأة الاحتقان الجارية.

– آسفة، لم أكُن أقصُد أن أرفعَ صوت المعارك الداخلية عليك.

قالتها وهي تُكفكف دموعها، وبعد ثوانٍ أكملت قائلة:

– بعد انتحارها بإسبوع، جُنَّ جنون زوجي وظهرَ على حقيقتُة، وإذ بي في ليلة كالحة أدخل إلى المنزل لأجدُه مع عاهرٍة ولمّا نهرتُه، ضربَني، لكَ حق التخيُّل.

وقال رائيل وهو يتجنّب النظر في عينيها:

– لا أستطيع التخيُّل حقًا، عقلي مُتخبّط وقلبي أشعُر بخفقان نبضاته في صدري، إنها لَمُصيبة شديدة أُهنئُكِ على صمودك حتّى الآن.

وقال رائيل مُحدّثًا نفسه دون أن يظهر صوتُه في المكان “يالكَ مِن ساذجٍ سخيف، لا تستطيع مواساتك ولا مواساة غيرك حتّى. قُل لي لِما تحيى حتّي الآن!، مُت وارحم البشرية مِن سذاجتكَ وقلة حيلتك”.

وتابعت المرأة قائلة:

– وبعد أيام كرر فعلتُه مرّة أُخرى فنهرتُه وهددتُه بالرحيل، فضربني وأشعل الموقد ووضعَ وجهي على النار المُشتعلة حتى جعل صوت صُراخي يُلاطم الجُدران حولي، وبعد كُل ذلك ذهب بي ذلك النذل إلى المشفى وقال لهم أنّي تعثّرت بالموقد ووقعَ الماء الساخن مِن أعلاه على وجهي، كان مُحترِفا في الكذب كعادتُه فصدّقهُ الجميع، وبعد اسبوع من خروجي من المشفى إذ بهِ يُرسل لي قسيمة الطلاق، يالهُ من حقير لا تعرفُ الرحمة مكانًا في قلبةِ.

يظنُ الإنسان أن لهُ قيمة عند الآخرين، حتّى تصدمهُ الحقيقة فيموت غرقًا في الأهوال الذاتية.

– أستاذ (راء)، حان دورك تفضّل بالدخول، الطبيبُ ينتظرك.

كان الصوت يعود إلى الممرضة التي وجّهت ندائُها إلى رائيل الذي جلس كالمصلوب، قام بعد دقائق من البلاهة الشديدة وربت على كتف المرأة وقال:

– أعذريني، نُكمل حديثنا عند خروجي.

بعد دقائق خرجَ رائيل ليجد أن المرأة قد رحلت إلى وجهه لا يعلمُها.

*

في الطريق إلى المنزل، هرول رائيل كالمسعور وعند وصوله إلى المنزل وجدهم في الصالة مُتّشحين بالسوادِ جميعًا رجالًا كانوا أو نساء.

فتسائل قائلاً:

– أين جدتي؟

فأجابهُ أباه في فتور:

– في القبر.

فرد الآخر في غضب:

– ولِم لم تخبرونني مُبكرًا عن ذلك، لقد كنتُ أرغب في أن أراها مثلما فعلتم!

فقالت الأم:

– اخلُد إلى النوم لا حاجة لهتافاتك الآن.

– سيُحاسبكم الله على قسوةِ قلوبكم تلك.

عند سماع الأب تلك العبارة صفع رائيل على وجهه بقوّة، فكتم رائيل صوت نحيبه واتّجه إلى غرفته في سرعة وخذلان.

مِن نافذة غرفتةِ خرجَ إلى الطريق، هشّمَ زُجاج باب سيارة والده وأدار مُحرّكها كما شرحَ لهُ محمود صديقُه كيفية فعل ذلك.

ركض وركضَ مُحرّك السُرعة معه، ومع الزيادة في السُرعة ازداد بُكاؤه، حتى أصبح لا يرى شئياً، فإذا بالسيارة تصطدم بأخرى قادمة مِن شارع جانبي، وتُعتم الإضاءة بغتة وتموت الدموع في عينية.

*

على المكتب جلسَ يُفكّر في تلك المرأة الغريبة، وتساءل كيف لها أن تكون صامدة بعد كُل هذه المُعاناة، لِمَ لم تقتُل نفسها كابنتها أو كما يُفكّر هو نفسه في الفعل ذاته كل يوم، فالحياة مسرحية مُترعة بالتراجيديا المُجحفة لهؤلاء مِن مَن يملكون المشاعر الإنسانيةِ بحق.

بعد عام.

دلفت المرأة من باب عيادة التجميل عندما كان يجلُس رائيل ليحصُل على آخر جلسةِ تجميلية له، ولكن وجهها أصبح على خلاف ما كان، أصبح كالبدرِ المُتوهّج.

تابعها رائيل بعينيه حتّى ضربتهُ صاعقة التذكُّر فقام مُهرولًا إلى حيثُ جلست وتسائل في حيوية:

– ألم نلتق من قبل؟

– بلى يا رائيل، التقينا.

فقال فاغرًا فاه عن ضحكة:

– سمر، لقد كُنتِ طوال الوقت سمر، مازلتِ تذكُرينني إذًا!

فقالت الأُخرى

– أجل أذكُرك، يا صاحب الوجه الجميل.

“أحياناً لا يكون الموت خيارًا حكيمًا، فالحياة تستحق المُحاولة بعد كُل شيء”

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون