شعرية المعنى.. إنها حالة جديرة بالمحبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى عبادة

لحظة التعامل الأولي مع ديوان "شخص جدير بالكراهية" لعزمي عبد الوهاب، الصادر عن دار النهضة العربية، في بيروت، حملت صدمتين قاسيتين، تمثلت الأولي في الإهداء الشخصي لي: "هل هذا وقت الشعر؟"، والثانية جاءت في صفحة المدخل إلي الديوان، وهي كلمة دستويفسكي: "الحياة فوق الأربعين أمر بالغ الحرج". 

الصدمة الأولي مفهومة، لأن الديوان صدر في قلب محرقة شعبية هي ثورة يناير 2011، وصعود الخطاب السياسي لصدارة المشهد، فلم يترك مجالا لغيره، وردم علي أي جمال، حتي لو كان عابرا، فكأن الديوان حقق نبوءة نفسه، فلم يفرح صاحبه بصدوره، وكأن الشعر، وهو حالة كتابية، تطابق مع واقعه الجديد، فهو يعبر عن ذات محبطة، تتنازعها هواجس الفناء، والانقطاع، وعدم الديمومة، وقد جاء الديوان في لحظة لا يلتفت فيها أحد إلي الشعر، لتكتمل دائرة الإحباط في نفس صاحبه.

أما الصدمة الأخري، التي تحملها جملة دستويفسكي، فلم تكن قبل القراءة مفهومة، إلا في إطار بحث الذات الشاعرة عن مجال يقينها خارجها، ومحاولة البحث عن معني كبير يؤطر تجربتها، ويشكل مفتاح الدخول إلي عالمها، وإن ظل معني بعيدا يخص تجربة أخري وحياة مختلفة، ولا يفهم إلا في سياق الروح الإنسانية العامة، التي شغلت نفسها بمعني الوجود، فوقعت في إطار وقبضة اللامعني واللا وجود، ويمكنها جملة دستويفسكي أن تلقي ظلا كثيفاً خارجيا أثناء قراءة قصائد الديوان، بحيث يشوش علي التلقي، ويحد من تنوع معانيه، تحت سقف مقولة، هي إطار عام، أو كضفتي نهر تحدان من انطلاقه.

إذا تجاوزت هاتين الصدمتين، وانتهيت من قراءة الديوان ستهتف: “يا له من شغف شهواني مخيف كأفلام الرعب!” نعم إنه المعني المفتاح الذي يلضم حالة الديوان كلها، فطرفا الجملة السابقة: الشغف الشهواني كطرف أول، والمخيف كأفلام الرعب، هما دراما الشعر في الديوان، وهما كدر الحياة وقدرها، في المعني الراسخ وراء الكتابة، فالشغف الشهواني هو الخيط الرفيع والقوي الذي يربط الذات بهذه الحياة، لكن الخوف والرعب يكمنان في انقطاع هذا الخيط، وليس الانقطاع إلا الدافع الكامن في الاستمتاع بهذا الشغف: “كأننا نتحدث كل من مكان”، كما في قصيدة “محاولة للكتابة عن أرملة صغيرة” أو: “فكأنه الليل، وكأنه الشتاء، وكأنها المرأة الأولي، وكأنه الرجل الأخير، تلك هي المأساة” من قصيدة “تنام الأشياء كما تركناها بالأمس“.

الديوان يحوي تسع قصائد، وهو حالة واحدة موضوعية وأدائية: الفقد والتوق والحرمان، الأرملة والشاعر المحبط، والتقاليد التي تخاصم الحياة، كطرف أول، والفضفضة والبوح، ومجرد الكلام، والتعبير عن الذات، بكلام بسيط مباشر، دون بلاغة، كحالة ثانية، الشغف بالحياة، في مقابل الخوف منها، الحالة كلها متخلصة من الأوهام، تحدد حركة الذات في لحظتها الراهنة، لا تنظر إلي الوراء ولا تتأمله، ولا تعرف غداً، ولا تأمله، الديوان كله ليس فيه “سوف” أو “سين المستقبل”، إنه هنا والآن، في مأزق وجودي، لا يعرف مخرجاً، في حلقة محكمة تراوح مكانها، وتتعامل مع المفردات نفسها، والتفاصيل والأجساد، وكل شيء ثابت لا يتحرك منذ البداية: “كل شيء كما تركناه بالأمس”، وكل ما نتعامل معه سبق أن جربناه: “مع أنه بسيط للغاية، فهو إنسان سلبي/ اعتاد حياة مملة علي مدار أربعين عاماً/ لا يحب المفاجآت حتي لو كانت سارة”، كما في “سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية”، هو يسحب حالته علي كل شيء يتعامل معه: “إنه يصحو وينام، يتكلم ويصمت/ يلتقي وجوهاً ويودع أخري/ يتذكر وينسي/ يأكل ويشرب كواجب وظيفي/ سأم.. سأم.. سأم” الحالة ترسخ نفسها، مع ذات مستسلمة، متخلصة من الأوهام، والشعر ابن بار للأوهام، والتحدي الجاد، هو كيف تكتب، وقد تخلصت منها، إنها ميزة الديوان الشعرية، التي تستدعي تاريخها فيطل “صلاح عبد الصبور” بنصه وشخصه، تسحب الحالة نفسها علي الماضي أيضا: “كنا علي ظهر الطريق عصابة من أشقياء/ متعذبين كآلهة/ بالكتب الأفكار والدخان والزمن المقيت” أو: “يا صاحبي إني حزين/ طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح” أو “كم أنت قاسٍ موحش ياأيها الإله“.

إنه صلاح عبد الصبور، وإنها الوجودية التي تعي ذاتها، وحصارها تحت وطأة اشتراطات الواقع، والشعور العميق بالنقصان الدائم، والحنين إلي الاكتمال، وتظل ثنائية: “النقصان والاكتمال” كنهر صغير، من ثنائية الشغف بالحياة والخوف منها، محوراً مركزيا، تطل برأسها من أغلب القصائد، وعد إذا شئت إضافة إلي ذلك إلي مقولتي الإهداء والافتتاح، اللتين أشرت إليهما من قبل، واقرأ القصيدة الأولي: “تنام الأشياء كما تركناها بالأمس” أيضا، لتكتشف أنها جمعت خيوط كل الديوان، فكأن كل ما تلاها جزء لها، أو خارج منها، كأنه الهامش بعد متن، ففيها الملامح الموضوعية والأدائية لهذا الديوان كله، وتكملها القصيدة قبل الأخيرة “مسيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية”، وكان الأجدر فنيًا أن تكون الأخيرة، ليس فنيا فقط ، بل وموضوعيا أيضا، وفق حالة الديوان، فكأنها بداية القوس واكتماله.

الكتابة هنا تقترن بالأرملة، وهي مرآة للشاعر، أو شبيهه وقرينه الوجودي، ووجه العملة الآخر، فالأرملة فقدت زوجاً، أو متزوجة ممن لا تحب، وهنا الذات تحذف ما تكره، تراه عدما، والشاعر يفقد صلته بالحياة، وبالمنطق الشكلي والفني يكون التقاؤهما ضرورياً وحتمياً، ومنهما وبهما معا، تتشابك خيوط الدراما وتتفرع، فالذات الشاعرة أيضا تحذف ما لا تريد، الإحباط الحالم بالمثالية، فتجعل من حالات الفقد واللوعة والوحدة والكلام السري معبرا من اتحاد الأرملتين ( وجهي العملة ) من فقدت زوجا أو أماتته، ومن فقد صلته بالحياة، لأنها ليست علي مقاسه، ومن عرف ما لا يعجبه، تأكد مما يعجبه.

هنا في الديوان نقف أمام بساطة المعني.. بساطة الأداء، لا أوهام في المعني، ولا زخرفة في تشكيله، فتأخذ القصائد طابع الحديث المباشر، الموجه إلي شخص، بآليات السرد والاستفهام، والتقطيع والمونتاج، كأن القارئ يعرف بداية الحكاية، فيحيله الشاعر إلي ما يعتقد أنه يعرفه، وتشكل حالة الإقصاء المزدوجة: الذات الشاعرة مع أوهامها، والأرملة مع ذاتها، المسافة بين المعني وصياغته، بين الذات ومفهومها للشعر، وفي تلك المسافة يأخذ الشعر طابعا مسرحيا، إنه صوت يتصادي مع إعجاب الجمهور، وصوت الشاعر يجد تردد صداه مع أنات الأرملة: “متي تنتهي الرغبة؟/ لن تنتهي ولن تتحقق”، من قصيدة “حوار لم يكتمل” ومنها أيضا: “إنه مارد رقيق دافئ وعاشق/ كلما أطل من قمقمه بحذر/ وجد العالم مرعبا/ حبس نفسه ثانية“.

المرأة، والرغبة الجنسية، التي لن تكتمل ولن تتحقق، هي الرابط الوحيد بين ذات الشاعر، وبين الحياة، ثنائية الشغف بالحياة، والانقطاع الجاثم في لحظة الشغف ذاتها، وهو ما سيحوِّل المرأة والرغبة إلي مخرج هروبي من قبح الذات، وقبح عالمها، والوجودية تقتضي أيضا بالحتم أن تتحول الرغبة نفسها إلي أزمة، إلي طريق مسدود، إنها الدراما التي تغني قصيدة النثر، ولولاها لكنت بإزاء غنائية حزينة، برغم أن الديوان لم يخل من هذه الغنائية ، لكنها غنائية مركبة، مأساوية، ساخرة، غنائية الغريزة، والجانب الفطري في الحياة.

هنا في “شخص جدير بالكراهية” شعر فطري، تجاوز الإرث السبعيني، فتدفقت الحياة في القصيدة، وعاد الإنسان الطبيعي والطموح والعاشق، المحبط والمتوله والمتسخ إلي مملكته، متخلصا من كم الرموز والأساطير الكونية، من اليونان والرومان والهند، من الديانات والنظريات الكبري، متخلصا من كل الما ورائيات، من الذهن وتوظيف الثقافة، من كل شيء خارج الذات، الشعرية هنا هي شعرية المعني الخاص بصاحبه، شعرية المعني بامتياز، التي تكمن في الإمساك بأدق المشاعر، لتجعل منها ضوءًا كاشفا للنفس البشرية، للاحتياج الجسدي، والفراغ الروحي، للإشباع الروحي والفراغ الجسدي، ولا سبيل إلي التقائهما، كأنه قدر عانيناه منذ الأزل وسنعانيه، معضلة وجودية مرة أخري تكشف حالة الديوان، وأخطر ما فيها أنها تتسرب إليك، حتي إنك تعجب كيف أن صاحب هذا الديوان، متغطرس الصمت والتحفظ، يحمل تحت جوانحه هشاشة هذا الحنين الوجودي، وعشق الحياة، إنها حالة جديرة بالمحبة، وصاحبها جدير بما هو أكبر وأكثر من المحبة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم