شعرية الفضاء في “حكايات حارتنا”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

ما بين إنشائية أرسطو (384- 322 ق م) وشعرية تودوروف (1939-2017) تعددت مفاهيم الشعرية ([1])،واتسعت آفاق تطبيقاتها تطويرا للمصطلح في علاقاته بفنون الإبداع من جهة وبمقاربته عبر وسيط فني محدد من جهة أخرى، فإذا كانت الشعرية قد بدأت مع الشعر فإنها لم تستقر لديه فاتحة علاقاتها مع غيره من الأجناس الأدبية، وعلى الرغم من اشتغالها على اللغة فإنها لم تلتزم حالة من الجمود في تعاملها مع اللغة أو مكاشفاتها مع اللغات المختلفة وفق الأجناس المختلفة، إذ هي في اشتغالها على النصوص المختلفة حتى داخل الجنس الأدبي الواحد عمدت إلى تشكيل أسلوبها الخاص في النصوص محل المكاشفة مؤكدة أنها أسلوب يخص كل نص تماما كما أنها أسلوب يختاره المؤلف منتجا مجموعة العلاقات التي من شأنها العمل في كل النصوص، وطوال الوقت تؤكد الشعرية على انزياحيتها متطابقة مع واحدة من خصائصها القارة (الانزياح ) وترسيخا لكونها أسلوبا انزياحيا بالأساس، “الأسلوب إذن في أي نص أدبي انزياح “([2])، انزياح يتخلص من اليومي أولا ومن أنماط التعبير السائدة في النصوص الراسخة في التراث الإنساني ثانيا، لتكون بمثابة الخلايا المتجددة باستمرار.

والشعرية من زاوية الانزياح نوع من الحركة الديناميكية غير المستقرة في محاولة لاستنباط القوانين الأدبية ” هي محاولة وضع نظرية عامة ومجردة ومحايثة للأدب بوصفه فنا لفظيا، إنها تستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبية، فهي إذن تشخص قوانين الأدبية في أي خطاب لغوي ” ([3])، ذلك الخطاب الذي لا يقوم على اللغة بشكل عام وإنما يتأسس على خصوصية اللغة تبعا لخصوصية النوع الأدبي: ” الشعرية لا تتخذ اللغة عامة موضوعا لها بل تقتصر على شكل من أشكالها الخاصة ” ([4])، شكل يؤطر العلاقة بين منتج الشعرية ومتلقيها في زمن منفتح على التلقي لا حدود له ولا حدود لأشكال التلقي ذاتها.

إن علاقة قوية تجمع بين الشعرية والفضاء، فإذا الانزياح خروجا عن المألوف يقترب كثيرا حد التشابه مع الفضاء بوصفه انطلاقا من الواقع المادي إلى واقع متخيل / افتراضي، مؤسسا لعلاقة أخرى تعتمد على أن الشعرية بحث عن متخيل (الفضاء) وتأكيد على قواه الدلالية، فإذا كان الفضاء يعني الاتساع، فالشعرية تعني انطلاق الخيال إلى فضاء وسيع، تكون الشعرية فيه أداة اكتشاف للفضاء بوصفه تقنية إنتاج، من ثلاث زوايا تتحقق الشعرية في نصوص نجيب محفوظ، وتشكل علاقتها القائمة مع الفضاء في تلازم دال:

  • الفرادة: ممثلة في خصوصية فضاء نجيب محفوظ على الرغم من التشابه الظاهر بين الفضاءات المتعددة لأعماله (الأعمال التي تدور أحداثها في الحارة المصرية خاصة) حيث عمد نجيب محفوظ إلى استخدام تقنية الأستديو ([5]) حين جعل نجيب محفوظ الحارة المصرية تقوم بدور الاستديو الكبير لعدد من الروايات، ولكنه استديو منفتح يتيح مساحة من الحركة داخل القاهرة بحيث كانت الحارة بمثابة مساحة الاستديو الذى يحتضن التصوير الداخلي وتكون القاهرة خارج الحارة بمثابة استديو خاص بالتصوير الخارجي، ويمكن رصد ثلاثة أمكنة عامة تمثل ثلاثة إستديوهات كبرى وضعها نجيب محفوظ لتكون مسرحا لأحداث رواياته:
  • المرحلة التاريخية: وتضم الروايات الثلاثة: عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة ولا يبتعد الأستديو كثيرا عن الحارة الشعبية التي ظهرت في المرحلة اللاحقة حيث انحازت الروايات في جانب منها إلى الشعب بوصفه مصدرا للسلطة تلك السلطة التي منحها الكاتب للحارة الشعبية الأكثر شهرة في أعمال الكاتب.
  • المرحلة الواقعية داخل القاهرة: وهي المرحلة التي بنى فيها نجيب محفوظ أكبر استديو روائي عرفته الرواية العربية، فلم يكن أي من المخرجين الذين قدموا أعمال نجيب محفوظ الروائية للسينما ليغير من طبيعة الحارة المصرية أو لنقل الحي الشعبي الذي شكل نجيب محفوظ تفاصيله وتجلى في معظم أعماله إن لم يكن كلها على اعتبار أن النسبة القليلة جدا من أعماله تمثل استثناء للقاعدة.
  • المرحلة الواقعية خارج القاهرة: وتمثل ” ميرامار ” النموذج الأوفى والأوضح لهذا الجانب حيث الخروج عن القاهرة إلى الإسكندرية.
  • الكشف: فالشعرية كشف عن الخصائص الأدبية للنص، والفضاء كشف عن الخصائص الدلالية للنص عبر تفاصيل فضائه، الشعرية وسيلة والفضاء تقنية يكتب بها السارد لا يكتب عنها، “الشعرية إذن مقاربة للأدب ” مجردة ” و” باطنية ” في الآن نفسه “([6])، والفضاء يحيط بالأدب خارجه ويتحقق فيه من داخله، فإذا كان الفضاء داخل النص نوعا من الخصائص فإنه مجال عمل الشعرية حين تعمل على كشف طرائق تشكيله، وآليات عمله.
  • وجهة النظر: تلك التي تشكل عنصر الاختيار الممنوع للمؤلف مما يجعل جملة اختياراته بمثابة وجهة النظر متعددة الوجوه بتعدد أشكال التلقي وهو ما يصب في التأكيد على شعرية النص عبر ثراء وجهة نظر المؤلف ([7]) التي يتكشفها المتلقي عبر القراءة بوصفها حركة فاعلة في فضاء النص “القراءة مسار في فضاء النص. مسار لا ينحصر في وصل الأحرف بعضها ببعض من اليمين إلى اليسار ومن أعلى إلى أسفل…… وإنما هو يفصل المتلاحم ويجمع المتباعد، وهو على وجه التدقيق يشكل النص في فضائه لا في خطيته” ([8])، ومن الأهمية بمكان مكاشفة المتلقي وجهة نظر السارد تحقيقا للتناغم أو البث على موجة واحدة سيكون لها أثرها في تحقيق الاتصال الفعال للنص.

إذا كانت الشعرية قد وسعت من مجال عملها في السرد مطبقة أو باحثة عن قوانين العمل في نصوص سردية لها سماتها الشعرية، كاشفة عن عمق هذه القوانين ومدى تحققها في نصوص كتاب عنها في نصوص أخرى، ومحققة تصنيفا للكتاب بين من تأتي نصوصهم في طبقة عليا ومن هم دون ذلك، فإن نصوص نجيب محفوظ واحدة من نصوص الطبقة الأولى وهو ما تؤكده مقاربة بعضها تدليلا على مجموعها، ونموذجنا عمل عابر للأنواع السردية جامع بينها.

بين ثلاثة أجناس أدبية (الرواية، المتتالية القصصية، القصة القصيرة) تحقق “حكايات حارتنا ” وجودها بوصفها واحدة من أعمال نجيب محفوظ ذات الطابع الخاص، مكتسبة خصوصيتها – بداية – من ذلك الشكل المتميز الذي جاءت عليه، والتصنيف الثلاثي تؤكده ثلاث علامات دالة:

  • الرواية: تشير إلى ذلك القائمة التي وضعها الناشر الأول والأساسي (مكتبة مصر) لمؤلفات نجيب محفوظ، ولأن القائمة تكررت في معظم أعمال الكاتب المنشورة في حياته (1911- 2006) وهو ما يعني موافقة (ضمنية) منه على التصنيف المطروح عبر القائمة ([9]) مما يدخلها في سياق أعماله الروائية منفردة باعتمادها حكاية ممتدة الخيوط، متعددة التفاصيل، ذات أحداث متنوعة تضمها حكايات مترابطة في سبيكة سردية واحدة تتدرج فيها الأحداث بتدرج وعي السارد ونمو رؤيته للحياة في الحارة.
  • القراءة المنفصلة: تضع متلقيها إزاء نصوص قصصية تحقق مستوى من مستويات القصة القصيرة كما يعرفها القارئ ويدركها الكاتب، وفي هذه القراءة يمكنك البدء بأي حكاية فيها بحيث لا تحافظ على الترتيب النصي كما أورده السارد وكما حافظ عليه الناشر، وهذه الآلية تقدم طرحا مختلفا للقراءة يتمثل في كون الحكايات تتوازى لا تتوالى وهو ما يخالف فيه الفضاء النصي الفضاء الواقعي، فالحكايات في الواقع تحدث متوازية لا متوالية، والسارد الصغير لا يسجل يومياته محكوما بوعيه المتنامي وإنما يسجل علاقته بالعالم وقدرته على الرؤية في زمن ما، غير أن القارئ لا يتعامل مع الحكايات كما يراها السارد وبطريقته وعلى الترتيب نفسه، فالسارد يعاين ذلك الفضاء الأفقي الذي تتجاور فيه الحكايات بشكل دائري مما يعني أنه محكوم بقدرته على الرؤية، خلافا للقارئ المحكوم بتوالي الحكايات على الصفحة (الفضاء النصي ) حيث الكتابة محكومة بالتوالي لا بالتوازي كما هو الحال فيما يحدث في الواقع ويفسره تماما مجموعة العازفين في الأوركسترا ([10]).
  • القراءة المتصلة: تلك التي تعتمد على ترابط النصوص فيما بينها، عبر مجموعة من العلامات الرابطة بينها مما يجعلها مجموعة من المشاهد المتضامة بغية تشكيل نص واحد له طبيعته الكلية القائمة على عدد (غير محدود) من العناصر الجمالية، وهو ما يقترب بها من المتتالية القصصية، حيث الأشخاص يتتابعون والحكايات تتوالى بوصفها مفردة فاعلة لتشكيل نص متعدد الشخصيات يكمل كل منها الجملة السردية الكبرى (الحكايات).

 تأخذ الحكايات موقعها الثلاثيني (30) في قائمة أعمال نجيب محفوظ (يسبقها عشرون رواية، وثماني مجموعات قصصية وكتاب مترجم “مصر القديمة “) ([11]) وتتلوها مساحة تكاد تقارب سابقتها مما يجعل منها عملا متوسطا في أعماله يمثل (وفق حساب الأرقام) اكتمال النضج أو الاكتمال في قمته، وما يجعلها نصوصا تتسم بداية بسمتين أساسيتين:

  • كونها تأتي في سياق مرحلة نضج صاحبها، وتدلل عليها.
  • كونها تمثل دائرة لها موقعها في سياق أنماط التجريب التي اعتمدها الكاتب عبر حياة قلمه، وتجعل متلقيها يضعها في حالة مقارنة بينها وبين قصصه القصيرة، وفي حالة مقاربة مع بقية النتاج بحثا عن سمات المقاربة والمخالفة والثانية (المخالفة) لا تعني سوى توسيع مدى التنوع لطرح أشكال سردية متفردة يدركها متلقيه بوصفها دليلا على حيوية فعل الكتابة لديه.

في الحكايات تتسع دائرة المكان من الدائرة الأضيق (البيت) مرورا بالدائرة الأوسع (الحارة) حتى الدائرة الأكثر اتساعا (الكون) وفق منظومة رمزية ترتفع بالرمز من الدائرة الأولى إلى الدائرة الأخيرة، وتحرك أفق التلقي على مساحات غير منظورة على مستوى استكشاف العالم، حيث تبدو الحارة مانحة الحكايات مستوياتها أو بالأحرى متوازية مع مستويات تلقي الحارة وحكاياتها ومساحات الوعي بها، ذلك الوعي المتدرج من لدن السارد والموازي له تدرج وعي المتلقي بالعالم المسرود الذي يطرحه السارد عبر حركته المتبوعة بحركة المتلقي، السارد يكتشف أولا خارطة عالم الحارة، منتجا خريطة ذهنية للعالم تلك الخريطة التي تتدفق على الأوراق منتقلة إلى المتلقي، عابرة حدود خيال الأول إلى خيال الثاني، مفضية إلى مساحة تحققها المستقرة في خريطة فضاءات الحارة.  

خريطة الفضاءات

عبر الحكايات تتشكل خارطة المكان من مجموعة من الدوائر المكانية المتداخلة، المتماسة، المترابطة: الحارة – البيت – القبو – المقابر – التكية – الحديقة – الميدان، وجميعها تمثل شخصيات اعتبارية لها أبعادها ولها وظائفها في سياق السرد، كما يمثل كل منها عنصرا له حكاياته في نسيج الحكي، مما يجعل من التفاصيل المكانية بمثابة الأحياز المتواشجة، كما يجعل منها علامات لغوية قادرة على إثبات وجودها في سياق النص وقادرة على بث الكثير من العلامات المشاركة في تشكيل عمق النص في سياقه العام.

لطرح تفاصيل الخارطة المكانية يعتمد السارد عدة طرق، منها:

  • الإفراد: حيث النص الواحد يختص بمكان واحد (الحكاية 66)، ذلك الصبي الصغير الذي يقف وراء قضبان البدروم يلوح العابرين، هو حبيس الحجرة مغلقة الباب وحيدا من أسرته، طارحا الكثير من المعاني المؤسسة على وضعيته، تلك التي تجعل الناس في الخارج يتحركون نحوه لأنه ببساطة يرمز لدواخل نفوسهم لذا يعتمد السارد مفردة الإدراك في نهاية النص جاعلا من الحوار السريع بين الناس والحبيس بمثابة رحلة لإدراك الداخل:” ويدرك العابر الموقف على نحو ما فيبتسم إليه مشجعا ويذهب، ويلوح وجه الصبي الصغير وراء القضبان وهو يتطلع بشوق إلى الناس والطريق ” ([12]).
  • الاقتران: حيث يقرن السارد بين مكانين أو ثلاثة داخل الحارة، ويحرك بينهما أو فيهما شخصيته / شخصياته، من مثل “الخفير سلامة “في الحكاية الرابعة والستين الجامعة ثلاثة أمكنة: فضاء الحارة – قسم الشرطة – مخزن الغلال، رابطا بين ما يحدث له في مكان من الأمكنة الثلاثة التي تعمل بدورها على توسيع مجال رؤية المتلقي، ومنحه قدرا من الحيوية والتركيز خلال حركته مع الشخصية في حركتها المكانية، ومنتجا خريطة مكانية يتبع فيها المتلقي سارده مستكشفا تلك العوالم المتداخلة، ومتناغما مع إيقاع إشراقات السارد عبر المكان، وإشراقات المكان في خيال السارد.
  • التجميع: حيث النص الواحد يجمع أكبر عدد الأمكنة، وهو ما يجعل السارد يضع شخصيته في حالة حركة “نادرا ما يخرج من الحارة ” (الحكاية 69) والندرة إن كانت تعني ضيق المكان بالنسبة له فإنها تعني تميز خروجه حين يحدث، ومن ثم لا يكتفي أبو المكارم بالخروج المكاني المتعين وإنما يتجاوزه إلى خروج أبعد (يهيم على وجهه – يموت – يدفن في قبور الصدقة – يقام له ضريح فوق قبره، والخروج هنا نوع من الانعتاق خروجا عن المادة إلى ما هو أسمى، لذا تأتي الجملة الأخيرة في الحكاية بمثابة خاتمة النص وانفتاح العالم:” العبرة بالحلم، لقد من الله عليه بحلم، فهل تملك أنت حلما مثله ؟” ([13])، والسؤال إذ يشعل مخيلة متلقيه يدعوه لطرح أسئلة أعمق عن الحلم بوصفه نقيضا للواقع، وعن الخروج من الجسد إلى الكون، وعن الحلول، حلول الحلم في الجسد تدعوه للخروج.

تتشكل شعرية الحكايات من كونها تطرح نصا واحدا متعدد الشخصيات المتعالقة، والحكايات المتماسة والمتوالدة والمتشابكة الأحداث مما يجعله سبيكة سردية لها خصوصيتها، كما أن لها عمقها وقدرتها على تشكيل خارطة سردية، تلك السبيكة التي لا يمكن الفصل بين مكوناتها، وليس بإمكان المتلقي الانتقاء من هذه المكونات أو وضعها موضع الفحص بغية المفاضلة بين تفاصيلها.

السبيكة السردية نفسها تتشكل من مجموعة من السبائك الأصغر التي تكون بمثابة خلايا سردية تتكشف شعريتها عبر اللغة ونظامها المتفرد عبر نطاق واسع من سبائك سردية يطرحها السارد في سياق عمله (حكاياته)، حيث اللغة بمستوياتها والنظام السردي بتجلياته وأطروحاته وتفاصيل إنشائه قادرة جميعها على طرح مجموعة من الحكايات فريدة التشكيل، تتأسس فرادتها على نظامها الفريد الذي يتكشف لا من النظر للعالم المنتج باللغة في تصويرها الكلي وإنما تتجلى من سبائك لغوية صغرى قد تتبلور في جملة واحدة تكاد تمثل مقولة النص أو خلاصة التجربة الإنسانية،ويوحي لمتلقيه لإدراكها والتوصل إليها لذا فإنه لا يستهل النص بها، كيلا يشغل المتلقي بما تكتنزه من دلالات قد يكون لها دورها السلبي في الخروج  عن النص منذ البداية، ومن ثم الخروج من المجال الحيوي للنص لذا  يبثها السارد في موضعين محددين لا ثالث لهما:

  • في عمق البنية النصية: مما يجعلها بمثابة النقطة المضيئة التي يتوقف عندها المتلقي بوصفها بؤرة تأمل تضيء ما حولها من منعطفات السرد، كما تمثل مقولة تمنح المتلقي مساحة للتأمل دون إيقاف تدفق السرد، منتجة ما يشبه الجزيرة السردية أو بقعة الهدوء في سياق النص وهي بقعة قد تطول:

لا تخش أن يأخذ الناس الحياة مأخذ العبث إذ إنها أمانة ملقاة علينا ولا مفر من حملها بكل جدية وإلا هلكنا…………………………..وذات يوم سيحقق الإنسان نوعا من الكمال في نفسه ومجتمعه، وعند ذاك، وعند ذاك فقط، ستسمح له شخصيته الجديدة بإدراك معنى الألوهية وتتجلى له حقيقتها الأبدية “([14])

  • في نهاية الحكاية: فتكون بمثابة خلاصة التجربة الإنسانية ممررة عبر السارد وهو ما يتحقق في الحكاية السبعين:

أي فرد منا لا تتيسر له الحياة إلا بفضل معرفته للأصل الذي جاء منه والهدف الذي يسعى إليه، أما عبد الله فقد تيسرت له الحياة وحظي ببركاتها مع جهله بكل ذلك، ومن ينعم بملكوت الحياة وهو يجهل أصله وهدفه ومعنى حياته جدير بالولاية والتقديس!” ( [15])

ويتكرر التحقق في أكثر من موضع على مدار الحكايات، منها الحكاية الثالثة والسبعون:

” أهل حارتنا لا يفهمون إلا لغة واحدة هي اللغة المشتقة من همومهم، الحاوية لعذاباتهم، المقدسة بأوراد الكائن المرجو عند الشدة الذي تريد أن تنزعه من قلوبهم ” ([16]).

مثل هذه السبائك في نهاية النص تحيل إلى نوع محدد من النهايات ” النهاية الامتدادية ” ([17])، حيث ينتهي النص ويحتفظ المتلقي بالإضاءة الأخيرة ممتدة خارج محيط النص لغويا وداخل محيطه دلاليا، وتعمل على أن تكون في المنطقة الفاصلة بين النص بوصفه مجازا يستهدف مكانه في الحقيقة، والواقع الخارجي بوصفه حقيقة تتجمل بالمجاز، وبينهما تتحقق شعرية القول ودلالة السرد.   

الاستهلال المكاني في الحكايات

يفرض المكان نفسه على كل أشكال الاستهلال النصي، وتقدم الحارة نفسها بوصفها علامة سردية منذ العنوان الوحيد في المجموعة (عنوان المجموعة نفسها) ذلك العنوان الذي يحدد مجموعة العناصر السردية الأساسية: المكان المتضمن في المفردة بوصفها علامة لغوية تحيل إلى المكان، والزمان المحدد منطقيا مرتبطا بزمن الحكي وجميعها تتعاضد لتطرح صورة المكان.

لا تقف الحارة عن الاستهلال المطروح في العتبة الأولى (عنوان المجموعة)، وإنما تتجاوزها إلى مجموعة الاستهلالات السردية المختلفة والمتكررة على مدار مجموعة الحكايات بكاملها بحيث تتحول الجملة السردية الأولى إلى عتبة داخلية، فعندما يغيب العنوان عن النص ويحل محله الرقم فإن عبور المتلقي على الرقم يكون أسرع مما لو كانت العتبة علامة لغوية وليست رقما، لذا فإن الجملة الأولى تفرض نفسها بوصفها استهلالا أولا وبوصفها عتبة داخلية ثانيا:

يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية، ومثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية. أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا، وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة. وهاهي التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر ” ([18])، وهي جملة سردية تحقق عددا من النتائج الدالة:

  • يحدد السارد نوعين من سمات المكان: سمات عامة تخص الحارة بوصفها مكانا أساسيا في النصوص جميعها (أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا)، وهي علامة مكانية تفرض نفسها على بقية الحكايات ولا يخالفها السارد خلال رحلته في الحارة فيما تلا ذلك، وسمات خاصة تخص الحكاية الأولى المتضمنة هذه الصفات.
  • يعتمد السارد على طريقة غير تقليدية لطرح نصه، فهو لا يقدم وصف المكان معزولا عن الحدث وإنما يضفر الاثنين معا “ يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية”.
  • يعمل السارد على الاستثمار الأقصى لطاقة الرمز واضعا السارد بين الموت (القبور) والحياة (التكية) بوصفها ([19]) مساحة من المعرفة يتحرك خلالها الجميع، الكاتب يحرك السارد والسارد يحرك العالم، والعالم يحرك المتلقي في المساحة نفسها قبل ان تنفتح أو تمهيدا لانفتاحها على العالم المتسع.
  • الغموض المقصود الذي يتضمنه الاستهلال ليكون بمثابة فاعل التشويق ومنتجه، فالحارة ليست ككل الحارات والسارد حين يقدمها لا يصرح باسمها ولا يعمد إلى تقديمها بصورة تجعلها متطابقة مع غيرها من الحارات التي قد يعرفها المتلقي، لذا فإن قدرا من الأسطورية “ بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر” فإن لم تكن مستشرفا السمات الأسطورية في المشبه (الحارة – الحديقة – التكية ) فإنها قارة في المشبه به (القلعة – القمر )، والغموض لا يتوقف عند حدود الاستهلال وإنما هو نوع من التمهيد لما سيأتي من ألغاز تتمثل في اختفاء البعض، كما تتبدى في الظواهر التي لا يجد لها السارد (ومن ثم المتلقي ) تفسيرا:” أن أعرف لماذا أحيا أسهل كثيرا من أن أعرف لماذا عبدون انتحر ” ([20]).
  • ومع ظهور الشخصيات من منظور السارد يأخذ المكان في التشكل عبر رصد أبعاده واتساع تفاصيله المرتهنة بحركة الشخصيات حيث تروح التفاصيل تتكشف رويدا رويدا:”

وأحيانا يلوح في الحديقة ذو لحية مرسلة وعباءة فضفاضة وطاقية مزركشة فنهتف كلنا: يادرويش. إن شا الله تعيش “ولكنه يمضي متأملا الأرض المعشوشبة أو يتمهل عند جدول ماء، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلي ” ([21]).

  • تتضمن الجملة علامة سردية تعزز انتماء السارد والجماعة البشرية المحيطة بالمكان(حارتنا) كما أنها أيضا تعزز مصداقيته في السرد عن مكان ينفرد بمعرفته ويتفرد بالقدرة على الدراية به شأنه شأن الراوي في الحكاية القديمة ([22])، وهو ما يجعل من السارد ذاكرة للمكان ويجعل من المكان كتابه المفتوح طوال سرده الحكايات وتحريكه شخصياتها كأنه مخرج مسرحي يقوم بتحريك الشخصيات وتحديد مواعيد ظهورها على المسرح وإعادتها إلى الظل فور انتهاء أدوارها المحددة سلفا.

الحارة

في الحكايات تتكرر مفردة الحارة مائة وأربعة وستين مرة (164) موزعة وفق ستة أنماط على النحو التالي:

  • مضافة لضمير المتكلمين (حارتنا) (94 مرة).
  • معرفة بأل (الحارة) (64 مرة).
  • بصيغة الجمع (الحارات – الحواري) (خمس مرات).
  • مضافة لضمير الغائب (مرة واحدة).

والتكرار يجعل منها نسقا ثقافيا مطروحا على لسان السارد طوال الحكايات بوصفها العنصر الأكثر دورانا والعلامة الأكثر حضورا، والتكرار بدوره يقيم نوعين من الأنساق الثقافية:

  • نوع مطروح على وعي السارد يتجلى عبر التكرار، حيث يتحول العنصر المتكرر إلى أيقونة دالة على ثقافة الشخصية وعلاقتها بثقافة المكان.
  • نوع مطروح على وعي المتلقي يتجلى عبر طرح السارد نفسه مما يجعل من الحارة نسقا له طابعه الخاص، ذلك الطابع الذي يمنح النسق القدرة على الحياة داخل الحارة أولا وداخل نطاق الفضاء النصي ثانيا.

لا تقف الحارة بوصفها خلفية للفضاء ومحتضنة تفاصيل المشهد السردي وإنما تفرض الحارة قوانينها وثقافتها وأشخاصها، وتصدر للعالم الخارجي رؤية أبنائها للحياة، ويكفي التوقف عند الحكاية التاسعة لمكاشفة:

  • ثقافة الحارة وعاداتها.
  • قوانينها الصارمة.

يستهل السارد الحكاية بجملة إخبارية الطابع قبل أن يعتمد على الحوار في تشكيل المشهد وتقديمه للمتلقي:” خبر يتردد في البيت والحارة. تقول إحدى الجارات لأمي: أما سمعت الخبر العجيب؟ فتسألها عنه باهتمامٍ، فتقول:
– توحيدة بنتُ أم علي بنت عمِّ رجب؟
– مالها؟ كفى اللهُ الشّرّ
– توظّفت في الحكومة!– توظفت في الحكومة ؟ ” ([23])، يتسع مدى الخبر بين فضاءين: البيت بوصفه فضاء خاصا، والحارة بوصفها الفضاء الأوسع، وهو ما يعني أن الخبر (في دلالته على ثقافة الجماعة البشرية) يبدأ من البيت بوصفه الشريحة الإنسانية والاجتماعية ذات التأثير في الدائرة الأوسع، والدائرتان تتساويان في تلقي العجيب والتعبير عنه، والسارد لا يطرح التعجب على ألسنة الذكور وإنما يجعل الراوي شاهدا على تعجب النساء واستنكارهن لفعل واحدة من بنات جنسهن خرجت عن تقاليد الحارة.

وحتى لا يبدو الاستنكار مبنيا على ما هو مطلق غير مؤسس على مبررات يتحدد الاستنكار عبر صيغة محددة:”إي والله موظّفة، تذهب إلى الوزارة، وتجالس الرجال!
لا حولَ ولا قوة إلا بالله، إنها من أسرةٍ طيبة، وأمّها طيبة، وأبوها رجلٌ صالحٌ.
كلامٌ، أيُّ رجلٍ يرضى عن ذلك؟ اللهمَّ استرنا يا ربِّ في الدُّنيا والآخرة“([24]) وهو ما يكشف عن مبررات الرفض فليست الوظيفة الحكومية مشكلة بقدر ماهي مجالسة الرجال، فالعمل في هذا النطاق موقوف على الرجال مقصور عليهم، والرفض يفتح الباب أمام التفسيرات الكاشفة عن ثقافة الجماعة: 

يمكن لأن البنتَ غيرُ جميلة.
كانَتْ ستجدُ ابنَ الحلال على أيِّ حالٍ..وأسمعُ الألسنَ تلوكُ سيرتها في الحارة،تعلّقُ، وتسخرُ،وتنتقد،وكلما لاح أبوها عمّ رجب أسمعُ من يقول:
اللّهمَّ احفظنا!
يا لخسارةِ الرِّجالِ !” ([25]) ويلتقط أهل الحارة خيط الاستنكار ومن ثم يروح الجميع يعزفون المعزوفة نفسها متجاوزين لوم الموظفة إلى لوم الأب والأسرة التي فرطت في شرفها بأن تركت الابنة ترتكب ما يراه المجتمع عارا.

و يمنح السارد نفسه (وهو الواعي بعملية السرد) الفرصة لطرح رؤيته، تلك الرؤية التي  لا تخرج عن سطوة ثقافة المكان، وعلى الرغم من أنه يبدأ بداية تحمل قدرا من الحياد: ” توحيدة أولُ موظفةٍ من حارتِنا، ويقال إنها زاملت أختي الكبرى في الكـتّاب،ويحفزُني مـا سمعته عنها إلى التفرّجِ عليها حين عودتها من العملِ، أقفُ عندَ مدخلِ الحارة حتّى أراها وهي تغادرُ سوارسَ.”([26])  لكنه سرعان ما يتجاوز هذه الموضوعية متحولا إلى تنصيب نفسه  المتحدث السردي باسم الحارة معتنقا مقولتها الصارمة في التعبير عن الواقعة:
أرنو إليها وهي تدنو، سافرةَ الوجهِ،مُرهفةَ النظرةِ، سريـعةَ الخطوِ بخلافِ النِّساءِ و البنات في حارتنـا،و تلقي عليَّ نظرةً خاطفةً أو لا تراني على الإطلاق ثم تمضي داخلَ الحارة و أتمتم مردّداً كالببّغاء:
يا لخسارةِ الرجالِ” ([27]) معلنا افتقاد الجماعة للموضوعية في الحكم على الخروج عن العادات، وطارحا ثقافة العصر تلك التي يتحول المتلقي اللاحق لها إلى متعجب بحكم انفصاله عن ثقافة يعدها بائدة، لا لشيئ سوى كونه (المتلقي اللاحق ) خارج سيطرة المكان موضع الواقعة.

الفضاء النصي

القصص غير معنونة مما يجعلها فضاء يداخله المتلقي معتمدا على ذاكرته السردية ([28])ـ تلك التي تحتفظ بالتفاصيل في تشابهها أو تعارضها أو تكاملها مما يخلق مجالا من الوعي بالعالم المسرود والسارد يضعنا إزاء عدد من العلامات التي من شأنها أن تعلي من عمل الذاكرة، وهي علامات مكانية بالأساس: الحارة – حارتنا – القبو – الساحة – التكية – القهوة – الميدان – الزقاق – القرافة، وجميعها علامات لغوية تطرح نفسها على ذاكرة المتلقي، ويكون لتكرارها القدرة على الربط بين النصوص حتى تتحول كونها بمثابة الروابط التشعبية التي تعمل على توزيع خطوط الذاكرة في مسارات محددة تجعل من كل علامة مسارا خاصا بها يتوازى مع غيره من المسارات منتجا مع غيره مجموعة الخيوط المنتجة بدورها المشهد في كليته.

الرقم يفتح أفق التلقي، فالرقم المتصاعد يعني أن العالم لم ينغلق بعد وأن الحكايات مازالت تتوالى أحداثها وتفاصيلها والرقم يمثل علامة رقمية متغيرة غير أنها صاعدة تشير إلى نمو ما في الحكايات أو في التفاصيل مما يجعله يقوم بوظائفه معتمدا على:

  • التشابه: حيث مجرد اعتماد الرقم بوصفه عتبة نصية يعمل على تأسيس خلفية سردية تقوم على أحادية العالم المسرود الذي يجعل من الحارة استديو كبير يتغير الديكور فيه نسبيا مع كل مشهد / حكاية من الحكايات، ويكون احتفاظ الاستديو بقيمته كامنة في حفاظه على التفاصيل التي تبدو مختلفة في كل حكاية مما يجعل للعنصر الواحد وظائفه المختلفة والمتنوعة وفق زاوية تصويره.
  • المخالفة: تلك القائمة على نمو الرقم واختلافه تصاعديا مما يعني ترتيبا مكانيا يعمل على تنظيم المكان وتوسيع أبعاده حسب الحكايات فكل حكاية تتضام مع غيرها مستقرة في مكان خاص بها، وهو ما يجعل من توسع الحكايات واتساع مساحة النص الكلي نوعا من توسيع المكان وتباعد أطرافه فالحكايات في اتساعها تتطابق مع المكان في اتساعه والسارد يتحرك حركة محسوبة في جغرافية المكان، فالحكايات الثمانية والسبعون المتجاورة عبر الفضاء النصي تعني أن هناك ثماني وسبعين نقطة مكانية تشكل مساحة المكان وتحدد مساحته وحدود رقعته.

مكان الإنسان / إنسان المكان

يتحدد المكان وفق نظامين يجمعان تفاصيل الفضاء، ويشكلان نمطين للعلاقة بين الإنسان ومكانه، ليظهر كل منهما الآخر: مكان الإنسان، وإنسان المكان:

  • مكان الإنسان: تلك المساحة التي يحقق فيها الإنسان وجوده، منجزا حياته ومحققا علاقاته بالآخرين، والمكان هنا يكون حاضنا لهذه العلاقات مهيئا لها قدرا من الخصوصية ومانحا إياها نوعا من الحرية لممارسة مقتضيات هذه العلاقات، والمكان بهذه الوضعية يتسم بالإنسانية وبقدر من التحضر، كما يضم مقومات للحياة، هو مكان إنساني بالدرجة الأولى، حضري بدرجة ما، يكشف عن ثقافة خاصة به، كما يكون أحيانا بوتقة تنصهر فيها عدة ثقافات، وتتكشف فيها طبائع الأشخاص، وعاداتهم وتقاليدهم وصراعاتهم.
  • إنسان المكان: منذ الحكاية الأولى يضع السارد نفسه بوصفه مشاركا في الحدث، وممثلا لجيله وخبيرا بتفاصيل المكان، قادرا على سرده، وعلى السرد به والسرد فيه، إنهم مجموعة من البشر يمثلون علامة على المكان، كأنك لا تجدهم خارجه ولا يحققون وجودهم فيما سواه من الأمكنة، وهم سلسلة من البشر الذين تتعرف عليهم عبر الحكايات المتوالية: السارد – الدرويش – رجال الله – الأب – أم عبده – سلومة أول شهيد من أبناء الحارة – هاشم زايد.

يحدد السارد ثلاث علامات تحقق وجود إنسان المكان، وتمنح المتلقي مساحة إدراكه: العتبة الأولى (عنوان المجموعة) – الاستهلال النصي – متن النص.

أولا: العتبة الأولى

بوصفه صانعا الحكايات أو متلقيها أو بطلا لها أو ساعيا إليها تتضمن العتبة الأولى ” حكايات حارتنا ” مجموعة من البشر يتعددون بتعدد الحكايات، وثراء كل حكاية، وقدرتها على اكتناز أكبر عدد من البشر، فكما أن للحكايات ساردها فلها أبطالها وشخوصها المحركين للأحداث والقائمين على أمر الصراع الكاشف بدوره عن طبيعة الحياة نفسها سواء في الحارة من حيث هي مقصودة لذاتها أو فيها من حيث هي مقصودة لغيرها.

ثانيا: الاستهلال النصي

في عدد من الحكايات، يستهل النص أو يتشكل الاستهلال النصي عبر علامة بشرية يطرحها السارد على وعي متلقيه بوصفها مفتاحا يمنحه للمتلقي للكشف عن طبيعة المشهد المرصود ضمن تفاصيل النص، والسارد يعتمد ثلاثة طرائق لتقديم الاستهلال المؤسس على الشخصية:

  • الطريقة الأولى: تقديم الشخصية على أفعالها وصفاتها فيكون اسم الشخصية بمثابة المبتدأ المخبر عنه، ومنها:
  • الحكاية العاشرة:” أم عبده أشهر امرأة في حارتنا ” ([29]).
  • الحكاية السادسة عشرة:” سلومة أول شهيد من أبناء حارتنا “([30]).
  • الحكاية العشرون:” يحيي مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا ” ([31]).
  • الحكاية الحادية والعشرون:” إبراهيم توفيق مقترن في ذاكرتي بالتهريج والتحدي” ([32]).

والصيغة نفسها تتكرر في تسع وعشرين (29) حكاية من أصل (78) مما يعني زيادتها عن الثلث.

  • الطريقة الثانية: تأخير الشخصية وتقديم فعلها:
  • ” يدخل عمر المرجاني البوظة في غاية من الأبهة والأناقة” ([33])، مسندا الفعل لشخصية تحرك متلقيها عبر فعلها الدال على حيويتها، وعلى قدرتها على صناعة الحدث الذي يبدو بسيطا آخذا في النمو.
  • الطريقة الثالثة: الشخصية مفعول به:

“عرفت الشيخ عمر فكري في بيتنا وهو في زيارة لأبي” ([34])، وهو ما يحسب للسارد معرفته، و للشخصية وضوحها بدرجة ما من درجات الوضوح بما يكفي لتعرف المتلقي عليها إذ معرفة السارد ليست هدفا في حد ذاتها بقدر ماهي وسيلة تستهدف التواصل مع المتلقي بالأساس.

وهو ما يعني مجموعة من الحقائق ذات الطبيعة الفنية أولا، والإنسانية ثانيا، وتصب جميعها في صالح العلاقة بين السارد والمتلقي، ومن بينها:

  • غلبة الاستهلال البشري على غيره من أنماط الاستهلال.
  • دراية السارد بقطاع عريض من سكان الحارة، وهو ما يعني على المستوى الرمزي معرفته بالعالم من حوله مما يؤكد ثقة متلقيه فيما يطرحه من فروض سردية قادرة على رسم معالم الحكايات بعناية.
  • قصدية السارد في طرح شخصيات بعينها، منتقاة يختارها بعناية للقيام بأدوارها الفنية موظفا الأسماء لتحديد الفوارق بينها أمنا للبس في ذهن متلقيه ولتكون قادرة في وضعها المميز على القيام بدورها في بلاغة الاتصال بين السارد ومتلقيه.
  • من طرف خفي تشير هذه الأسماء إلى بنية ثقافية خاصة بالثقافة العربية من جهة والثقافة المحلية من جهة أخرى، كاشفة بدورها عن طبيعة العقل الجمعي في رسمه لأسطورته الخاصة المتداولة عبر الأفراد، وخاصة طبقة الفتوات بوصفها محركة العالم وصانعة أحداثه، وكونها مدار القوى المؤثرة في صناعة نظام الحياة في الحارة.

والسارد حين يسجل حضوره في الاستهلال مع أشخاص آخرين غير محددي الأسماء يؤكد هذا الحضور،  ففي ثلاث وعشرين حكاية يأتي الاستهلال متضمنا أشخاصا بصفاتهم دون ذكر الأسماء، وحتى حين تتكرر شخصية (الأب مثلا ) لا يذكر السارد اسمه فيظل محتميا بصفة العموم تماما كالسارد نفسه على النحو التالي ([35]): 1(يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية )-2(شمس الضحى تسطع والسماء صافية، من موقفي فوق السطح أرى المآذن والقباب )-3(مع الأب: أبي ينظر لي باهتمام  ) -4-5 (مع الأم: سأذهب في صحبة أمي.. ) – 6(ضمير الجماعة: نقعد صبيانا وبنات ) – 7 (ضمير الجماعة: نسهر فوق السطح) -8 (ضمير الجماعة: نشرع في الاستعداد ) – 9 (الجارة والأم: تقول إحدى الجارات لأمي )- 11 (ضمير الجماعة: نقف في فناء المدرسة الابتدائية جماعات ننتظر نتيجة القبول )- 15(الأب: ويزور أبي جماعة من الأصدقاء) – 17(السارد مع آخرين: استيقظت ذات صباح فأجد في بيتنا امرأة وفتاة )- 18 (الأب: أبي يرجع من الخارج )- 19(الأب: أبي ينظر إلي نظرة غامضة ويسألني) – 28(يزورنا كثيرا)- 35(في موسم القرافة نزور أحيانا حوشا غير بعيد من حوشنا ) – 36(في إحدى ليالي الأرق أرى من نافذتي هذا المنظر)- 38(وأنا العب في الحارة تنطلق زغرودة من بيت الديب) – 40(يجلس وراء نافذة مصفحة بالقضبان) – 49 (أمنية كل صغير في حارتنا أن يطوف به في منامه زائر الليل )- 58 (يجيء ربيع ونحن على شفا هاوية من الهلاك )- 66(وراء قضبان بدروم يلوح وجه صبي صغير )- 70 (سحب الخريف تتراكم فتقطر قتامة على حارتنا )- 71 (رجل غريب في المقهى، الغريب في حارتنا يسترعي النظر فمن أين جاء الرجل؟ ).

وفي ثمان وأربعين حكاية تتشكل شبكة من الشخصيات الممررة عبر الاستهلال النصي، وهو ما يجعل من الأسماء مجموعة من العلامات الثقافية الدالة على المكان، بوصفها تفاصيل لها مرجعيتها في سياق الحارة، ولها شفراتها الثقافية بين مجموعة المنتمين للحارة، وتتبلور على النحو التالي:  10(أم عبده أشهر امرأة في حارتنا )- 13(ابن العم: مهذب ذكي العينين )- 16 (سلومة أول شهيد من أبناء حارتنا )- 20(يحيي مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا )-  21(إبراهيم توفيق مقترن في ذاكرتي بالتهريج والتحدي ) – 22(هاشم زايد يجلس إلى جانبي على قمطر واحد) – 25 (فتحية الأخت الصغرى لسنية تماثلني في العمر )- 26(ست نجية امرأة وحيدة ) – 27(تقول ضيفة لأمي: نظلة الله يسامحها)-29 (علي البنان صاحب محل البن في حارتنا صديق) – 30(يشب بطريق الحموي فيجد نفسه متزوجا ) – 31(من قصص الحب المؤثرة في حارتنا قصة سيدة كريم )- 32(سنان شلبي يعمل في مطحن الغلال فيما يلي السبيل القديم ) – 33(مرت فترة بحارتنا يمكن أن تسمى بعصر زينب ) – 34 (هنية بنت علوانة الدلالة من بطلات الحب في حارتنا )- 37(عم ينسون الصرماتي كهل لا تشوب سمعته شائبة )- 39 (صبري الجواني يثير دائما عاصفة من التساؤلات )- 41 (إبراهيم القرد أضخم بناء إنساني تشهده عيناي )- 42 (البرجاوي منهمك في عمله بدكان الطعمية )- 43 (حواش العداد من أصحاب المزاج في حارتنا )- 44(كانت الزاوية حديثة البناء وكان إمامها وقتذاك الشيخ أمل المهدي )- 45(بحارتنا عامل بالسرجة يدعى عاشور الدنف ) – 46 (كنت أعود سعد الجبلي في مرضه الأخير ) – 47 (وشلبي الألايليله حكاية تستحق الرثاء ) – 48(الأب موظف حكومي صغير وذاك أمر – على أي حال – نادر في حارتنا لذلك ينشأ الابن – صقر الموازيني – محسودا بين أقرانه ) – 50 (جعلص الدنانيري فتوة خطير من أشد الفتوات تأثيرا في حياة حارتنا ) – 51 ( ألعب امام البيت مبتهجا بشمس الشتاء، في الناحية المقابلة يعب عبده ابن الجيران) 52(يقف زيان صبي مبيض النحاس بين يدي فتوة حارتنا السناوي مبتهلا )53 (ومن فتوات حارتنا حمودة الحلواني ) 55( ومما يحكى أنه كان بحارتنا شاب صعلوك يدعى عباس الجحش) – 56 (لعب الطموح بقلب عبدون الحلوة العامل بالوكالة )- 57 (زغرب البلاقيطي من فتوات حارتنا المعدودين ) – 59 (غنام ابو رابية له قصة طريفة ) – 60(حليم رمانة من شباب حارتنا العاملين في تقش الأواني النحاسية )- 61 (ابن عيشة صعلوك من صعاليك حارتنا يعيش بالتسول وخفة اليد )- 62 (كان الحاج علي الخلفاوي من أغنياء حارتنا )- 63 (بذرت الكراهية بين شلضم وقرمة في ضفاف الصبا) – 64 (عرف الخفير سلامة بالضمير الحي.. كان من القلة النادرة التي تقدس القانون في حارتنا ) – 65 (الشيخ لبيب وجه عتيق في حارتنا ) – 67 عبده السكري ابن أحد حملة القماقم والمباخر) – 68 (من حكايات حارتنا التي لا تنسى حكاية عبدون اللاله ) – 69(نادرا ما يخرج إلى الحارة….يقرض النقود بالربا يدعى أبو المكارم) – 72 (وعكلة الصرماتي حكايته حكاية ) – 73 (مصطفى الدهشوري ابن سقاء ولكنه من القلة الراسخة في العلم في حارتنا )- 74 (الأعور يتأهل لموعد غرامي في الساحة أمام التكية )- 75 (يدخل عمر المرجاني البوظة في غاية من الأبهة والأناقة ) – 77(أنور جلال جالس على سلم السبيل الأثري وهو يضحك عاليا ) – 78 (عرفت الشيخ عمر فكري في بيتنا وهو زيارة لأبي ).

يضاف على ذلك شخصيات اعتبارية لها بعدها الإنساني لكونها شخصيات غير بشرية: 24(القطة الأم مستلقية على جنبها مترعة الحلمات والصغار تتلاطم مغمضات الأعين في حضنها).

جميعها تصنيفات تتكشف على عدة أمور تخص العلاقة القائمة بين المكان وإنسانه:

  • اعتماد السارد على مفردة مكانية لها وظيفتها في تشكيل صورة المكان، يكررها بصيغتين: الحارة – حارتنا، تقيم الأولى تعاهدا بين السارد والمتلقي (أل العهدية المتصدرة المفردة طوال الوقت) إعلانا لقيامة الحارة بذاتها (لم تضف إلى ضمير غير ضمير المتكلمين، ولم تضف لذات أخرى رغم سطوة الفتوات الرائجة على مدار الحكايات)، وتتأسس الثانية على الأولى في كونها تالية دلاليا وقائمة على التعاهد أولا وعلى معرفة المتلقي بالسارد ومن ثم إدراك مقصوده اللفظي من استخدامه ضمير المتكلم.
  • الاقتران القائم بقوة وبوضوح بين الحارة والإنسان.
  • اتساع مساحة الأشخاص محددي الأسماء تعبيرا عن حلول الثقافة الشعبية في إنسان المكان وكشفا عن ملامح المجتمع الشعبي، فللأسماء مرجعيتها الثقافية المتداولة بين الأحياء المماثلة.
  • تصبح الحارة خلفية معرفية ينتجها السارد لصالح متلقيه مما يجعلها نظاما نمطيا يستكين في خلفية المشهد ويكون التجديد في المشهد معتمدا على الأسماء المتغيرة التي تمنح المشهد حيويته، والمتلقي المتجول بين الحكايات تصبح الحارة بالنسبة له نمطا مكانيا، حارة قد تشبه كل الحارات وبعد قليل من الحركة فيها تفقد بريقها بالنسبة له غير أن الأسماء المتغيرة تعيد بريق الحارة عبر مجموعة الأسماء التي ينفتح عالم جديد فور حضور واحدة منها.
  • يشكل إنسان المكان علامة دالة داخل الدائرة الخاصة للحارة تلك الدائرة القائمة على مجموعة الأمكنة الحاضنة لمجتمع الحارة من الحرفيين وأصحاب المهن، فإذا كان السارد قد أدخل متلقيه في مجموعة أحياز تبدأ من حدود الحارة حتى أعماق بعض شخصياته، فإنه قد وضع متلقيه إزاء مجموعة أمكنة تكشف عن النشاط اليومي لأبناء المكان، حيث يدرك العابر في الحارة عبر الحكايات أن ارتباطا قويا يقوم بين الأمكنة والأشخاص هؤلاء الذين لا تراهم إلا فيه ولا يمكنك أن تدرك طبيعتهم إلا من خلال متابعتك المكان، من هؤلاء: البرجاوي المستقر في دكان الطعمية (الحكاية 42) – عاشور الدنف عامل السرجة (الحكاية 45)

ثالثا: متن الحكاية

 حيث يتحقق فعل السارد بربط شخصياته بأمكنة حركتهم، تلك الحركة التي تكشف عن طبيعة الشخصية وحياتها، وتشي بطبيعة الحارة بوصفها مكانا له أبعاده المختلفة: الجغرافية – الهندسية – الاجتماعية، وهو ما يدخل فيه كل الحكايات.  تلك التي تتعاضد لتشكيل أسطورة المكان، فإذا كان لكل مكان أساطيره، فكلما تواجد الماضي في مكان زادت احتمالات حضور الأسطورة، وللحارة ماضيها المنتج أساطيرها، وللأجيال المتعاقبة في الحارة دورها في إذكاء التفكير الأسطوري، وطرح معطيات لها تأثيرها في مكاشفة هذا الجانب، في مقدمتها معطى وضعية السارد (الطفل ) بوصفه مجالا مناسبا لنمو الأسطورة، وعبر الحكايات المتوالية تكشف الحارة عن أسطورتها التي تتجلى في مظهرين:

  • الإنسان / الأسطورة، وهو ما نجده فيما يطرحه السارد حول الناس وحكاياتها:

” وأتذكر الحادثة في زمن متأخر أتساءل عن حقيقتها: هل رأيت الشيخ حقاً؟ أو ادعيت ذلك استوهابا للأهمية ثم صدقت نفسي؟ هل توهمت ما لا وجود له من أثر النوم ولكثرة ما يقال فى بيتنا عن الشيخ الكبير؟. هكذا أفكر، و إلا فلماذا لم يظهر الشيخ مرة أخرى؟. و لماذا تجمع الناس على أنه لا يغادر خلوته؟. هكذا خلقت أسطورة وهكذا بددتها. غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت فى أعماق نفسي كذكرى مفعمة بالعذوبة. كما أنني ما زلت مولعا بالتوت “([36]

والصورة نفسها تفرض نفسها في حكاية أخرى تخص ” إبراهيم القرد أضخم بناء إنساني تشهده عيناي ” ([37]) على حد تعبير السارد، ذلك الضرير الذي يظهر قوة كبرى في مواجهة الشرطة التي لم تنجح في التغلب عليه إلا باستخدام خراطيم المطافي وينتهي به الحال في الحارة بعد فترة غياب وقد تبدلت أحواله ” ويغيب القرد عن حارتنا فترة من الزمن، ولكنه يرجع ذات يوم ببنيانه الضخم وهامته المرفوعة فيلقى استقبالا حميما وتحيات حارة..، فيواصل حياته السابقة متعملقا عند مدخل القبو مثل أسطورة ” ([38])،  ويدعم هذا الجانب أحداث تأخذ المنحى نفسه، تتوزع على مدار الحكايات، ومن أبرزها ما يحدث لحواش العداد صاحب المزاج الذي يقرر إحياء سهرة كبرى في بيته يتواصل فيها الطرب حتى الفجر حيث ينام الجميع:” وعند ضحى اليوم التالي، والحارة ثملة بأفراح العيد، تصدر عن بيت حواش العداد ضجة غريبة وصيحات فزع كأن صاعقة انقضت عليهم، ويهرع الناس نحو البيت وهم يتساءلون، ثم تنتشر أخبار لم يسمع بمثلها من قبل. يقول الرواة إن الداعي والمدعوين استيقظوا فوجدوا أنفسهم مبعثرين في عالم خراب شامل لا يتصور ولا يوصف، إنهم يتذكرون كيف أن النوم سرقهم من بين أحضان المسرات وهم على خير ما يحبون ولكنهم فتحوا أعينهم على عالم لا يرى إلا في أعقاب زلزال مدمر” ([39]).

  • المكان في أسطورته (التكية) وتنفرد التكية بهذا الجانب اعتمادا على عدة علامات: التفرد والخصوصية أولا والغموض الذي يفرض نفسه على المكان فيحدد سماته ثانيا.

“التكية ” مفردة لغوية لا تتكرر كثيرا على مستوى نصوص الحكايات، إذ تأتي على لسان السارد خلال حكايات متباعدة تتمثل في الحكاية الأولى والرابعة والثانية عشرة والتاسعة والأربعين والرابعة والخمسين (مرتين )، والخامسة والستين، والرابعة والسبعين (ست مرات)، والسادسة والسبعون (ثماني مرات)، والثامنة والسبعين (تسع مرات)، مما يعني حلولها في عشر حكايات بنسبة أقل مقارنة بالأمكنة الأساسية في الحكايات كالمقهى مثلا، غير أن التكية تستمد أسطوريتها من هذه النسبة القليلة عددا والكبيرة مساحة وتقصي مساحات حضورها على مستوى السرد يؤكد ذلك، كما يؤكد سماتها الواضحة:

  • فالتكية خارج أسوار الحياة.
  • “التكية شيدت في الأصل في خلاء لأنهم قوم ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، ولكن بمرور الزمن امتد العمران إليهم وأحاط بهم الأحياء والأموات، فأغلقوا الأبواب كوسيلة أخيرة لتحقيق العزلة ” ([40]) يأتي هذا التفسير في الحكاية العاشرة من حكايات تتردد فيها المفردة معلنة حضور التكية وفي الوقت نفسه فهي الحكاية الأخيرة من “حكايات حارتنا “

مكانيا تكشف الأسطورة عن عقلية الجماعة البشرية في الحارة وتحدد مسارات تفكيرها، والسارد لا يعمل على توسيع مساحة الأسطورة انتصارا لمنطق الحياة الإنسانية، وترسيخا لمعطيات الحضارة المعاصرة للحظة التاريخية المرصودة.

السارد الذي يعلن عن وجوده منذ الحكاية الأولى يعتمد طريقة الحكي، والحكي قرين الشفاهية، والشفاهية تطرح فكر المكان وثقافته عبر الراوي الذي يمثل المتحدث الرسمي باسم هذه الثقافة، ويقوم بدور الناقل للفكر على نطاق أوسع فاﻟﻘﺼﺺ ” ﻓﻲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﺸﻔﺎﻫﻴﺔ اﻷوﻟﻴﺔ،  ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻧﺺ،  ﺗﻘﻮم ﺑﺪﻣﺞ اﻟﻔﻜـﺮ ﻓـﻲ ﻧﻄﺎق أﻛﺜﺮ اﺗﺴﺎﻋﺎ ودواﻣﺎ ﻣﻦ اﻷﻧﻮاع اﻷﺧﺮى”([41])، والمتحدث في هذا السياق يعتمد على التأثير في نفوس المروي لهم، فهو يجمع الحكايات، حكايات الحارة بوصفها كيانا اجتماعيا ثقافيا، ويوفر على المروي لهم الاضطلاع بمهمة جمع الحكايات، والسارد يصرح بعمله حين يشير إلى مصادر حكاياته بطريقة تتناسب وعمله:

  • الإسناد إلى راو محدد سابق يكون بمثابة المراسل أو شاهد العيان الذي يدرج السارد إشارة له على سبيل التوثيق:” ويقول أبي بعد أن يحكي هذه الحكاية ” ([42])، ” ويقول راوي هذه الحكاية – صبي الخمارة – أنه كان يقف عند الباب يسمع حوار السكران والمجنون ويراهما وهما يدوران حول نفسيهما متوهمين أنهما يتقدمان ” ([43])، والإشارة للراوي في هذه الوضعية تحدد زمن انتقال الرواية أو زمن جمع الحكاية من خلال معاصرة السارد لمصادر روايته.
  • إسناد الحكاية إلى رواة غير محددين، جاعلا من الجماعة الإنسانية مصدرا للحكاية وناسبا لها طريقة الحكي:” هكذا تروى الحكايات، وبدقة في التفاصيل لا تتاح إلا لمن شهدها ولكن هكذا تروى الحكايات في حارتنا ” ([44])، وهو يحيل إلى هؤلاء استكمالا لخبرات زمنية تفوت معارف الطفل وتتجاوز قدراته مما يجعله يحيل متلقيه إلى الإقرار بذلك:” هذه الحكاية تروى عن عهد قديم لم أشهده ” ([45]).

هنا السارد يعمل على الإيهام بواقعية حكاياته فهي ليست من تأليفه وليست من عمل خياله (وهو الصغير الذي لن يتقبل منه متلقيه تأليفا)، وإنما هي حكايات لها مرجعيتها ولها قدرها من الرسوخ في أذهان الأجيال السابقة كما أن لها قيمتها بانتمائها إلى تراث الحارة بوصفه تراث الآباء الذي يكون محل فخر الحارة:” والفخر بالآباء شعار مألوف في حارتنا ” ([46]).

رمزية المكان

تدريجيا تتصاعد الدوائر الكاشفة عن رمزية المكان الذي يتصاعد من دائرة الحكاية البسيطة إلى الحكاية المركبة، ووفق تعدد المتلقين تتعدد مستويات التلقي بادئة من مستوى الحقيقة (كما يراها المعنيون بمستوى الحكاية في مستواها الأبسط) إلى مستوى المجاز بمستواه المركب (كما يراه الذين لا يحصرون رؤيتهم في مجرد الحكاية البسيطة).

الحارة – وفق هذا الطرح – تمثل في مستواها الأعلى رمزا تتسع دوائره من مجرد المكان كما يراه أصحابه المنتمون له فهو بالنسبة لهم مجرد حاضن أو بيئة صالحة للحياة ومكابداتها، حتى تصل إلى مستوى الرمز الذي يصعد بالحارة إلى التعبير عن الكون مرورا بدوائر لا يصيبها التعسف، كالتعبير عن الوطن (مصر) أو التعبير عن الثقافة (العربية) مما يحمل الرمز حمولة سياسية واجتماعية وثقافية، ومن يتوقف عند الفقرة التالية من الحكاية الرابعة والخمسين موسعا من أفق تلقيه المتجاوز نطاق الحارة إلى نطاق الوطن بمعناه الأوسع:

الويل لنا عندما يشتد النزاع بين الحارات، عندما تتصارع التحديات بين الفتوات. نتوقع في الليل أن تجتاحنا هجمة غادرة، نتعرض في تجوالنا في الحي لتحرشات مباغتة، تنقلب أفراحنا إلى معارك دامية، يسود وجه الحياة ويكفهر. ويغدو الانطلاق إلى الميدان محفوفا بالمخاطر أما التسلل عن طريق القرافة فيتهدده الشيطان وقطاع الطرق، فننحصر في حارتنا كالفئران في المصيدة. ذاك ما رواه الرواة عن فترة من حياة حارتنا الماضية ” ([47]).

يكون من السهل على المتلقي الوقوف على قراءة مغايرة تنطلق من الحارة صاعدة إلى مجتمع أوسع، قراءة تقوم على وضع مفردة الوطن موضع الحارة أو وضع الكيانات السياسية موضع الحارات وتعتمد على إدراج مجموعة التفاصيل الخاصة بالحارة في معناها الضيق في الحارة بمعناها الأوسع كشفا عن الصراع الإنساني في مستوياته الأشد، وهو ما يفضي إلى كون الحارة تمثل طاقة ترميزية كبرى حيث تاريخها ماهو إلا تاريخ المجتمع الإنساني كله.

تبقى الحارة خلفية مكانية لكل النصوص، غير أنها تمنح كل حياة نصية خصوصيتها المكانية كما تمنح كل نص حياته بين النصوص، وحيث كل نص له مكانه الحيوي المتفرد ويكون على المتلقي الربط بين الفضاءين والجمع بين التفاصيل ذات الصلة ليقف على صورة شديدة الثراء ليس في إحالتها للحارة المصرية فحسب،وإنما في قدرتها على الإحالة إلى دوائر مكانية أوسع لا تقف عند حدود الحارة، حيث الحارة علامة مكانية على الوطن، وحيث حياة الناس في الحارة علامة على الوجود الإنساني، وحيث ثقافة الحارة هي ثقافة اللحظة التاريخية المنفتحة على الوجود التاريخي.

……..

هوامش وإحالات

[1] – رصدت خولة بن مبروك أكثر من عشرين مصطلحا توزعت بين النقاد والدارسين العرب خاصة، انظر: خولة بن مبروك: الشعرية بين تعدد المصطلح واضطراب المفهوم – مجلة المخبر – جامعة بسكرة – الجزائر – العدد التاسع 2013، ص 363 وما بعدها.

[2] – ريحان إسماعيل أحمد المساعيد: الانزياح في شعر الحطيئة، دراسة أسلوبية – ماجستير – كلية الآداب – جامعة آل البيت 2010، ص 5.

[3] – حسن ناظم: مفاهيم الشعرية، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم – المركز الثقافي العربي – بيروت 1994 ص 7.

[4] – جان كوهن: بنية اللغة الشعرية – ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء 1986، ص 40.

[5] – انظر: مصطفى الضبع: العناصر السينمائية في روايات نجيب محفوظ – دورية نجيب محفوظ – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – ديسمبر 2011.

[6] – السابق ص 23.

[7] – يراجع في ذلك: بوريس أوسبنسكي: شعرية التأليف، بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي – ترجمة: سعيد الغانمي وناصر حلاوي – المركز القومي للترجمة – القاهرة

[8] – تزفيطان تودروف: الشعرية – ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – ط2، 1990، ص 22.

[9] – راجع القائمة الملحقة بمعظم طبعات أعمال الكاتب والصادرة عن مكتبة مصر، منها على سبيل المثال: همس الجنون (1938) – القاهرة الجديدة (1945) – الشحاذ (1965) – رحلة ابن فطومة (1983).

[10] – فيما تعتمد الموسيقى على التوازي حيث مجموعة الآلات الموسيقية في الأوركسترا تعزف في وقت واحد مما يعني قدرة المتلقي على التعامل معها بالطريقة نفسها، تعتمد الكتابة على التوالي فالكلمات بوصفها علامات لغوية سردية تطرح منتجها على التوالي وإذا كان متلقي الموسيقى يستطيع إدراك الإيقاع المتداخل المنتج من مجموعة آلات فإن متلقي النص المكتوب يتوافق تلقيه مع عملية الكتابة ذاتها ويتلقى منتجها على التوالي.

[11] – جيمس بيكي: مصر القديمة – ترجمة: نجيب محفوظ – مطبعة المحلة الجديدة – القاهرة 1932.

[12] – نجيب محفوظ: حكايات حارتنا – مكتبة مصر- القاهرة ص 155.

[13]حكايات حارتنا ص 160.

[14]حكايات حارتنا ص 169.

[15]حكايات حارتنا ص162.

[16]حكايات حارتنا ص 170

  • [17] – تنتظم النصوص السردية عامة ثلاث نهايات:
  • امتدادية: تأخذك لعالم ما بعد التصفح، تغادر النص ولكنه أبدا لا يغادرك، حيث النص يشبه بيتا مضيئا في صحراء مظلمة، تخرج منه فتسير على هدى ما يتسرب منه من أضواء، وهو قادر على أن يضيء لك هذا العالم من حولك.
  • ارتدادية: تعود للقراءة مرات ومرات بحثا عن هذه النقطة التي تعرف أن الكاتب قد خبأها في صفحة ما أو في مقولة ما، وقد تستعين بما كتب عن النص لتفسير ماتراه في حاجة على التفسير.
  • انغلاقية: ترى فيها العالم منغلقا على نفسه لا حاجة لك بما هو خارجه لتفسيره.

 انظر: مصطفى الضبع: المغيب والمجسد، دراسة في قصص سليمان الشطي – رابطة الأدباء – الكويت 2000، ص 48.

[18] –  حكايات حارتنا   ص 3.

[19] – التكيّة، شكل معماري تتعدد وظائفه حسب مرجعيات الكلمة المتعددة بين التركية والفارسية والعربية وهي مكان للراحة وللطعام.

[20]حكايات حارتنا ص 157.

[21]حكايات حارتنا ص 3.

[22] – كان الراوي القديم يعمد إلى الانفراد بزمام الحكاية حين يحيل متلقيه إلى مكان بعيد أو زمان بعيد ينفرد بخبرته به حين يستهل روايته بالقول: ” كان يا ما كان في سالف العصر والأوان ” أو ” كان ياما كان في بلاد كذا…” راجع حكايات ألف ليلة وليلة وخاصة الحكاية الإطار.  

[23]حكايات حارتنا، الحكاية رقم (9) ص 21.

[24] – السابق نفسه.

[25] – السابق ص 22.

[26] – السابق نفسه.

[27] – السابق نفسه.

[28] – مصطلح إجرائي يعني تلك التفاصيل السردية التي تحتفظ بها ذاكرة المتلقي أو تفرض نفسها على ذاكرته عندما يتتبع أحداث نصوص تربطها خيوط سردية، أو يتابع تفاصيل عالم مسرود.

[29]حكايات حارتنا ص 23.

[30] – السابق ص 35.

[31] – السابق ص 42.

[32] – السابق ص 43.

[33] – السابق ص 174.

[34] – السابق ص 178.

[35] – الرقم قبل الاستهلال يشير إلى رقم الحكاية.

[36]حكايات حارتنا ص 5.

[37]حكايات حارتنا ص 84.

[38]حكايات حارتنا ص 87.

[39]حكايات حارتنا ص 89-90.

[40]حكايات حارتنا ص 182.

[41] – والترج.أونج: الشفاهية والكتابية – ترجمة: حسن البنا عز الدين – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت 1994، ص 203.

[42] حكايات حارتنا ص 149.

[43]حكايات حارتنا ص 172.

[44]حكايات حارتنا ص 147.

[45]حكايات حارتنا ص 91.

[46]حكايات حارتنا ص 101.

[47]حكايات حارتنا ص 122.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)