شبح ترومان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المسعودي

         حينما كان أستاذ التاريخ رشيد يمرر عددا من صور بعض الشخصيات السياسية التي أدت أدوارا هامة في العصر الحديث- وخلال الحرب العالمية الثانية خاصة- على الحائط الأبيض بواسطة المسلاط، رفعت تلميذة يدها تطلب الكلام من أستاذها، وقبل أن يمنحها الإذن بالحديث، أشارت إلى صورة رجل يضع سيجارا ضخما في فمه، ويبدو متكئا على (فوتوي). رجل غليظ الملامح.

         -أمس.. أمس رأيت هذا الرجل يطل من سور المعكازين.. كان ينظر إلى جهة طريفة وجبل طارق.. إنه هو.. كان يرتدي قبعة دائرية سوداء.. وبالطو يكاد يصل الأرض.. وكان حذاؤه أبيض اللون.. يحفه بعض السواد.. والله.. إنه هو.. يا أستاذ..

         انطلق تلاميذ القسم كلهم يضحكون في صخب وسخرية.. ولما هدؤوا خاطب الأستاذ تلميذته:

         -يا ندى.. هذه صورة تشرشل.. زعيم سياسي.. ورئيس وزراء بريطانيا في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.. مات من زمان بعيد.. كيف رأيته بسور المعكازين؟.. ربما رأيت شخصا يشبهه.. ممكن..

         -لا.. أبدا يا أستاذ.. بل حتى إنه كان يكلم رجلا معه بالإنجليزية.. وكان حديثهما كله عن الحروب.. عن حروب الماضي.. وحروب الحاضر والمستقبل.. كنت أنصت إلى حديثهما.. وأنا جالسة على كرسي بعدما تعبت من القراءة.. وكان هذا البدين يقول للرجل الآخر صاحب النظارتين الدائريتين، والشعر الخفيف المسترسل: “دعك يا هاري من هذه الحماقة.. لا تفعل ذلك.. أتدري مدى حجم الدمار الذي ستحدثه.. وكم من الأرواح ستحصد.. ومدى الأثر الذي سيظل مترسبا في الأرض والهواء لعقود.. دعك من هذه الحماقة.. واستحضر حسك الإنساني..”

         كان المسلاط لا يزال يعرض صور شخصيات الحرب العالمية الثانية على الحائط، وإذا بندى تصيح مرة أخرى:

         -ها هو الرجل الذي كان يحادث البدين.. هذا هو..

كانت ندى ترتجف، وقد اصفر لونها وزاغت عيناها، وهي تشير إلى صورة هاري ترومان الرئيس الأمريكي الذي خَلَف روزفلت في سنة 1945 على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

         ازداد استغراب الأستاذ رشيد، وعلت وجهه ابتسامة لم يُعرف مغزاها، بينما علا لغط التلاميذ وارتفع ضجيجهم.. وكان بعضهم ينظر إلى ندى في فزع وإشفاق. وهمس أحمد في أذن زميلته:

         – كوثر.. صديقتك جُنت.. كثرة قراءتها للكتب، وخاصة الروايات أفسدت عقلها حتى صارت ترى الخيال واقعا.. مسكينة..

         -لا أعتقد.. ندى أعقل منا جميعا.. لا شك أن فيما حكته سر ما.. ستُظهر الأيام ما كان خفيا منه.. وسترى..

         أكمل أستاذ التاريخ درسه، واستفاض في حديثه عن الشخصيات التي كانت صورها تترى على الحائط الأبيض، ودورها خلال الحرب العالمية الثانية. وأثناء حديثه عن تشرشل ذكر زيارته لطنجة وإقامته في فندق كونتينتال، وأشار إلى رقم الغرفة التي سكنها، والأماكن التي كان يتردد عليها، ولم ينس التلميح إلى أنه كان يحب تأمل البحر، والنظر إلى البعيد من إطلالة سور المعكازين الشهيرة. كما تحدث عن هاري ترومان ودوره في إنهاء الحرب العالمية الثانية حينما أمر بضرب هيروشيما ونكازاكي بالقنبلة الذرية شهر غشت 1945، لكنه نفى أن يكون زار مدينة طنجة.

         أحس التلاميذ بنوع من الرهبة والغموض من حديث الأستاذ هذا، وخاصة حينما ربطوا بينه وبين ما ذكرته زميلتهم ندى. لما انتهت الحصة انصرف الجميع، وقصة تشرشل وترومان اللذين رأتهما ندى بالأمس تخامر عقولهم، وتناوش خيالهم.

***     ***     ***    ***

“.. أستاذي العزيز الأستاذ رشيد.. أكتب إليك هذه الرسالة عبر الواتساب لأخبرك أننا نعيش حالة مرعبة هنا في الصين.. تفشى وباء بمدينة يوهان أطلق عليه كورونا، العدوى انتشرت بين الناس بسرعة مذهلة.. ضاقت المستشفيات بالمرضى.. الناس يتساقطون في الطرقات.. حالة الفزع مستشرية.. ضربت الحكومة طوقا حول المدينة المنكوبة.. وها نحن ننتظر عن ماذا ستسفر الأيام.. قبل أن يجتاح الوباء مدينتي بثلاثة أيام شاهدت حلما غريبا: “على جسر من جسور يوهان كان رجلان ينظران نحو المدينة بعينين لامعتين تشبهان أعين القطط المتنمرة.. ويطلقان من فمهما ومن يديهما بخارا أو غازا اجتاح الفضاء.. وأغرق المدينة في ضباب كثيف.. وكان الناس يتساقطون موتى بالمئات كلما خاضوا في الضباب واستنشقوا البخار.. وفجأة خرج تنين صار يلقي بنيرانه التي جلت البخار وطاردت الضباب وأحرقت الرجلين اللذين كان كل منهما ينادي صاحبه ويستغيث: ترومان.. ترومب.. تروم..ترومان.. بان.. ترومان.. ترومب.. ترومبان.. ترومبان..” وفجأة نهضت من نومي، وقد امتزجت في نفسي حالتي حزن وفرح، حزن لأن البخار غزا المدينة وجعلها تغرق في صمت وفراغ هائلين، وتعرف موت الناس بالآلاف، وفرح لأن التنين هزم الضباب والحزن وأهلك الرجلين الشريرين..

أستاذي العزيز لا زلت أتذكر أيام طنجة ودروسك في اللغة العربية.. وروايتك “مفتاح السعادة” -التي تربطني بتلك الذكريات أكثر- أعود إليها بين فينة وأخرى ونحن تحت حصار الوباء.. تحياتي الحارة.. أتمنى أن لا يتعدى هذا الوباء حدود بلادنا لتسلم البشرية جمعاء.. قريبا أراسلك مرة أخرى.. تلميذتك فانغ زيجيان”.

تلقى أستاذ التاريخ والروائي رشيد هذه الرسالة من طالبته الصينية التي درسها اللغة العربية في طنجة، أياما قليلة بعد حادثة القسم التي جعلته يتقصى ظروف تلميذته ندى، ويشك في حالتها النفسية والعقلية. راقب تصرفاتها، استفسر زملاءه الأساتذة في الثانوية عنها، تحرى من صديقاتها وزملائها في القسم عن أخلاقها وأفعالها، طلب من المدير أن يطلب مقابلة والديها.. ومن خلال ما قام به تبين له أن التلميذة متزنة، لا تكذب، وأنها لا تعاني من أي ضغوط منزلية، أو ظروف صعبة تجعلها مختلة العقل أو مضطربة النفس، فضلا عن أنها الأولى في الثانوية من حيث التحصيل على النتائج الجيدة وفي كل المواد، زيادة عن كونها قارئة نهمة، وفتاة متفتحة ذكية.

ازداد شعوره بغرابة ما حكته تلميذته ذلك اليوم، ولكن رسالة طالبته الأخرى فانغ زيجيان جعلته يغرق في تفكير عميق. رأى اسم ترومان يحضر فيما روته ندى، وفي حلم فانغ زيجيان. ورأى ظلال معاني تتردد فيما روته الفتاتان: تشرشل يحذر ترومان من حماقة ستؤدي إلى دمار وقتل وآثار وخيمة كما حكت ندى، بخار وغاز يجتاح مدينة يوهان ويحولها إلى مدينة فارغة ينخرها الضباب والموت في الحلم الذي رأته الفتاة الصينية. إن شبح ترومان يجول الأرض، انبعث من جديد لا ليوقف الحرب -كما زعم خلال تبريره أمر إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونكازاكي-، وإنما ليعلن حربا أخرى على الإنسانية. وها هو حلم الفتاة الصينية يجعل الاسم اسمين: ترومان من جهة، وترومب من جهة أخرى، مما يؤكد أن أمريكا تثوي هنا وهناك، هنا في حكاية ندى، وهناك في حلم فانغ زيجيان.  

وازداد الأستاذ رشيد حيرة من هذا الاتفاق الحاصل بين ما روته الفتاتان. وتعوذ من شر أمريكا وشر كورونا.    

***     ***     ***    ***

         غابت ندى عن الثانوية إثر ما وقع في مادة الاجتماعيات لأيام. سأل الأستاذ رشيد عن تلميذته فقيل له إنها مريضة، وأنها لا تغادر بيت والديها من فترة. أحس بالذنب يُثقل كاهله لأنه ظن الظنون بتلميذته، وترك التلاميذ الآخرين يسخرون منها حينما أخبرته أنها رأت ترومان وتشرشل يتحدثان بسور المعكازين. استفسر الحارس العام أبا حيان التوحيدي الطنجي عن عنوان بيت تلميذته، وطلب من تلميذته كوثر، وزميلته زهرة أستاذة اللغة الإنجليزية أن ترافقاه لعيادة تلميذته النجيبة في منزلها. اتصلت كوثر بصديقتها وأخبرتها أن الأستاذين رشيد وزهرة سيزورانها في بيتها مساء الغد، وفعلا رحبت الفتاة بزائريها. اطمأن رشيد على تلميذته، واعتذر لها نيابة عن التلاميذ الذين سخروا منها، وخاطبها قائلا:

“لا شك أن تشرشل كان يحذر ترومان من نشر غاز السارين، أو يطلب منه أن لا ينشر أي سلاح جرثومي آخر يدمر الأرض ويهلك الزرع والحرث والبشر..، ما أخبرتنا به صحيح يا ندى.. ها هو ترومان الجديد.. أو ترومب..أو ترومبان.. أو ماكرون.. أو علان يأبى إلا الفتك بالحياة. إن كورونا الذي ينتشر الآن وراءه ترومان.. أو شبحه..”

ابتسمت ندى ابتسامة خجل، وهي تقول:

-والله.. والله لم أقل سوى ما رأيت.. كانا هناك يتحدثان بما قلت..

وأعادت ندى ترداد ما سمعته بالحرف في لغة إنجليزية سليمة. اندهشت الأستاذة زهرة وهي تسمع لأول مرة حكاية ترومان وتشرشل تحكيها ندى، ويؤكد الأستاذ رشيد وقوعها. أحست برعشة تسري في جسمها، فلزمت الصمت، بينما كانت كوثر تنقل بصرها في خوف ظاهر بين صديقتها والأستاذ رشيد الذي واصل قوله:

-نعم.. عاد شبح ترومان يطارد الإنسانية.. لستِ الوحيدة التي رأيته يا ندى.. أنا بدوري رأيته، وطالبتي الصينية فانغ زيجيان رأته.. ورأت كيف كان يسرب بخارا أو غازا ليدمر مدينتها يوهان.. وكتبت لي تحكي عما رأته قبل أن يجتاح كورونا بلدها.. أنا أصدقك في كل ما قلت.. شبح ترومان عاد ليلقي قنبلة جرثومية جديدة على الأرض ليظل حاكما العالم.. وكلنا سنرى شبح ترومان في قادم الأيام…

***     ***     ***    ***

في صفحته على الفايس بوك، وعبر الميسينجر، تلقى الأستاذ رشيد رسالة أخرى من طالبه الإيطالي فابريسيو نيللي الذي درسه اللغة العربية بطنجة إلى جانب فانغ زيجيان وطلبة آخرين بالمدرسة الأمريكية، كانت الرسالة تحكي عن انتشار كورونا بمدن إيطاليا، وكثرة الوفيات التي فاقت ما عرفته الصين من حالات وفيات. كانت رسالة فابريسيو تقطر شجنا على ما أصاب بلده من جراء الوباء، وتنز غضبا على الدول الأوروبية التي لم تحرك ساكنا ولم تبادر بأي حركة تنبئ عن مساعدتها لإيطاليا في مواجهة الجائحة.

لم يحك فابريسيو عن حلم أو رؤيا رآها، ولكنه تحدث عن وقائع تشيب لها الولدان. عن المستشفيات التي امتلأت بالمصابين، عن قرار الحكومة إعلان “وضعية حرب” في البلد، وتضحيتها بالمسنين والمرضى المزمنين من أجل إنقاذ الشباب. عن بكاء رئيس إيطاليا وتسليمه الأمر إلى السماء. عن رفض الشباب زيارة آبائهم الذين يحتضرون في ردهات المستشفيات خوفا من انتقال العدوى إليهم. عن الصفوف الطويلة للتوابيت المغلقة التي تحمل جثامين ضحايا الوباء. عن حرق الموتى وتعذر إمكان دفنهم. وحكى فابريسيو عن والديه اللذين أصيبا معا بالفيروس وهما في نيويورك، وعن وفاة والده ودفنه دون أن يودعه. كان فابريسيو نيللي يحكي وجعه، ويتحسر على وطنه، ويعبر عن هلعه مما أصاب الناس وسيصيبهم. وفي الأخير رفع أكف الدعاء راجيا الله أن يحفظ المغرب مما أصاب إيطاليا، متمنيا لأستاذه رشيد النجاة من هذا الوباء اللعين، مشيرا إلى أيام النعيم التي عاشها في طنجة.

دمعت عينا رشيد، وهو يرد على رسالة طالبه متمنيا له السلامة من الداء راجيا منه أن يلزم البيت ولا يغادره، وأن يحتاط بكل قوته حتى لا يصاب بالداء، مؤكدا أن هذا الوباء سيتراجع إن تعاملت معه الإنسانية بوعي، واتخذت الوقاية طريقا لمجابهته.

يومها أعلنت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي بالمغرب عن وقف الدراسة في جميع المدارس والمعاهد والجامعات التابعة للدولة أو الخاصة، وكذلك مؤسسات البعثات الأجنبية. وبعدها بأيام قليلة تم فرض حظر التجوال بكافة المدن المغربية، ومنع السفر بين المدن. فلزم رشيد بيته، وصار يتابع أخبار ما يجري في بلده والعالم عبر التلفزيون والهاتف. ويوزع وقته بين القراءة والكتابة، ولكنه لم ينس تلميذته ندى التي تنبأت بقدوم الكارثة، ورأت ما رأت يقظة لا حلما، فكان يطمئن عليها بين فينة وأخرى.

وظل سؤالها الذي سألته حينما زارها في البيت يتردد في ذهنه:”.. لماذا لم يحاكَم هاري ترومان باعتباره مجرم حرب؟ ألم تكن الحرب قد انتهت باستسلام ألمانيا ومؤيديها حينما أمر بضرب هيروشيما ونكازاكي؟ ولماذا لا يحاكَم من كان وراء انتشار  فيروس كورونا؟”

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون