شارع بلا ظلال

موقع الكتابة الثقافي writers 44
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كريم محسن

أمشي في شارع بلا ظلال، مستسلما تماما لشمس لا ترحم، ولا تشعر بوجودي من الأساس. انتقلت من يمين الشارع إلى يساره، عسى أن أجد في تلك الحركة الجانبية تيار هواء قادم من البعيد.

استيقظت اليوم على هاتف من صديق فرق بيننا الزمن وحده، يخبرني أن داليا شنقت نفسها في صالة المنزل منذ يومين، والعزاء سيكون اليوم. داليا تفاجئني كثيراً، وتبحث عن المغامرة. في آخر مكالمة هاتفية حدثتني عن قصيدة حاولت كتابتها وفشلت. لم تكتب الشعر أبدا، لكنها تبحث عن المغامرة.

أكملت السير بحثا عن أقرب مطعم “فول وطعمية”، وجدت عربة فول يقف أمامها طابور من الموظفين والعمال، حشرت جسدي وسطهم. طلبت ثلاثة ساندوتشات فول بالطحينة مع طبق باذنجان مقلي، إفطار مثالي يستحق أن أصارع من أجله الموظفين والعمال وكل من اقترب من تلك العربة. جلست على مقهى قريب من عربة الفول، أكلت ثم دخت سيجارتين متتاليتين وشربت الشاي بالنعناع. أخرجت الموبايل من جيبي، ووجدت مكالمتين من نفس الصديق القديم، هل سيخبرني تلك المرة أن داليا عادت من تجربتها القصوى؟

يربطني بداليا ذكريات نجحت في نسيانها بصعوبة. سأكتب قصيدة عن الذكريات بدلا من القصيدة التي فشلت داليا في كتابتها. أنا أمتلك قدرات أديبة رائعة، نشرت مجموعة قصصية اشتراها أصدقائي، وأظنهم يمسحون بها الآن أطياز أطفالهم الصغار.

داليا تكتب سيناريوهات أفلام قصيرة، ترسم لوحات قبيحة، تعزف البيانو وبارعة في التصوير، داليا مكتب إنتاج للأفكار والفنون. لم تخبرني عن رغبتها في الانتحار من قبل، أعتقد أنها لم ترسم خطة للانتحار، هي فقط قررت ذلك فجأة وفعلت، بمنتهى البساطة.

كانت تقول لي دائما: “عايزه أعيش تجربة حقيقية، على الأقل مرة واحدة في حياتي”. وكان ردي: “هو في شيء حقيقي أكثر من تجربتنا الأسبوعية في السرير؟”. كانت داليا تبحث عن تجربتها القصوى وسط حطام الحياة، تريد أن تصبح سهما يخترق بطن الوجود وينفذ منه. أظن أن ذلك أكبر من مجرد حلم يراودها، أنها تتحرك دائما باتجاه المستقبل، حركة مستمرة إلى الأمام حتى أثناء سكونها.

حرارة الجو اللافحة، تشعرني بالحزن أكثر من خبر انتحار داليا، كم أنا نذل ابن وسخة.

ذاتي تراقب نفسها و تحاسبها، قمة الجنون أن تكون إنسانا. أقيم محكمة أخلاقية داخلي وأحكم على نفسي بالإعدام شنقا بجوار داليا.

أحاول البحث عن سبب كافٍ لعدم بكائي، افترقنا منذ سنة وانقطعت بيننا كل سبل الاتصال، أليس ذلك كافيا؟ سنة كاملة كافية لتجعلني أنسى وجود داليا في حياتي من الأساس.

يجب استغلال الموقف بشكل جيد، سأكتب قصة عن الانتحار، يقرأها أصدقائي ويفهمون أني أتحدث عن داليا، فتنهمر المكالمات الهاتفية لتخبرني أن القصة مؤثرة وأني أستحق جائزة كبرى. نعم، أستحق جائزة أسوأ نص أدبي سوف يكتب هذا العام.

“لماذا تكتب؟” سألني الصحفي في خيالي، وأجبت بمنتهى الثقة: “أكتب حتى يقرأ أصدقائي ويعرصوا”.

في الماضي، فكرت أنا وداليا في كتابة قصة مشتركة: هي تفكر وأنا أكتب، ثم أنا أفكر وهي تكتب، ثم نمارس الجنس متأثرين بنشوة الإبداع وجنونه. لم نطبق غير الجزء الأخير من الفكرة، وبالطبع كان الجزء المفضل بالنسبة لنا. أما الآن، سنكتب أنا وداليا، قصة مشتركة أيضا، لكن بأسلوب مختلف تماما. هي ستكون بطلة القصة المنتحرة: جثة معلقة في السقف داخل قصتي. ستشارك بموتها في كتابة القصة. أن تبدع وأنت في تعداد الموتى هو تجاوز لمفهوم الإبداع.

فكرت في العودة إلى المنزل والبدء في كتابة القصة حتى موعد العزاء.

ناديت القهوجي ودفعت ثمن الشاي، مشيت ببطء في الظل قبل الوصول إلى الشارع الذي أتيت منه، تمنيت أن ينتشر الظل إلى ما لا نهاية، فيغطي الوجود بأكمله، ويبتلع الشمس في جوفه إلى الأبد. ومن بعيد، رأيت تروسيكل محمل بالقمامة، يركبه شاب ويدخن سيجارة ويحرك رأسه في لذة ونسيان تام للوجود، ويغني بحشرجة، فامتزج صوته مع صوت أم كلثوم القادم من كاسيت التروسيكل وهي تغني “يا فايتني وأنا روحي معاك”.

شعرت برغبة في الضحك، وأكملت السير.

…………….

*قاص من مصر

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون