سيرة الرواية المحرمة: هل يجب أن نصدّق نجيب محفوظ؟

موقع الكتابة الثقافي writers 5
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

ما سأتناوله في هذه القراءة لا أعتبره محتوى ينقص كتاب “أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة” لمحمد شعير الصادر عن دار العين، وإنما الفكرة التي كان الاهتمام بمناقشتها سيجعل استمتاعي بالكتاب أكثر عمقًا.

يتعلق الأمر باستفهام لا ينفصل عن الطبيعة التسجيلية للكتاب بما تشتمله من خطوات اقتفاء الأثر لرواية “أولاد حارتنا” عبر الزمن، وتتبع الأحداث والشخصيات، والتنقيب في المصادر والمراجع، والربط بين تفاصيلها، وكذلك التحليلات المقترنة بهذا التوثيق، وإن كان هذا الاستفهام سيساهم في دفع هذا التدوين المجتهد نحو الجدل النقدي غير التقليدي الذي تتطلبه بالنسبة لي كتابة سيرة لرواية كـ “أولاد حارتنا”، يترصّد هذا الاستفهام بحتمية اقتناعنا بالدفاعات التفسيرية المتعددة لنجيب محفوظ عن “أولاد حارتنا” منذ صدورها وحتى وفاته، وهو بذلك لا يتوقف عن خلق المزيد من التساؤلات التي لا تخص الرواية نفسها فحسب، وإنما تنتمي بالتأكيد إلى الجانب التأريخي لها أيضًا.

ماذا لو أن محفوظ قد أراد حقًا في روايته أن يهدر دم المقدسات التي تم اتهامه بأنه تجرّأ بالتطاول عليها؟ .. لا شيء بوسعه أن يجبر أي قارئ لأولاد حارتنا أن يظل مؤمنًا للأبد بالشروح المتبرّئة لنجيب محفوظ سواء كانت متعلقة بنقد النظام الناصري، أو بالمعالجة الاشتراكية للأزمات الاجتماعية والوجودية، أو بالسعي نحو تفاهم منقذ بين الدين والعلم، خاصة لو كان هذا القارئ واعيًا بقوة المراوغة في الرواية، وتمردها على الأسلوب الفني المألوف في أعمال محفوظ السابقة ـ وهو ما يمكن مقاربته باستفاضة في مجال آخر ـ وخاصة أيضًا لو تم وضع الإيضاحات المختلفة والمتعارضة ـ كما وصفها شعير نفسه في الكتاب ـ لمحفوظ عن “أولاد حارتنا” بجانب ما كان يُسمى بدبلوماسيته الشهيرة، والتي كانت تبدو كقناع متسامح لجوهر ساخر لا يمكن لأحد أن يضبط حدوده، فضلا عن الاستحالة البديهية لكاتب مثله أن يسلّم نفسه بسذاجة قاتلة لأعدائه.

“وهكذا تتواصل تفسيرات محفوظ المتعددة، المتقاطعة أحيانًا، والمتعارضة أحيانًا أخرى على مدى فترات زمنية مختلفة. بعد نجاته من محاولة الاغتيال، كان تفسير محفوظ للرواية سياسيًا بحتًا، على العكس من المرات السابقة، التي كان يراوح فيها بين تفسيرات “دينية” طوال سنوات الستينيات، وبين خليط ما بين الديني والسياسي في السبعينيات والثمانينيات. وهذا التحول لم يكن مقصورًا على محفوظ نفسه، بل امتد أيضًا إلى عدد من النقاد الذين اختلف تفسيرهم النقدي للرواية”.

إذا كنا دائمًا ـ وفقًا للتعارضات، والقرائن الغامضة، والاستنتاجات غير المحسومة ـ نتحدث عن احتمالات لا يحتاج إفساد اللعبة أو الدعابة التي تُشكّلها سوى تأويلها كملامح ليقين ثابت؛ فإننا نستطيع التفكير في الاستفهام السابق كاحتمال مغاير .. كتصوّر له مبررات يمكن تأملها وتشريحها ومراقبة إشاراتها المحفّزة .. كأرق فلسفي غير مستقر، أو قبول وارد لحقيقة مؤقتة أو دائمة لدى نجيب محفوظ عند كتابة “أولاد حارتنا” .. لهذا سأصوغ هذا الاحتمال وعلى نحو مختصر في شكل تساؤلات ناجمة عن الاستفهام الأصلي الذي سبق أن أشرت إليه: ماذا لو أن نجيب محفوظ كان يفكر أثناء كتابة الرواية ـ أو لم يستبعد هذا الهاجس ضمن هواجس عديدة ـ في أن هذا التاريخ المحظور منذ بدايته المرجعية، وبكل ما يتضمنه من وقائع مكوّن في الحقيقة من سرديات متصارعة، أو تراكم فادح ومتشابك من مرويات السلطة القابلة لإعادة الكتابة أي للتقويض المستمر .. ماذا لو أن نجيب محفوظ قد استخدم السمات المميزة والأثيرة لعالمه الكتابي في هذا التقويض: الحارة والفتوات والوقف على سبيل المثال، لا لكي ينّقي أو يعدّل أو يكتشف حكمة مثالية مهجورة لهذا التاريخ ـ كما يشيع في تفسيراته خارج الرواية، وكما تتجه المناقشات السائدة حول تأثر محفوظ بالموروث الديني، واستثماره للقص القرآني ـ وإنما ليمحوه، ليساعد زيفه المعرفي على أن يبدو ناصعًا حين يُجسّد، وهو ما يمكن النظر إليه كتطور لهذه العلاقة بين محفوظ وذلك الموروث السردي .. ماذا لو أن نجيب محفوظ قد أراد في “أولاد حارتنا” أن يفكك وهم المطلق من أساسه المترفّع، وعبر صوره وتمثلاته المتعاقبة سواء كان هذا المطلق مهيمنًا بالغيب، أو متنكرًا في سيطرة العلم .. ماذا لو أن هناك جذورًا متوارية لما يُسمى بالغضب الفلسفي ـ الذي يتجاوز المُشار إليه في الكتاب بالقلق الفكري ـ عند نجيب محفوظ قد وصلت به إلى ذروةٍ ما بعد يوليو 1952 ـ وهو ما سيظهر بوضوح في الأعمال التالية لأولاد حارتنا ـ الأمر الذي جعله يرصد في الرواية هذا التناسخ الأزلي بتجلياته المختلفة بين فتوات الميتافيزيقا وفتوات الواقع .. ماذا لو أن نجيب محفوظ قد قصد أن يستعمل “أولاد حارتنا” كحيلة روائية محرّضة على التفكير في أن كل “بطل كوني” يمتلك الخصائص الإنسانية مهما كان يستطيع أن يكون نقيضه، أو أنه يحمل هذا النقيض في أعماقه بفضل الأصل الذهني المشترك الذي لا يقدر أن يكون محصّنًا، ولهذا يمكن لأي تقسيم بشري أن ينطوي على دلائل عبثيته، أي الدوافع اللازمة لخلخلته .. لماذا لا تكون “أولاد حارتنا” هي المعادل الروائي للمنظومة التي بلا وزن بحسب جان بودريار؛ حيث الرب الذي يضمن استبدال الرمز بالمعنى يمكن محاكاته، واختزاله في الرموز التي تكوّن العقيدة “الاشتراكية .. الدين .. الثقافة .. القومية .. الأخلاق … إلخ”، الزيف العملاق الذي يستحيل معه استبدال المنظومة بشيء حقيقي، لأنها تتبدل بنفسها في دائرة محكمة بلا مرجع أو محيط .. لماذا لا نتخيل أن محفوظ قد أراد أن يخدع الجميع، وبعيدًا حتى عن الاستحالة البديهية التي ذكرتها لأن يؤكد غرضه التخريبي للأساطير المتعالية في “أولاد حارتنا” في مواجهة الشيوخ والضباط والكتّاب والنقاد والصحفيين والقراء، وبعيدًا أيضًا عن “دبلوماسيته” المعهودة؛ لماذا لا نعتبر أن الشروح المتبرّئة والمتعارضة كانت تنويعات متغيّرة لهذه الخدعة، أي طريقة للاستمرار في كتابة الرواية تعتمد على المبالغة المتعمّدة أحيانًا في الاختباء وراء توافق ما، أو تبني الاقتراحات التأويلية الأقل إزعاجًا ـ كالحل الموفق بين من اتهموا الرواية بالإلحاد، ومن وصفوها بأنها عمل صوفي، والمقصود به علاقة “أولاد حارتنا” بـ “العودة إلى متوشولح” لبرنارد شو، وهو الحل ذاته الذي يمكن توظيفه لإثبات رؤية مضادة لما كتبه نجيب محفوظ إلى فيليب ستيوارت، أو بالأحرى لطبيعة تأثر محفوظ المحتملة بعمل برنارد شو ـ أو التمسّك بنوع من التوازن الخبيث بين ما يُطلق عليه “الحفاظ على كرامة الإبداع”، وبين عدم التورط في حروب خاسرة تهدد هذا الإبداع، بين أن تكون حرًا في أن تعتقد أو تكفر بشيء، وبين أن تحاول الحصول على ضمان ولو في حدّه الأدنى من الأمان الشخصي داخل هذه الحرية .. لماذا لا نفكر في أن هذه الرغبة في إحداث التوازن عند نجيب محفوظ لا ترجع إلى الخوف ـ وهو شيء لا يمكن إدانته فضلًا عن براهين غيابه، أو على الأقل عدم توّحشه عند محفوظ ـ بقدر ما هو نابع من استمتاع عظيم بتنظيم المفارقات الساخرة خارج الكتابة، أو التي بوسعها أن تحافظ على امتداد غير محكوم لمتن الرواية، تواصل من خلاله إنتاج نفسها كسرٍ مستفز حقق إرادته، ويريد أن يحصل على صك الاعتراف حتى من خصومه، باعتبار أن هذه الخصومة خاطئة في حد ذاتها، لأنها راجعة لسوء فهم تلك النيّة المبيّتة لتمرير الانتهاك الذي سيظل متمنّعًا.

مقالات من نفس القسم