سيرة الاختباء (17)

ممدوح رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

الفقرات التالية من قصتي القصيرة “علبة الرماد” المنشورة بموقع “قديتا” في 30 أكتوبر 2010:

“ـ منذ سنوات طويلة تعرفت أنا وصديق لي – وهو قاص أيضًا بالمناسبة – على أديب كبير السن مخلص في كتاباته للقيم والمبادئ التي رسختها كلاسيكيات الأدب الروسي. كان رجلا مهذبًا وطيّبًا بحق وكان يعاملني أنا وصديقي كابنيْن.

ـ كان لهذا الأديب ابنة جميلة في مثل عمري أنا وصديقي تقريبًا وكانت تكتب الشعر وتتسم طباعها بالعفوية والمرح. ولأن صديقي كان – على العكس مني – وسيمًا وجريئًا فقد نجح خلال فترة قصيرة في تكوين صداقة قوية معها، في حين ظلت علاقتي بها لا تتجاوز التحيات المقتضبة الخجولة – من جانبي طبعًا – والكلمات القليلة العابرة المحكومة بحرصي المرتبك على ألا تتلاقى نظراتنا بشكل مباشر. كنت أتحسّس بعينيّ جسمها من بعيد وهي تتحدث مع صديقي وتضحك معه بينما رعشة لذيذة ومؤلمة تحرق روحي.

ـ ذات يوم أخبرني صديقي بأنه كان بالأمس في منزل الأديب الكبير وأن ابنته الجميلة أخذته إلى غرفة نومها كي تطلعه على مكتبتها وأنهما ظلا جالسين في الحجرة مدة طويلة بينما أبوها وأمها يلعبان الشطرنج في الخارج. ورغم أن صديقي أقسم لي بأنه لم يحدث أي شيء بينهما إلا أنني لم أكن في حاجة لدافع أقوى حتى أقرر الانتقام بأيّ شكل. كتبت في نفس اليوم قصة قصيرة؛ كانت في الحقيقة سردًا تقريريًا سريعًا لموقف اختلقه خيالي الهائج بالرغبة في شفي الغليل ومؤسس على ما أخبرني به صديقي. كانت القصة عن بنت يزورها صديقها في منزلها ثم يقوم بـ “فتحها” داخل غرفة النوم بعدما طلبت منه أن يدخل كي يطلع على مكتبتها بينما والداها جالسان بالخارج يلعبان الشطرنج. كنت أستحضر أثناء الكتابة الدفء الناعم لجسد البنت الجميلة والذي كان توهجه يتدفق من وراء ملابسها بمكر شهواني منسجم بشراسة مع الخفة الطفولية لوجودها، بحيث كانت تبدو دائما كأنها تتربّص بكل ما يصادفها في العالم حتى تجعله يشاركها الرقص داخل حلم استثنائي.

في اليوم التالي قرأتُ القصة في الندوة الأسبوعية بحزب التجمع التي كان يديرها الأديب الكبير وأمام ابنته وصديقي وأمام كل الكتّاب الذين يعرفون أن الأديب الكبير يحب لعب الشطرنج مع زوجته وأن لديه ابنة وأن لدى ابنته صديق يحتمل فعلا أن يزورها في منزلها.

ـ ابتسم الأديب الكبير بمنتهى الحزن والأسى بعدما انتهيت من القراءة وبصوت خفيض وشاحب قال لي: “هذا ليس مستواك في الكتابة”. ثم أدار رأسه ليثبت عينيه بعيدًا عني وعن عيون الجالسين الذين كان من الطبيعي أن تنشط في وجوههم ابتسامات واسعة وهم يوزعون نظراتهم المتخابثة بيني وبين الأديب الكبير وبين ابنته وصديقي الجالسين بجوار بعضهما. تكلم عن القصة شخصان أو ثلاثة تقريبًا وأجمعوا – كما توقعت – على أنها أقل القصص التي سمعوها مني ولكن ما لم أتوقعه هو دفاعي عنها بعدما فرغ هؤلاء من حديثهم فوجدت نفسي مندفعًا بإصرار حاد في شرح المفارقة بين “لعب الشطرنج” وما يستدعيه من صلابة ذهنية وتركيز عميق وقدرة على توقع جميع الاحتمالات والتعامل معها وبين ما يحدث للابنة التي سُمح لها بأن تأخذ شابا إلى غرفتها في حضور والديها الواثقين – بوصفهما لاعبي شطرنج – في إمكانيات السيطرة والتحكم التي يتمتعان بها. الأديب الكبير الذي ظل ساكتا بملامح متجهمة أثناء النقاش والذي استكمل الندوة بنفس الملامح من دون أن ينظر إليّ ومن دون أن يستجيب لنظراتي المعتذرة التي استمرت تحدق في وجهه وترجوه أن يلتفت لي ويكلمني، هو الذي صافحني بعد انتهاء الندوة وهو الذي سألني عن أحوالي وبينما كان يحاول أن يستعيد ابتسامته الرقيقة المعتادة قال لي إنه سينتظر أن يسمع مني قصة أفضل قريبًا. في هذه اللحظة تمنيت أكثر من أي شيء آخر أن أقبّل رأسه وأخبره بأنني آسف لكنني لم أستطع فهززت رأسي ومشيت من أمامه بسرعة وأنا أشعر بشفتيّ قد التصقتا ببعضهما بحيث لن يجد الندم الثقيل الذي عدتُ به إلى المنزل في هذه الليلة طريقا للخروج من داخلي أبدًا”.

كل ما تضمنته هذه الفقرات حدث بالفعل، وبدقة تامة عام 1993، وكان عمري وقتئذ 16عامًا، باستثناء أن صديقي لم يكن قاصًا، وإنما حينها كان ممثلًا مسرحيًا، وأعتقد أنني سأكتب ذات يوم عن السبب الذي جعلني أقوم بهذا التحريف في القصة .. بعد 27 سنة من هذه الواقعة مازلت أفكر في تلك اللذة الغامضة التي شعرت بها أثناء كتابة تلك القصة الانتقامية، وكان اسمها بالمناسبة “تحت السيطرة”، والتي لم أنشرها، ولم أحتفظ بها حتى بعد تلك الليلة البعيدة التي قرأتها فيها أمام أعضاء نادي الأدب بحزب التجمع بالمنصورة .. اللذة التي تتجاوز الثأر من صديقي، وابنة الكاتب كبير السن، ولا تمحو بالتأكيد الشعور بالندم الذي ذكرته في “علبة الرماد” .. كانت “تحت السيطرة” تقريبًا هي القصة الثانية بعد “المصفقون” التي أكتبها ـ كما أشرت في السيرة من قبل ـ بتعمّد أساسي لرد الأذى تجاه شخص أو مجموعة بشرية، ويتصادف أن ذلك الأذى في الحادثتين لم يكن متعمّدًا ضدي .. كانت هناك سعادة ممتنة لم أكتشفها وقتها في انتهاك أحكام قهرية، ليس لي دخل في وجودها: أن تكون صغير السن، أو أصغر كاتب في تلك الجماعة، بما يعني أن علاقتهم بك ستخضع عفويًا لأثر هذا الفرق العمري، حتى لو اتسمت بالود المستقر، والاحترام المتبادل .. أن يحاول “الأكبر سنًا” إعادتك إلى “القيم والمبادئ” القصصية التي تحاول أن تتخلص منها مبكرًا في أعمالك .. أن يكون هناك “أديب كبير”، “أب”، “أستاذ” يجلس على رأس طاولة يقع كرسيك دائمًا إلى جانبها، لمجرد أن عمرك 16 عامًا، وتحتاج مضطرًا للتواجد في هذا المكان، بينما يقترب هو من بلوغ الستين، في حين أن الفرق بين القصة القصيرة التي يكتبها كل منكما يؤكد حقيقة مناقضة .. حتى لو كان رجلًا مهذبًا وطيبًا بحق .. لروحه السلام.

..

لقراءة قصة “علبة الرماد” كاملة: اضغط هنا

مقالات من نفس القسم