سيرة أفول

محمد العربي كرانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  محمد العربي كرانة

لقد حملني ما لا أطيق، كيف لي أن أكتب سيرته الذاتية، وقد استغرق مني الأمر أياما لمجرد سماعها منه متقطعة بحسب توافد الزبناء على الدكان وانصرافهم، ثم من أدراه بأن لي القدرة اللغوية والأدبية لأفعل  ذلك بطريقة مرضية. وبابتسامة مشرقة واثقة كان يمسح هواجسي مؤكدا بأن اختياراته لم تخطئ قط في أمور كثيرة فلم ستخطئ الآن؟

حاولت التملص من مهمة ستثقل كاهلي وربما فشلت فيها فشلا ذريعا سيؤثر على رصيد الاحترام الذي  يكنه لي،  بأن أكدت له أن لا أحد سيهتم بسيرة نكرة من النكرات التي تؤثت فضاء هذا المجتمع، وأن السير هي حكر على العظماء والمفكرين.

لا شيء فت في عضده، ولا غير من قناعاته، فهو يرى أن الناس البسطاء هم من يبني المجتمعات، وأن سيرهم أحق أن تعرف وتدون، وعلى أكتاف هذه النكرات قام مجد من أسميهم عظماء ومفكرين. أسقط في يدي، فبقدر ما كنت حريصا على إرضائه، كنت أعلم تعقيد المهمة وصعوبتها، للكم الهائل من  المعلومات المتداخلة والمتناقضة، الغارقة في الجزئيات مرة وفي التعميم مرة أخرى، والضاربة عرض الحائط بالبعد الزمكاني في أحيان كثيرة، وهي أمور طبيعية في حكي شفاهي تلقائي نابع من الذاكرة، وخاضع للحالة الوجدانية للراوي في  علاقته مع الأحداث المروية ومدى تأثيرها في مسار حياته.

   أسلمت أمري لله، ووافقت بشروط قبلها حتى قبل أن أحددها بهزات متكررة من رأسه، وبابتسامة عريضة. كبحت اندفاعه بإشارة من يدي، وشرحت له الطريقة التي سأتبعها والتي قوامها الإيجاز، والحرية في التعامل مع أحداث حياته، والاقتصار على المهم منها. أطرق مليا وهو يعبث بلحيته، ووافق بامتعاض ظاهر محتجا بأنه أدرى بحياته مني.

    لا شيء كان ينذر في هذا اليوم المشمس كيف سيكون مساؤه. بعد العصر هبت رياح غربية هوجاء انحنت لها هامات الأشجار، وتراقصت من وقعها النوافذ والأبواب، واكتسحت زرقة السماء سحب داكنة ثقال ، ليندلق المطر مدرارا غاسلا وجه المدينة المتعبة. احتميت منه بدكان الحاج – ليتني ما كنت فعلت – إذ بعد دعوتي لكأس شاي ساخن، ونظرا لخلو الدكان من الزبائن، ذكرني بأني قد وعدته بالاستماع  لسيرة حياته، وبأن وعد الحر دين عليه. لم أمانع، لم يكن لي خيار آخر. لما تأكد أن لا مفر من الاستماع إليه، رشف من كأس الشاي رشفة طويلة وبصوت مسموع، ثم بدأ الحكي بصوت هادئ:

أنتمي لأسرة سوسية  فقيرة -وتلك سمة غالبية سكان قريتنا القابعة في سفوح الأطلس الصغير- معيلها الوحيد يعمل فقيها وإماما مما أكسبه مكانة اعتبارية بحكم أنه حافظ لكتاب الله ومؤتمن عليه، والمسؤول على تلقينه لأطفال القرية. لم تكن هذه الوضعية لترضيني، بل بالعكس نغصت علي طفولتي بعد أن وقر في ذهن الأب أن ابن الفقيه يجب أن يكون حافظا لكتاب الله قراءة وتجويدا ومدركا لقواعد اللغة العربية.

كانت أيامي مقسمة ما بين التحصيل الإجباري الذي لا محيد عنه، ورعي بضع رؤوس غنم وماعز، هي كل ثروة الأسرة. لم نكن نملك أرضا، الأراضي الصالحة للزراعة قليلة بحكم موقع القرية الجبلي والتي تعتمد في غالبيتها على تساقط المطر ما عدا تلك المحاذية لنبع غير دائم الجريان.

   عندما يسقط المطر،

 تعم الفرحة الإنسان و الحيوان والحجر،

 ونخرج حاسري الرؤوس حفاة لنرقص رقصة المطر.

 تزكم أنوفنا رائحة  التراب المبتل إيذانا بقرب الفرج المنتظر.

 لم تكن حياتنا هنية في هذه القرية النائية.

لا… لا تستغرب من فرحتنا بالمطر وأنت المحتمي منه بالدكان. لا يعرف قيمته إلا من اصطلى بالهجير المستعر. ما عرفنا رخاء مستمرا، بُلَغٌ من العيش نستخلصها استخلاصا من تربة شحيحة علمتنا أن لا نغتر بوفرة ولا نحزن لشح وأن البقاء رهين  بالتكافل والتآزر وتلك ميزتنا وسر نجاحاتنا.

    ولكن…. لقدرة الإنسان على الاحتمال حدودا، هزمتنا قساوة العيش وشظفه وانسداد الآفاق. وشيئا فشيئا خلت القرية من شبابها ورجالها. لم يتبق من السكان غير الشيوخ والنساء والأطفال والمرضى.

ذات مساء، بعد صلاة العشاء سمعت نقاشا حادا وجدالا منبعثا من غرفة الأبوين، استغربت للأمر إذ أغلب أحاديثهما أقرب للهمس. لابد أن الأمر موضوع النقاش هام لدرجة أن تناقش أمي زوجها بهذه الحدة. استرقت السمع بدافع الفضول دون جدوى، فقد عم الصمت برهة ليمزقه صرير باب يفتح بقوة وصوت أبي الغاضب معلنا بأن الأمر قد قضي.

لم أر أمي على هذه الحالة من قبل، كانت تذرع الغرفة ذهابا وإيابا، غير آبهة بتساؤلاتي الخرساء وهي تحدث نفسها بكلام غير مفهوم ثم توقفت أمامي. عيناها الذابلتان تحملقان في الفراغ، وبحركة آلية ضمتني إلى صدرها وجيب قلبها صك أذني وزاد من حيرتي وارتباكي. أمسكت رأسي بين يديها وظل ابتسامة على شفتيها وبصوت أقرب إلى الحشرجة أخبرتني بأني أصبحت رجلا، وأن وقت الرحيل قد أزف.  لم أستسغ الأمر، كيف يمكنني أن أصبح رجلا وبالكاد أتممت الخامسة عشرة من عمري. وعن أي رحيل تتحدث وأنا المنذور لأكون خليفة للوالد؟  لم يفد احتجاجي ولا صراخي في تغيير ما خطط لي.

استعدادات السفر تمت في صمت جنائزي منذ الصباح الموالي، وفي المساء وجدت نفسي ملقى في حافلة وجهتها المدينة، وكل متاعي حقيبة متلاشية مربوطة بحبال، تحتوي على بعض الملابس والمصحف الكريم الذي أصر الوالد بأن أحمله معي موصيا إياي بأن لا أتقاعس عن تلاوته واستظهار آياته. ودليل الخيرات هدية من أمي لإيمانها العميق بأنه قادر على فتح أبواب الرزق أمامي.

 كيف كان الوداع، بعض من جزئياته لا زال عالقا بذاكرتي وكأنه تم بالأمس القريب، التحقت بالزريبة الملحقة  بالمنزل حيث قطيعي، تعالى ثغاؤه حين رآني  ظانا بأني  سأقوده نحو المرعى  فتدافع نحو البوابة الموصدة التي لم أفتحها. حزن عميق اجتاحني وأنا أرى هذه الرؤوس المتزاحمة، المتدافعة والراغبة في انطلاقة لن تتم. مسحت بظهور بعضها واستدرت وأنا أغالب دمعا عصيا.  

 أجزع الوالد من فراقي؟ أعلم أي مركب صعب أركبنيه بلا عدة ولا سلاح؟ ألا يشعر بالأسى والحزن لفراقي؟ لا شيء تغير في سحنته وهيئته وهو يودعني غير ارتعاش خفيف في اليد التي قبلتها.أ باسم الوقار والهيبة حكم على الرجل أن يكبح مشاعره وأحاسيسه حتى بالنسبة لأقرب الناس إليه؟ غريب أمر عاداتنا وتقاليدنا، ما افتقدته عند الوالد حين الفراق، عوضتني عنه أمي بالقبلات والدعوات بأن يحفظني الله من كل مكروه.

لم تكن الرحلة مريحة، اهتزازات الحافلة المتهالكة جعلتنا نتراقص كالكراكيز مع كل التواء في الطريق، ووقوفها المتكرر أرهقنا، ومطط زمن الرحلة لتستغرق الليل كله وجزءا من النهار الموالي. رحلة من الجحيم عشتها في أول خروج لي من قريتي. عندما توقفت الحافلة بالمحطة معلنة نهاية الرحلة، تنفست الصعداء. شعرت بدوار خفيف وبخدر في قدمي من كثرة الجلوس.

ذهلت من ازدحام المحطة ومن ضجيجها الذي لا يطاق، الكل يتدافع في كل الاتجاهات، تقاذفتني الأكتاف حتى كدت أفقد حقيبتي لما وقفت حائرا في الاتجاه الذي علي أن أسلكه. لم تستقبلني المدينة بأحسن وجوهها. يد على كتفي وابتسامة  مرحبة من عمي أخرجتني من حيرتي وذهولي.

توقف المطر فجأة كما بدأ، استرد الشارع رواده، والمتجر زبائنه. توقف الحاج مكرها عن الحكي. ود لو أمكنه أن يستبقيني لمدة أطول. أساريره المنقبضة المتعبة تشي بأن ما بثني إياه لم يكن حكيا عاديا، وإنما استعادة لجرح نفسي عميق لفراق قسري مفاجئ بكل زخمه العاطفي والوجداني عصي على النسيان.

 توالت اللقاءات وتوالى الحكي. لم يكن كله  سلسا هادئا، ففي كثير من الأحيان يحتدم النقاش بيننا حول أهمية هذا الحدث أو ذاك، فيثور في وجهي مرددا لازمته المفضلة بأن الحياة حياته وهو المؤهل لتقييم أحداثها، وما علي سوى الاستماع والتدوين. لم أكن أغضب من ردة فعله، وعندما أشعر بأنه قد عاد لهدوئه، أذكره بما تعاقدنا عليه، وبأن اكراهات الكتابة تحتم علي أن أكون موجزا.

 المشكل لم يكن في الاستماع فقد تم وإن على فترات. ولكن بالنسبة للتدوين، فالمسألة أكثر تعقيدا إذ كان علي أن أختار من هذا الكم الهائل من الاحداث أبرزها وأبعدها تأثيرا في حياته، وأن أقنعه بصواب هذا الاختيار. لم يكن الأمر هينا، فبعد أخذ ورد وتهديد بالتوقف عن الكتابة وافق شريطة أن يكون هو من يحكي بطريقته الخاصة المقاطع المتفق عليها، وأن لا أقاطعه تحت أية ذريعة.   

 لم أكن أتصور المدينة بهذا الحجم، مررت أثناء الرحلة بمدن عديدة اعطتني تصورا أوليا عن هذا الكم الهائل من البنايات التي تسمى مدينة. حاولت اقتناص بعض من ملامحها من وراء زجاج الحافلة دون جدوى، إذ أن  سريانها المتسارع  ضد اتجاه الحافلة أصابني بدوار حد الغثيان أرغمني على التخلي عن الفكرة. سارعت الخطى لكي لا أفقد عمي وسط هذا الزحام، وفي مفترق طرق استوقف سيارة أجرة وأخذ مني الحقيبة ووضعها في صندوق السيارة، وأمرني أن أركب في المقعد الخلفي  بينما اتخذ له مكانا بجانب السائق.

سالت مياه كثيرة تحت القناطر منذ تلك الرحلة التي كنت أظنها مشؤومة. أدركت متأخرا رجاحة عقل الوالد وتضحيته. جرح الفراق اندمل، ما عدت ذلك الطفل البدوي التائه، ألفت المدينة وألفتني  وكفتاة مغناج كشفت لي عن محاسنها ومباهجها وكذلك عن مساوئها. تجنبت المساوئ قدر المستطاع، ومن المحاسن نلت القسط اليسير. ما جئت المدينة للتمتع والاستجمام. إيماني الراسخ بأني لن أنال من هذه الدنيا إلا ما قدر الله لي، وثقتي بأن العمل الجاد يثيب صاحبه، سهلا علي الاندماج، ومن تم التغلب على كل المحبطات.

كم كان التواصل مع محيطي الجديد صعبا، بدءا باللهجة وهي شمالية في هذه المدينة. فقد كنت أتكلم اللهجة السوسية فقط. ولكن عمي -ربما تعرض لنفس الموقف من قبل- فطن لذلك وأمرني أن أجلس بجانبه في الدكان وأن أكتفي فقط بملاحظة ما يجري حولي. وبين الفينة والأخرى كان يترجم لي أسماء المواد الموجودة به،  وبعضا من أحاديث مرتاديه. ومع الوقت اكتسبت ناصية هذه اللهجة وإن بلكنة سوسية، واكتسبت -وهذا هو الأهم- خبرة لا بأس بها في المعاملات التجارية مما مكنني من خلافة عمي في إدارة شؤون المحل في غيابه. كان دائم الاندهاش من سرعة تعلمي ومن نباهتي، ويرجعها لتمرسي بحفظ القرآن منذ صغري، ويتأسف دوما  لأني لم أنل فرصتي للدخول للمدرسة .

في بعض الأحيان لا يمكن للإنسان أن يطمئن لما خطط له، أو أن يظن أنه بمنأى عن تغيرات إيجابية أو سلبية خارجة عن إرادته تغير وجهة حياته رأسا على عقب. ذات صباح ونحن نهم بفتح الدكان، ارتفع صوت جارنا اليهودي وهو يدعو بالويل والثبور وينتف شعر رأسه وقد سقطت طاقيته أرضا. استفسره عمي عن الأمر وقد كانت تجمعهما صداقة متينة -وتلك من غرائب هذه المدينة – فأخبره بأنه اكتشف أن خزانته قد فتحت وأن ما بها من أموال قد سرق، وأنه يشك في مساعده الذي لم يأت هذا الصباح.

هدأ عمي من روعه وأجلسه على كرسي وأمرني أن أحضر كأس ماء شربه وهو يرتعش. ظننته سيغمى عليه، لكنه تمالك نفسه واتصل بالشرطة. كان يعيش وحيدا بعد موت زوجته، لم يشأ أن يهاجر إلى كندا صحبة ابنه الوحيد، أمنيته الوحيدة أن يموت ويدفن في هذه المدينة التي يعشقها حتى النخاع. ذلك ما علمته من عمي بعد قدوم الشرطة واستجوابها لجارنا.

لم نره مدة من الزمن، كان عمي  يزوره  ويستقصي أخباره ويقضي بعضا من حوائجه حتى استرد عافيته وعاد لمتجره. لاحظت أنه ومنذ عودته واستئنافه لنشاطه التجاري، أصبح كثير التردد على الدكان ومداوما على الجلوس مع عمي بمكتبه الملحق بهذا الأخير، والمفصول عنه بحاجز زجاجي. كان لدي إحساس بأنه يراقب كل حركاتي وسكناتي وإن بطريقة خفية.

 ما سر هذا الاهتمام المفاجئ  بشخصي؟ ذلك ما سأعرفه لاحقا، عندما أخبرني عمي ونحن على مائدة العشاء، بأن جارنا اقترح عليه أن أعمل لديه مساعدا. كدت أشرق باللقمة التي في فمي من الدهشة، وقبل أن أعقب أردف بأن لي الخيار بالقبول أو الرفض. لما رأى حيرتي وتوقفي عن الأكل، ربت على كتفي معلنا بأنها فرصة ذهبية لكسب مزيد من الخبرة، خاصة وأن صديقه سيلتزم بتعليمي أبجدية عمله مهما كلفه ذلك من وقت وجهد.

 ما عدت راغبا في الأكل، استأذنت عمي وصعدت إلى السطح حيث كانت غرفتي. كان القمر بدرا ساطعا، ألبس البحر رداءه فجعله متلألئا هنالك أسفل القصبة. بينما المدينة غارقة في أضوائها وصخبها.  كنت كلما تأزمت نفسي قصدت هذا السطح المشرف على المدينة القديمة وعلى الميناء وعلى رحابة البحر، فقد كان ملاذي الوحيد من الغربة وعسر البدايات. فلا أحد هنا سيزعجني ويطلع على هناتي. وها أنا ذا من جديد ألجأ إليه لأبثه حيرتي وقلقي من غد أجهله ومن أمس ما أردت مفارقته.

لم أتخيل يوما ما بأنني سأعمل مساعدا ليهودي، فبغض النظر عن النفور المتأصل فينا من كل ما يخالفنا، فقد كانت صورة اليهود الراسخة في أذهاننا، والمقبولة من ذواتنا هي لرجال شُعث يعملون في مهن بسيطة كالفخار وكل ما يتعلق بالدواب من سروج وألجمة، وهي النماذج التي عايشتنا في قريتنا. المهم أن يكونوا دوننا حتى وإن لم نكن أحسن منهم حالا. ولكن الأمر في هذه المدينة مختلف تماما.

معذرة بني، سأغضبك من جديد بخروجي عن ما اتفقنا عليه. ولكن لا يمكنني الاستمرار في سرد أحداث حياتي دون أن أعرج على ذكرها لعظيم الأثر الذي خلفته في نفسي. لا يذهبن بك الظن بعيدا، فلا امرأة في حياتي الآن وإن كانت ستدخلها قريبا. حديثي بني عن التي أرهبتني بحجمها وقطبت في وجهي حين جئتها ثم فتحت لي ذراعيها واحتضنتني بكل دفء الأمومة وتبنتني كواحد من أبنائها… إنها هذه المدينة، الفاضلة، العاهرة، الساحرة، المخيفة، وتلكم خصائص كل المدن الحدودية، وهي القابعة على مرمى الحجر من أوروبا. فيها تعلمت أن الأديان والأعراق لم تكن أبدا عائقا والتعايش السلمي، فلا فرق هنا بين مسلم أو يهودي أو نصراني أو بوذي أو من لا دين له. جئتها متأخرا نسبيا، كانت شمسها كمدينة دولية تميل إلى المغيب. وكان سكانها من الأجانب الذين فضلوا البقاء يترقبون في توجس ما ستؤول إليه أحوال مدينتهم التي لم يعرفوا غيرها ففيها ولدوا وفيها عاشوا وأغلبهم يتمنى أن تضم رفاتهم.

لا… لا تحتج بني. ليس ما ذكرته حشوا ولا إطنابا. لم أعد سوسيا فقط، بل شماليا أيضا، بكل ما يحمله هذا الانتماء من تفتح وبعد عن عصبية لا محل لها في مدينة ما عرفتها على الأقل في عصرها الذهبي. ومن ثم كان قبول العمل مع اليهودي شيئا غير مشين ونقطة مفصلية فيما ينتظرني مستقبلا.

الفأل الحسن، أو بركات دليل الخيرات ودعوات الوالد، من جعلني أحل بهذه المدينة في هذه المرحلة بالضبط وأن أعمل مع السيد دافيد، وهذا اسمه. لن أناديه قط بغير هذا الاسم، انمحت الديانة وبقي الإنسان وكان نعم الرجل والأستاذ. ألم أقل لك بأن هذه المدينة غريبة من حيث تأثيرها على ساكنيها؟. لا تستعجلني بني، لا تنسى أن محدثك شيخ هرم، سأعفيك من التفاصيل -الظاهر أن لديك حساسية منها – ألم يقولوا بأن الشيطان يكمن في التفاصيل ؟ . ما علينا، كنت خير تلميذ لأن تعليمي كان عمليا، ولأن الأستاذ كان حليما.

مرت شهور عديدة على التحاقي بالعمل الجديد مكنتني من الإحاطة بخباياه . حزت رضا السيد دافيد، ليس لإتقان العمل فقط، ولكن لأمانتي وحسن سلوكي -صفات  فقدها جلكم للأسف ويا عظم ما فقدتم – فأوكل إلي أمر تسيير تجارته بعد تدهور صحته والتي كانت تقوم على استيراد البن والزبدة الهولندية، وتصريفها في السوق الداخلية عبر الشاحنات. تجارة مربحة رائجة لقلة المنافسة آنذاك. تحسنت أوضاعي المعيشية ومعها حياة الوالدين في قريتنا النائية.

كانت المناسبات الدينية وخاصة عيد الأضحى فرصة لصلة الرحم معهما مستغلا عطلتي السنوية التي تصادف هذا العيد. كان مستخدمي يحملني هدايا كثيرة لهما. في البداية كانت تتقبل بامتعاض ولكن مع الوقت أصبحت عادية، إلى درجة أنهما كانا يهاديانه بما توفر لديهما وخاصة زيت الأركان. كان ذلك ديدنهما قبل أن يتوفاهما الله تباعا مع فارق زمني قصير رحمهما الله. لقد ترك موتهما جرحا غائرا في نفسي وحسرة، لأني فشلت في إقناعهما باللحاق بي والإقامة معي. 

      مرة، ونحن منهمكان -أنا والسيد دافيد – في حصر الحساب اليومي للمتجر، سألني دون أن يرفع رأسه إن كنت ادخرت مالا من عملي. فوجئت من غرابة السؤال، لأنه قلما تدخل في حياتي الشخصية. لم ينتظر جوابا، رفع رأسه وهو يحدق في مليا ثم أردف وهو يعبث بقلم بين أنامله، عندي لك اقتراح قد يكون فاتحة خير عليك إن قبلته، لما سألته عن ماهيته، أضاف بأن صديقا له يريد بيع منزله والأرض الملحقة به والمتواجد بحي المنظر الجميل بسعر جيد، ولكنه يشترط أن يكون المشتري يهوديا مثله. لم أفهم جيدا المقصود بهذا الكلام، خاصة مع الشرط الغريب للبائع. أفهمته بأن ما اذخرته منذور لنشاط تجاري مستقبلي سأستغل فيه كل الخبرات التي راكمتها مذ بدأت في هذا الميدان. ابتسم كعادته كلما ناقشته في أمر ما وأمسك بيدي، وهو يتعجب من تكريسنا لنهج من سبقنا أي: تعلم، فممارسة ثم دكان. يجب عليك بني أن يكون عندك بعد النظر، وأن تستشعر الربح وإن آجلا من أشياء لا يفطن لها الناس من حولك. إن ما تراه من غنى اليهود في هذه المدينة  متأت من القدرة على استشراف المستقبل والعمل على الاستعداد له، ومن ثم جني ثماره قبل أن يصبح مبتذلا. تعرف جيدا أنني اعتبرك ابنا لي وما كنت لأعرض عليك شيئا قد يسيء إليك.

        حرت بني من هذه الحياة التي لا تستقر على حال، كانت حياتي تسير كما خططت لها أو بتعبير أصح كما خططها من كانوا قبلنا من أهل ناحيتنا، فهم من عبدوا الطريق لنا بجدهم وعملهم ثم، وهذا هو الأهم، بنجاحهم. ما أسهل أن يسير الإنسان على دروب ممهدة، نفس المنطلقات تؤدي لنفس النتائج، فلم علي أن أخرج عن هذا الصراط السوي لأختبر سبلا أخرى؟

من حسنات الوالد رحمه الله أن غرس في نفسي الرضا بالقدر خيره وشره، وبأن الإنسان لن ينال إلا ما كتب له، وبأن التوكل يأتي بعد العمل. ما أصعب أن يختار الإنسان بين شيء في اليد وآخر في مكنون الغيب، هي المجازفة إذن التي لا تقبلها نفسي إذ إنها أقرب للقمار وقد حرمه الله… ولكن لي ثقة كبيرة في السيد دافيد وفي حدسه التجاري، ما أظنه سيلقي بي إلى التهلكة.

      جادلته في الأمر، بأن ما لدي غير كاف، وبأن موقع المنزل بعيد عن المدينة ويكاد يكون خاليا من السكان، وبأني غير معني بالأمر لكوني لست يهوديا. ظننت -وكنت واهما – أن انتفاء اليهودية عني سيعفيني من هذا الاقتراح ومن تبعاته، ولكن هيهات، فقد أعد للأمر عدته فأخبرني دون أن يرف له جفن بأنه اقتنى المنزل من صاحبه، وأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة لتحويل ملكيته لي.

بالكاد غطت مدخراتي ثلاث أرباع ثمن المنزل، والباقي سيقتطعه مجزأ من أجرتي. شعور غريب اعتراني وأنا أصبحت مالكا لبيت ما رأيته بعد، كان مزيجا من الفرحة والترقب والخوف. في اليوم الموالي اصطحبني السيد دافيد لرؤيته بسيارته. توجهنا شرقا عبر المدينة الجديدة، تركنا حلبة مصارعة الثيران على يسارنا وصعدنا هضبة مشجرة عبر طريق ضيق نصف معبد على جنباته اصطفت بساتين وراء سياجات نباتية كثيفة. في أعلى الهضبة وقفت السيارة أمام بيت تخفي معالمه الأشجار. فتح مرافقي الباب بمفتاح معه ودلفنا في ممر طويل تحفه الأزهار، ثم صعدنا درجا صغيرا لنلج البيت من بابه الرئيسي.

كان بيتا مكونا من طابقين متعدد الحجرات. لاحظت أن بعض الغرف لا زالت تحتوي على أثاثها وكأن صاحب المنزل غادره مستعجلا. لاحظ السيد دافيد استغرابي فلم يعلق. صعدنا للطابق الأعلى، نفس الحجرات مع فارق بسيط كون تلك المواجهة للبحر والمدينة كانت نوافذها زجاجية كبيرة.

كان منظرا رائعا بني، أسرني من أول نظرة. نسيت هواجسي، تخوفاتي، بل نسيت رفيقي أيضا، وعلمت أنني لن أغادر هذا المنزل إلا بموتي. لا تسخر مني بني فالأمكنة لها كذلك قبول، ثم مالي أراك ممتعضا، هذا المنزل، وتلك المدينة ضلعان لمثلث كان كل حياتي. لك القلم بني تسود به الصفحات، ولي الحكي مهما حاولت لن تستطيع سبر أغواره ولا التعبير بالكلمات عن كل حمولاته النفسية والوجدانية، إنها الحياة بني بكل تناقضاتها عصية على التصنيف ومن ثم لا تقبل صرامة التحديد. حلمك… لن أتقيد باتفاق، وما أظنك الآن قادرا على تهديدي بالتوقف عن الكتابة، فقد أصبحت أسير ما أحكي. سألتزم معك قدر المستطاع، ولكن ما أكثر تشعب هذه الحياة !!.

      رأيت استغرابك من وجود أثاث بالمنزل، أخرجني صوته من سحر المنظر وجماله، لم أخبرك بهذه الجزئية لكي لا تستقل الثمن الذي دفع في شراء المنزل ومن ثم تدرك أهمية استشراف الأمور. صاحب هذا المنزل بغض النظر عن تعصبه لليهود -الذين أنا منهم، فمثلكم منا المتسامحون ومنا ما دون ذلك – ليس غبيا ولكنه شعر بأن الوضعية الحالية للمدينة إلى زوال فصفى تجارته وأرسل أهله للمهجر  ثم التحق بهم.

لماذا أحدثك بهذا الأمر، المسألة بسيطة، أريدك أن تستفيد بذكاء مما ستؤول إليه المدينة مستقبلا، أغلب الأجانب سيغادرون عاجلا أم آجلا مما سيضطرهم لبيع ممتلكاتهم. ضيق الوقت ووفرة العرض ستجعل أي شراء الآن مربحا. ابدأ بأشياء بسيطة، أراضي في أحواز المدينة، كثير من سكانها يبيعون أراضيهم بأبخس الأثمان طمعا في العيش في المدينة حيث يتكدسون في أحيائها الهامشية كالجرذان.

ضيق ذات اليد، أعرف ذلك، ولكني لمست عن قرب حسن تدبيرك لأمورك المالية وقدرتك على الادخار وهي ميزة تنفردون بها معشر السوسيين، ثم اقترض من عمك فهو رجل ميسور ومحب للخير وإن كان عنيدا وغير محب للمغامرة. كيف عرفت ذلك، من معاشرتي الطويلة له. لقد طرحت عليه نفس الفكرة التي طرحتها عليك الآن ولكنه رفضها رفضا باتا، متعللا بأن الأعمار بيد الله وأن الأرباح الآجلة لا تهمه خاصة وأنه بدون عقب.

      آن الأوان لأوضح لك بعض الأمور، تخص علاقتي بعمك ومن ثم ستفهم حدبي عليك ورغبتي في أن أراك في أحسن حال، كرد لجميله إذ أسدى لي معروفا لن أنساه مهما حييت لم أجده حتى من أبناء جلدتي والذي ظل طي الكتمان، فلا هو تحدث عنه، ولا أنا سأخبرك بماهيته .

كان دافيد يهوديا من نوع خاص، أو كما كان يحلو له أن يصف نفسه بغير الملتزم والمتحرر من كل القيود، مما جر عليه نقمة المتعصبين من أبناء طائفته، زاد من حدتها موقفه الرافض للهجرة نحو فلسطين التي بدأت تنتشر بين اليهود في سرية تامة. كان صديقه الوحيد هو من باعه المنزل على الرغم من تباين الرؤى بينهما لأنه كان رفيق دربه طيلة طفولته وشبابه. كان كلما اشتد النقاش بينه وبين منتقديه واجههم بكون هذه المدينة هي وطنه، وأن أهلها على اختلاف مللهم وأجناسهم هم أهله وأحباؤه، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم. لم يغفروا له الأمر. زاحموه في تجارته حتى أفلست، ظنوا أنهم أخرسوا الصوت النشاز في طائفتهم، لكنه انبعث من رماده كما الفينيق، عاد لسابق عهده واستعاد نشاطه التجاري. لم يجدوا لانبعاثه تفسيرا فتركوه وشأنه. لم يسعد طويلا بهذا الانتصار المعنوي، إذ توالت عليه المحن،  فقد الزوجة التي كانت سنده، وبعدها هاجر ابنه، ثم سرق ماله، وهنا دخلت حياته.

       الحقيقة هو من دخل حياتي وقلبها رأسا على عقب، طبعا لما هو إيجابي، فأنا مدين له بما وصلت إليه من رخاء مادي واستقرار، وثقة بالنفس. لقد حظيت في هذه الدنيا بمعلمين اثنين، الوالد رحمه الله الذي زرع في بذرة إيمان لم يتحلحل، والسيد دافيد الذي فتح ذهني على عالم أرحب وعلمني أن الحب والخير ليسا حكرا على فئة من الناس دون أخرى وأن العطاء في كثير من الأحيان أهم من الأخذ. أقعده اعتلال صحته بالمنزل، ولما تفاقمت حالته أقنعه ابنه بالهجرة لكندا حيث الرعاية الصحية أفضل. خلص أموره التجارية والمالية، أبلغني بأنه ترك لي الأصل التجاري ومبلغا من المال نظير خدماتي.

    لم يكن الوداع هينا، وكالمعتذر عانقني مؤكدا أن العتب على صحته التي لم تسعفه وإلا لما غادر المدينة أبدا. برحيله فقدت أستاذا وأبا وركنا مكينا. تعاملت بعد ذلك مع يهود كثر ولكن لا أحد كان مثله. ترى أكان حقا يهوديا!!؟

     المصائب لا تأتي فرادى، فبعد رحيل دافيد بوقت قصير، نعى النعاة عمي، لم يكن معتلا ولا مريضا. كان في دكانه لما شعر بضيق في التنفس، طلب شربة ماء ولكنه مات قبل أن تصله. كان رجلا مؤمنا ومات كذلك. كان يدعو في صلاته أن يساوي الله بين عمره وصحته وأن لا يعذبه في خريف عمره، فاستجيبت دعوته. ورثت عنه دكانه، وتنازلت لأرملته عن بقية املاكه، ما كنت لأبيع عمي بأموال الدنيا ولكنها حكمة الله لا مفر منها.

لأول مرة سأواجه مصيري منفردا، اكتفيت بالدكان وتخليت عن الوكالة مرغما بعد أن قل الزبناء مذ رحل السيد دافيد، وبثمنها نفذت وصيته فاقتنيت أراضي خارج المدينة ستعود علي مستقبلا بنفع عميم. علمتني الحياة بني أن من لا يجازف لا يحقق طموحاته، على أن تكون هذه المجازفة في حدود الممكن والمعقول لكي لا تتحول لكارثة وخيمة العواقب. ليست هذه مجازفة ! ذلك شأنك بني أما بالنسبة لي فهي كذلك.

    أوضاع المدينة لم تعد مستقرة، لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن محيطها الخارجي. كنا نعيش حياتنا الخاصة ونحن نتعامى عن رياح التغيير التي هبت على العالم. ثار مغاربة المدينة مطالبين برحيل المستعمر، قمعوا كما قمع إخوان لهم في بقية المدن. لم تمر هذه الحادثة دون تأثير على سكانها وإن بشكل متفاوت. أيقن أغلب الأجانب  -وخاصة المترفين- أن المقام لن يطول بهم هنا وأن ساعة المغادرة قد حانت، فضجت نواديهم المغلقة بأسئلة كيف ومتى ستتم هذه المغادرة. 

غريب أمر هذه المدينة، وكأنها تعيش في عالمين متوازيين. الحياة العادية لأغلب سكانها تسير كما المألوف غير آبهة بإرهاصات التغيير المنتظر. ملاهيها ممتلئة، شوارعها تحتضن استعراضات وكرنفالات بحسب تعدد أعياد قاطنيها، وكأن الكل متفق على ترك هواجس المستقبل جانبا والتمتع بمتع الحاضر. أو ليست مدينة لعوبا !!! ومع ذلك هناك إشارات لا تخطئها العين، رواج تجاري أقل من المعتاد، أبناك أجنبية تغلق فروعها، وشركات تغادر تباعا لقد أصبح التوجس سيد الموقف.

      لا أخفيك بني، في هذه المرحلة كنت مشغولا بأمور شخصية أكثر إلحاحا، زوجة عمي ما فتئت تذكرني بالوعد الذي قطعه هذا الأخير لصديقه بتزويجي ابنته، أمام ترددي أكدت لي بأنها جالست الفتاة ووجدت فيها من الصفات ما سيجعلها زوجة صالحة ثم إنها من نفس منطقتنا. منعني الحياء أن أسألها عن شكلها وعن الصفات التي يحب الرجل أن يراها في زوجة المستقبل. ما كان لي أن أتملص من وعد عمي فتزوجتها. لن أحدثك عن كيف كان اللقاء ولا كيف تم العرس، فتلك امور ما كنا لنتحدث عنها . لم تخطئ زوجة عمي فقد كانت نعم الزوجة والرفيقة في السراء والضراء.

      لم نرزق بالولد، عرضنا أنفسنا على أطباء كثر دون جدوى، أصيبت باكتئاب حاد اعتلت من جرائه صحتها. حاولت جاهدا أن أقنعها بأن هذا قدر الله وعلينا أن نرضى به. كانت توافقني الرأي إرضاء لي، ولكني كنت أسمع نحيبها كلما اختلت إلى نفسها. كان يحز في نفسي أني لم أجد حلا لمشكلتنا واكتفيت بتقاسم حزنها وألمها في صمت. عرضت علي بعد أن غلبها اليأس أن أتخذ لنفسي زوجة أخرى تؤمن لي العقب، وأن لا مانع لديها إن كنت أرغب في تطليقها. رفضت العرض رفضا قاطعا ما كنت لأفعل ذلك أبدا.

    جاء الحل البديل على لسان سكير، كان دكانه مقابلا لدكاني. لم يكن “بيدرو” رجلا سيئا ولكنه كان يبالغ في بعض الأحيان في شرب الخمر فيستحيل لخطيب مفوه يصب جام غضبه على فرانكو وعلى جميع دكتاتوري   العالم فيثير ضحك المارة،  ثم يجلس على عتبة دكانه منتحبا ومتذكرا حبيبته التي هجرته. لما كنت أعاتبه، كان يجيبني بأن أمركم غريب أيها “الموروس” دينكم يحرم عليكم الخمر في الدنيا ويعدكم بها في الآخرة. لم أكن أرد عليه لكي لا أقع ضحية محاضرة لن تنتهي. تقدم نحوي وهو يتمايل وجلس على مقعد أمامي ورائحة الخمر تفوح منه مؤكدا أن عدم الإنجاب ليس نهاية العالم، وبأني محظوظ لأن لي امرأة تؤنس وحدتي بينما هو لا امرأة له، وأن على المرء أن ينظر للجوانب الإيجابية في الحياة وما علي سوى تبني طفل، الملاجئ ملأى بالأطفال المتخلى عنهم. أدرك على الرغم من سكره أني غير متحمس للفكرة، قام من مجلسه وقبل أن يستدير لينصرف أضاف، دعك من التبني، شجع زوجتك على الانفتاح على محيطها وجيرانها إن وجدوا في ذلك المكان القصي الذي سكنت فيه . لم أفهم كيف استبدلت المدينة بمكان شبه مهجور.

     كانت فكرة، ظننتها لن تفيد في إخراج زوجتي من أزمتها وعزلتها، ولكني فوجئت بها بعد أسابيع قليلة وقد ربطت علاقات متعددة مع أسر الجوار على قلتها. الأماكن المنعزلة تشجع الإنسان على التقارب التلقائي وبعفوية أكبر. لن أستطيع أن أصف لك بني الفرحة التي غمرتني وأنا أرى منزلنا قبلة لنساء وفتيات الجوار لتعلم الخياطة

والتطريز على يد زوجتي التي كانت بارعة فيهما. وجدت ضالتها في الأمر واسترجعت عافيتها ونسيت أمر زواجي من غيرها. أسعدتني بني بمرحها وإقبالها على الحياة وحبها للخير. اكتشفت بعد انزياح الغمة عنها منزلنا وأحالته لروض عطر بحسن ذوقها وقدرتها العجيبة على توليف المتناقض من رياش البيت وأثاثه.

     أصبحت طفلها المدلل، لا تسخر مني بني ففي أعماقنا مهما بلغنا من العمر طفل كامن. كانت وراء كل صغيرة أو كبيرة ترى أنها ستسعدني، ربما وبدون شعور منها كانت تحاول تعويضي عن حرماني من النسل.

استعذبت الأمر، ما استثقلت اهتمامها المبالغ بي الذي يبلغ أحيانا حد التضييق كأني أرد جميلها. كنا شخصين أضاعا بوصلتهما عندما وجدا نفسيهما عاجزين عن القيام بدورهما الطبيعي والديني. أوليس الزواج وسيلة لإكثار سواد الأمة !!.

     استرجع الوطن المدينة أخيرا. خرج المغاربة فرحين من كل أنحائها ممتشقين الأعلام الوطنية مكبرين ومزغردين، تحت أنظار أجانب مشدوهين سارعوا لإغلاق دكاكينهم مخافة تعرضها للنهب. لست أدري أأفرح للأمر وهو المفروض أم آسى لفقدان المدينة لوضعها الاعتباري؟ على الأقل سنرتاح من العراقيل التي كانت تواجهنا كلما أردنا السفر خارجها أو العودة إليها. الانتظار والترقب حظ هذه المدينة من جديد .

جاء “بيدرو” لتوديعي بعد أن عقد العزم على الرحيل لم يكن ثملا ولا مسرورا، اعترف لي بأنه سيغادر مرغما

إلى بلدته بنواحي إشبيلية وسيحاول استرجاع حبيبته، متمنيا من الله أن لا يزيد شتمه لفرانكو من مشاكله هناك.

عانقني ودمعة حيرى في عينيه متعجبا كيف أحب هذا “المورو”. كنت أبادله نفس الشعور. لم تخل الأيام التي تلت من وداع وفراق فكان دور ماهرتا الهندي، كان اسمه معقدا فاختصرته بهذا الشكل، ودعني بحرارة وأخبرني أنه سيهاجر لجبل طارق، ثم جاءت راشيل التي أثثت أحلامي لمدة طويلة بجمالها وأناقتها وخفة دمها. ربطتني بها صداقة متينة بعد أن كانت تسخر من بداوتي، ولكنها بالنسبة لي كانت “المرأة” وباقي النساء نسخ عادية. كانت مصممة أزياء حديثة وكل عملها مع الأجانب، ولذلك قررت المغادرة.

آلمني فراق هؤلاء وأمثالهم كثر، سنوات من العشرة لا تنسى بني لست متواطئا مع المستعمر، هذا كلام فضفاض أتركه لمن استغلوه أيما استغلال لبناء مجدهم على جثث الأبرياء. كانوا أناسا بسطاء ذنبهم الوحيد أنهم وجدوا في المكان والزمان غير المناسبين. مبادلتهم المحبة ليس جرما ولا خيانة ثم إني في الأخير إنسان.

تلقت زوجتي استقلال المدينة بفرحة عارمة، سارعت إلى دولاب ملابسها حيث كانت تخفي علم الوطن، وأثبتته على شرفة المنزل مطلقة زغرودة طويلة. عاشت حياتها في دائرة مغلقة لم تخرج عن أفراد عائلتها المقربين مع استثناء واحد أم راشيل اليهودية التي علمتها الخياطة والتطريز، ما كانت تعتبرها أجنبية بحكم أن عائلة هذه الأخيرة هاجرت هي الأخرى من الجنوب. إذن بالنسبة لها فليذهب جميع الأجانب إلى الجحيم ، وليعش الوطن.

استغربت من عدم مشاركتي لها فرحتها بنفس الزخم، لم تستفسرني وإنما أخذت بيدي وقادتني نحو النافذة وأشارت بيدها نحو حشد من الشباب متجه نحو المدينة حامل للأعلام ومترنم بأناشيد وطنية كان جلهم من الأحواز. التغيير بني وإن بسبب وجيه كهذا يثير التوجس والخوف من الآتي، هكذا طبيعة الإنسان لا تقبل الطفرات المفاجئة خاصة وأن الأمر هنا يتعلق بنمط حياة.

   فقدت المدينة الكثير من جاذبيتها بالنسبة للأجانب، ولكنها في المقابل استقبلت أفواجا من النازحين من مختلف جهات الوطن. عجزت عن احتوائهم فتمددت في كل الاتجاهات وأتت على الأخضر واليابس. استباح الإسمنت مناطقها الخضراء وبعضا من غاباتها، وغزا التلوث شطآنها. صدق حدس المتوجسين ولكنها ضريبة الانتماء لوطن يخطو خطواته الأولى على درب الانعتاق من التخلف.

ذقنا حلو الحياة ومرها، وترك الزمان آثاره على المدينة وفي أنفسنا، ألفناها في نسختها الجديدة، لم تعد متميزة كما كانت وإن حافظت على مسحة من الجمال لم تنل منه عوادي الزمن. لم يعد بيتنا منعزلا فقد نبتت حوله البنايات كالفطر مع ما يواكبها من وجوه جديدة وضوضاء ألغت حسن الجوار. أصبحنا غرباء في حي نشأ بأعيننا ونما بين أحضاننا.

لا عليك بني، أعلم أني ما حافظت على اتفاق ولا احترمت شروطا، ليس من السهل أن تحيط بحياة إنسان في بضع سطور، ولكني أرى أنك وفقت إلى أبعد حد وكنت رب مستمع ورب خاط. لا… لا لم أنته بعد ولكني أوشكت… نعمة الإنجاب حرمت منها وتلك مشيئة الله، وددت لو عوضني في الدنيا خيرا منها ففعل سبحانه.

أهداني زوجا صالحة كانت سندي وسكنا لي، ما من هم صادفته إلا وفرجته عني بسلوك أو بنصيحة أو حتى بابتسامة. جمعت من الصفات ما كان متفرقا في غيرها فأسعدتني. ربما بالغت بني ولكني كنت أراها بعين المحب. استحقت أن تكون وبجدارة المتممة للمثلث الأهم في حياتي. وكالعادة حكم علي ألا أنعم بالسعادة والاستقرار إلا بمقدار، شعرت بتعب مفاجئ فاستأذنتني أن تذهب لتنام قليلا ولكنها لم تستيقظ أبدا.

لم أصبر بني عند الصدمة الأولى ولا بعدها. كان الرزء أكبر من قدرتي على الاحتمال، ثرت على القدر وكدت أفقد إيماني، لولا أني تذكرت أن المؤمن مصاب، ولكن لما عليه أن يكون دائما مصابا !! . وددت لو كنت مكانها، ما أفعل بعمر لا مكان لها فيه.

أتعبتك بني بإلحاحي عليك بكتابة سيرة ما كنت أعنيها لذاتها ولكنها صيحة عجوز أدرك  أن دوره في الحياة شارف على النهاية أو كاد، وأن العمر انساب من بين يديه كما ينساب الماء من بين أصابع قابضه. ما أشد غربة المرء عندما يجد نفسه غريبا في المكان وفي الزمان. ما بقي من المدينة التي استقبلتني ذات يوم سوى بنايات صماء تبكي حظها العاثر في غياب ساكنيها، انفرط عقد الأهل والأحباب بالرحيل أو بالموت.                                           

   هل كان القدر رحيما بي؟ سؤال قض مضجعي في وحدتي وجعلني حائرا بين شك ويقين. قد تتساءل بني ما الفائدة من طرح سؤال لا أملك جوابا شافيا عنه وأنا قد بلغت من العمر عتيا، وهل إن كان الجواب بالإيجاب أو بالسلب سيتغير شيئا من الحياة التي عشتها؟ تساؤلات منطقية بني ولكن كثيرا من تصرفات الإنسان لا تخضع بالضرورة للمنطق ولا للعقل. عندما يشعر بأن طريقه قد أوشك على النهاية وأن هذا الطريق ذو اتجاه واحد وخاتمة حتمية لا مفر منها، ينتكص للوراء محتميا  بماضيه من مستقبل لا يضمن وجوده فيه.

نعم بني لم أجد لسؤالي جوابا لغياب المقايسة. سبل ربي مبهمة لا يعرف خباياها سواه، ثم إني راض بما قدره لي وهل كان لي من خيار؟. ضمنت لنفسي خلودا افتراضيا لما أوقفت جل أملاكي صدقة جارية للفقراء والمحتاجين. ما أفعل بمال لن يرد لي أحبابي ولا شبابي!!. ما ظننت يوما أني سأموت وحيدا. أدع لي بني قد لا نلتقي بعد اليوم. سيرتي أمانة في عنقك، عرف بها. لا أريد أن أمر من هذه الدنيا وأبقى نكرة…

 

   

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون