“سلة ورد”.. فصل من رواية دنيا زاد

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 28
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

جاءت “دنيا زاد” إلى الغرفة 401 للمرة الأولى والأخيرة تودعني في أكفانها البيضاء الصغيرة. عدة لفات من الشاش النظيف وثلاثة أربطة، عند الرأس والقدمين وعند الخصر. وملاءة كبيرة تضاعف من حجم الجسد النحيل.

في حرص، أطل وجهها تحت غطاء من القطن الطبي. طلبت من الممرضة إضاءة الغرفة، التي ظلت معتمة رغم كل شيء، ونظرت إلى الوجه المستدير المائل للزرقة. العينان مسدلتان والأنف صغير والفم يشبه الهرم، شديد الزرقة.                                                             

كانت تحيا هناك رغم كل شيء، بذلك الوجه الهادئ وذلك الرأس الذي امتنعت عنه الحياة ( والذي سرعان ما تمحوه الذاكرة؟). كان منذ أيام قليلة فقط يندفع خارجاً من رحمي إلى العالم. الذي لم يكن قد تأهب بعد لاستقباله.      

لم أقل سوى كلمة وحيدة مقتضبة – كانت تشبهني. ثلاث ممرضات يحطن بي. وزوجي الذي لم يكن قد رأى وجهها من قبل – وكلمات رثاء بلا معنى. إحداهن تربت على يدي وربما أيضاً على جبيني. خلعت نظارتي وندمت لأني لم أشعر بخروجهن، ولم أنظر فيما بعد من النافذة. عاد زوجي إلى الغرفة ثم تركني ورحل مع الجمع المزدحم خارج الأبواب. هذه المرة بكيت بصوت عال وقلت كانت جميلة. لم أستطع أن أسميها. كان اسمها خالياً من أية إشارة إلى جسدها النحيل الراحل. وإلى رائحتها التي لم تزل تملأ فضاء الغرفة.

صبيحة ذلك اليوم. الأربعاء في التاسعة أو بعد ذلك بقليل. تركت الغرفة 401 وأشرت إلى الممرضة. قلت: سوف أخبرها الآن. يجب أن تستعدي. ثم عدت إلى الغرفة وقلت: كل شيء إنتهى. بكينا معاً. هذه المرة بكيت بحق كما كنت أتمنى، منذ يومين، بين ذراعيها، وكنت خائفاً. منحت رجل الأمن بعض المال. استدعى زميله على عجل. فأخرجت ورقة مالية أخرى أحسبها عشرين جنيهاً، واصطحبت الممرضات الثلاث، بثيابهن الزرقاء ووجوههن الملونة التي استقر فوقها بعض توتر الخطيئة. حملت إحداهن الكفن الصغير وأسرعنا جميعاً إلى الغرفة حيث تنتظرني زوجتي. كل شيء إذن يحدث كما أرادت.

منحني الوجه الساكن طمأنينة لم أشعر بها طيلة اليومين الماضيين. في ضوء النيون الباهت حملقت بضع ثوان أخرى قبل أن يسرعن بتغطية الوجه.

كان أخو زوجتي الأكبر ينتظرنا خارج الباب. منتصباً كأبي الهول. حزيناً كالجُب. وربما كان يصلي في صمت، كما ينبغي. استبقيته لحظة أخرى ريثما أطمئن عليها. ثم وضعنا الكفن في سلة اشتريتها من بائع زهور قريب وغطيتها بالورد فصارت مثل حديقة صغيرة أينعت لتوها. وكنا في آخر شهور الربيع.

 

“دنيا زاد”. قلت لأمي حين أفقت من أثر المخدر إننا سوف نسميها هكذا. فقالت: كما تشائين. لم تكن ترغب في هذا الاسم. كان زوجي يعلم أننا لن نسميها حقاً إلا عند كتابة شهادة الوفاة. وكان أخي يؤمن بالقضاء والقدر فلم يشأ أن يذكرني به. وصار الجميع ينظرون إلى في صمت.

في الرابعة من صباح الاثنين صحوت على الألم. ورحت أدور في البيت. لم أشأ أن أوقظ أحداً. حاولت النوم في السادسة وصحوت نهائياً في الثامنة. قلت لزوجي. ألبسنا ابننا الوحيد ملابسه وهو نائم. ذهبنا إلى الحضانة. ثم إلى البنك ثم إلى المستشفى. حيث أمروا لي بالدخول. وكان الطبيب مهذباً كعادته.

الغرفة 401 نظيفة. خلعت ملابسي ورحت أدور فيها لأسكنَّ الألم. الذي صار يتزايد. حاولت أن أكتم صراخي حتى انفلتت مني صرخة أولى وكان زوجي يحثني على تنظيم أنفاسي. جاء الطبيب المساعد عدة مرات وجاء طبيبي أيضاً. وقال الجميع : ننتظر. أما “دنيا زاد” فقد كانت تبحث عن مخرج من مأزقها الحياتي الأول. أنصت الطبيب عشر مرات لصوت القلب. كان شيء ما يزعجه. وكنت أعلم أن شيئاً ما يحدث. رغم إرادتي.       

حقنة مخدر في النهاية. أسكَتَتْ بعض ألمي. فاحتملْتُ نصف الساعة الأخيرة قبل الانتقال إلى غرفة العمليات (هل تأخر الطبيب؟). لم تكن الغرفة معدة لاستقبالنا. نزفت دماً ثلاث مرات. دفقات ماء ودماء هائلة. انتقلت من فراش إلى فراش آخر ثم إلى فراش غرفة العمليات. أحسست بالمخدر يتسلل عبر الأنف. والرأس يندفع عبر الجرح الذي صنعه الطبيب دون إبطاء. والماء الساخن يغمرني. كل شيء غائم الآن. الضوء الأخير قادم من النيون الأبيض والهاجس الأخير: هل هي حقاً …بنت؟

 

خمسون دقيقة الآن في غرفة العمليات. لا أسمع صوتاً والصمت المطبق حول مقعدي يعزلني عن العالم. فوق الباب لافتة ينيرها ضوء أحمر خافت. غرفة عمليات محرمة. ثلاثة أطباء جاءوا إلي، هي بخير والطفلة ؟ ماتت. لم أبك. انتظرت حتى أعرف المزيد. وبدأ عقلي يعمل كالمطرقة. رأيت زوجتي تخرج من الغرفة كأنما لتودعني فقط. بروز وجنتيها ودوائر سوداء حول العينين علامات رحيل أكيدة.

ساعتان معها في الغرفة. الممرضة تروح وتجيء. تضع حقن الجلوكوز والدم في أوردة كل يد وتضرب الرأس بإصبعها ضربات خفيفة. فتفتح هي عينيها وتطلق آهة قصيرة (ما الذي يدور في هذا الرأس الآن؟) وجلد الوجه مشدود فوق عظام الوجنة البارزة. العينـان الجميلتان غائرتـان في صمت موحش. والشفتان ذهب لونهما وصارتـا بيضاوين بلون الموت.

طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولاً أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجياً كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضاً. واتفقنا على تفاصيل أخرى.. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيداً.

أحطنا جميعا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيـل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضاً .. غداً ..

 

حين كنت أضم زوجي آخر الليل كانت تركله فيضحك. صدى ضحكاته الآن يملؤني. وأشعر أن الرحم الخاوي يتحرك مع انتظام أنفاسها، التي لم تملأ أنفي برائحتها المعطرة كرائحة الأطفال. لم يسمح أحد بأن أرها تتنفس.

كنت قد أشتريت لدنيا زاد فراشاً جميلاً. ألوانه زاهية. يغطيه التُّل الأبيض والدانتيل. واشتريت أيضاً أشياء كثيرة تنتظرها في أحد الأدراج. مطرزة بألوان الطيف وبالانتظار. حذاء صغير وجوارب في حجم الإصبع وضعتها في حقيبة المستشفى منذ شهر أو يزيد. أردت أن ترتدي بعضاً من أشيائها بدلاً من ملاءة الكفن المعهودة . لكنهم بالطبع قاموا بواجبهم كما ينبغي.

على شاشة صغيرة انقسمت نصفين رأيتها مرتين. في شهرها السادس ثم في شهرها التاسع. رأس كبير.. عظمة الفخذ.. قال الطبيب “بنت” بالانجليزية. قلت أسميها “زاد” ثم قلنا أنا وزوجي “دنيا زاد” كما في “ألف ليلة وليلة”. أمضت في المستشفى ليلة واحدة. والألف الباقية؟ أمضيها في ذكرى اسم لم أنطق به سوى مرة واحدة. وربما مرتين.

أفيق من أثر المخدر على صوت زوجي ووجه أمي وضوء خافت يتسلل من حمام الغرفة. قالوا إنها بنت. وقالوا عندها نسبة عالية من “الصفرا”. هي في الحضانة إذن. لن أراها الآن إذن .. أنتظر إذن ..  ثم قالوا لم يصل الأكسوجين إلى المخ. وقالوا يحاولون. ثم في الصباح التالي : إن لم تمت عاشت “متأخرة”. تنام في سكون. وتنتفض بين الحين والحين في حركات غريبة. سائل أبيض ينساب عبر فمها الصغيرة. قال أخي إن فمها يشبه رقم (٨). وقال أخي الثاني ( بعد ذلك ) ليرحمها الله. ولم أصدق. كان كل ما علق بذهني هو أن الصفراء ليست مرضاً قاتلاً. أو هكذا ظننته. فليدفعوا ببعض الأكسوجين إلى المخ ولتنهض وأعطيها ثديي لتفطر. لم أصدق رغم وجه زوجي الشاحب. ورغم مواساة الجميع الصامتة. التي أدرك الآن مغزاها.

 

صباح الثلاثاء. اتصلت بأمي هاتفياً. قلنا: لنذهب الآن لإعداد المقبرة. أذكر آخر قصة كتبتها زوجتي. تبدأ هكذا: “اشترينا مقبرة”. ولم نكن قد اشتريناها بعد. ذهبنا إلى مقابر الأسرة الكبيرة. في الطريق، لم تبك أمي. لكنها قالت أشياء كثيرة لا أذكرها. كنت متعباً. وكنت أراجع في ذهني تفاصيل دقيقة. حول ما أخبر به زوجتي كل يوم عن حالة البنت. التي كانت ترقد منذ الأمس في ثلاجة المستشفى.

قلت أخبرها في المساء أنها ماتت في الحضَّانة لنقص الأوكسجين. وقال الطبيب: صباح غد هذا أفضل. تناولت بعض الطعام وكذلك زوجتي. وكانت ترسل الجميع إلى الحضَّانة للاطمئنان على صحة البنت. وكان الجميع يخرجون إلى الممر وينتظرون أمام النافذة.

في المساء أردت لها النوم. الذي جاء يحبو. علمت فيما بعد أنها أفاقت على صوت جلبة في الممر.

       نمت رغم كل شيء مساء الثلاثاء. ساعتان. صحوت وبكيت. ثم عاودت النوم. كان الطبيب قد أمر لي بدواء أتناوله أثناء الطعام. علمت فيما بعد أنه يجفف اللبن في الثدي. حين أفقت بين إغفاءتين كانت جلبة ميلاد جديد تعم ممرات الدور الرابع وكان الطبيب يهنيء الجميع بمولودة جميلة. قال : بعد ساعة نأتي بها إلى أمها. اختلطت أصوات في الممرات أدركت من بينها صوت الأب. وصوت طفل صغير يغار من تلك المولودة الجديدة. وصوت الممرضة الليلية.  وضحكات كثيرة.

في الغرفة المجاورة فرح أكيد. الصمت يعم غرفتنا.  كان زوجي نائماً وارتسمت في فضاء الغرفة صورة غائمة “لدنيا زاد” التي لم أكن قد رأيتها بعد.

صباح أربعاء مشمس. فتحنا النافذة. وانطلقت أصوات العصافير. أعددنا حقائبنا للرحيل. طلبت من زوجي أن يطمئن على “دنيا زاد”. حذرني: ربما تكون قد ماتت الآن. اتفقنا أن أراها رغم كل شيء. قلت إنني أفضِّل أن تموت على أن تحيا عذاباً لا يحتمله رأسها الصغير. كنت أحاول فقط أن أطمئنه وكنت أتمنى أن يكون رأسها هذا قد عاد إلى حالته الطبيعية بعد تغذيته بالأوكسجين. انتظرت أن يأتي إليّ بها في ثوبها الأبيض المطرز… ابتسمت واطمأننت إلى هواجسي وإلى رقة الهواء القادم من النافذة . يوم صحو … لا أحد يموت اليوم.

جاء في تقرير الطبيب أن الوفاة قد حدثت داخل الرحم نتيجة انفصال تام في المشيمة. حملت الورقة في جيبي وذهبت إلى مكتب الصحة القريب. حصلت على تصريح بالدفن وأسرعت عائداً. كانت تنتظرني كعادتها. الستائر مسدلة. والغرفة غارقة في صمتها. ينتظر الجميع خارج الغرفة 401، ويتجاذبون أطراف الحديث من وقت لآخر. لم يُكتب في الأوراق اسم للبنت .. لذا لم أستطع أن أنطق اسمها الذي أردته منذ سنوات.

“زاد الرمال” التي لم تكن عيناي قد رأتها بعد .

 

أتذكر. زوجتي ذهبت لطبيب “السونار” مرتين. لم أذهب معها ولا أذكر الآن سبباً لذلك. ذهب معها شهاب الدين. وشاهد صوراً مختلطة نظمها في عقله الصغير. ويبدو أنه أحبها دون أن يعلم. ودون أن يدري، صار الآن وحيداً من جديد.

 

تركني زوجي فأدرت وجهي صوب النافذة، خائفة. أترقب وأنصت. عاد وحيداً وجلس عند حافة الفراش: انتهى كل شيء. احتضنني. كتمت صراخي. اليوم كاذب. والشمس كاذبة. والعصافير أيضاً. لا صحو اليوم. قال الجميع: كنت مهددة بالموت. نزيف مفاجئ. ونصف ساعة أخرى في غرفة العمليات واحتمال تسمم وبضعة أكياس من الدم تتدلى إلى جواري. وجلوكوز وحقنة في الوريد. ولا أصدق. يزول الألم وتتهاوى احتمالات الخطر. ويبقى انتظار البنت التي جاءت رغم كل شيء … ولم يكن جوفي يوما مقبرتها.

 

بعد قليل جاءت ممرضات ثلاث. ولفافة بيضاء صغيرة. تم كل شيء في سرية تامة. لا يجب أن ننتهك جسداً بعد ما ضمته الأكفان. حذرني زوجي. قال: لا صراخ. أردت حملها بين ذراعيّ. رفضوا. ومضوا بها دون أن أشعر أنهم قد فعلوا. ظلت معي إحدى الممرضات. ثم طلبت منها أن تتركني وحدي قلت: أنا بخير.                                          

كانت بخير حين تركتها. لم يعل صراخ في الغرفة. ولم أتركها تحمل الكفن الصغير. أردت حمله بنفسي ولم أفعل. أسرعنا. وكان عقلي قد تدرب على الفعل. في الطريق إلى المقابر حملتنا سيارة الأخ الأكبر في هدوء. جلست إلى جواره بينما استقرت سلة الورد بجوار أمي في المؤخرة. موكب صغير لا يضم سوانا. فكرت فيما سيفعله الصبية الصغار حين نبلغ المقبرة. وانتابني قلق مفاجئ لما يمكن أن يحدث فيعرقل مهمتنا.

هدوء غريب. المقابر خاوية. والطرق المتعرجة تثقل عليها نهاية ربيع حار. هبط الكفن وحيداً. وتركت سلة الورد للأطفال الصغار.

جاءت أم زوجي .. ثم جاءت أمي. فأعددنا العدة لمغادرة المستشفى. يومان من عمر الزمن. وشبح موت محقق يطل من مسام الغرفة.

عند باب المستشفى لمحت رجل الأمن بقميصه الأزرق. منذ يومين كان يبتسم لي. وكنت أدور في رواق المستشفى أنتظر زوال الألم. الذي لم يزل.

في السيارة التي تنتظرني أقبع الآن وحيدة. وأتذكر أني منذ سنوات أربع كنت أضم طفلي الأول. وكانت الشمس تطل عليّ من النافذة. كانت فرحة طفولية ما تغمرني لوجوده بين ذراعيَ. الخاويتين الآن. يؤلمني ألم الرحم المنقبض والجرح الغائر والفراغ. وصمت كل شيء في الطريق المفضي إلى البيت.

في السيارة شربت علبة عصير أخيرة. واتكأت إلى وسادة صغيرة وحاولت النوم. ذهبنا لاصطحاب ابننا إلى البيت. جاء مع جدته واستقر في المقعد الأمامي. قال في قناعة سنواته الأربع: أخت شهاب رجعت بطن ماما علشان تكبر. ثم أردف: سلامتك يا حبيتي.

 

في الطريق قلت لنفسي، أخبرها كل الحقيقة حين يحين الوقت. اشتريت علب عصير كثيرة. وبضعة أشياء أخرى. رحت أفكر متى ولدت ابنتنا ومتى ماتت، حقاً؟ قالت زوجتي: ولدت “دنيا زاد” في 15 مايو 1995 في الثالثة والنصف ظهراً تقريباً. وماتت مساء 16 مايو 1995. وقالت أيضاً: لم يكن جوفي يوماً مقبرتها. لكني كنت أعرف غير ذلك.                                                 

التفتُ إليها ونحن في الطريق وأربتُ عليّ ساقيها. يلح عليّ ذلك السؤال البغيض، متى ولدت حقاً ابنتنا؟ تلك التي رأيتها منذ ساعات قليلة تتوارى في غرفة تحت الأرض دونما سبب حقيقي.

احتميت بفراشي من وجه أمي العابس. استغرقتُ في النوم دون أن أبدل ملابسي. حين صحوت كانت آلام الجرح تلح علي. وأسئلة كثيرة متخبطة تومض في رأسي، ثم سرعان ما تنطفئ.

بلغتني أصوات خارج الغرفة. خلعت ملابسي ببطء، وطلبت من أمي أن تعود إلى بيتها. مستاءةً فَعَلَتْ. هكذا لم يعد من أحد سوانا، زوجي وأنا وشهاب الدين – الذي كان رقيقاً كعادته – نتجنب النظر في أعين بعضنا البعض. ونكتم رغبة عارمة في الصراخ.

زوجي لا يفكر. مشغول بإعداد الطعام وموعد الدواء ومطالب الولد. احتفظ في قلبه بحموله. التي سرعان ما تخف وطأتها مع الوقت. اتفقنا ألاّ نستقبل أحداً بالمنزل. الأصدقاء يبكون والمعارف ينتهزون الفرصة للتباكي. هكذا أمضينا الأسبوع الأول وحدنا. جاءت أمي رغم كل شيء تحمل طعاماً وبعض الحكايات الجديدة. تحمد الله على سلامتي. أنا ابنتها التي خرجت بها من الدنيا (وماذا عن ابنتي؟) وتدفعني إلى حافة الجنون. وجاء أخي الأصغر يحمل ورداً وكثيراً من الحب. كما عهدته. لم يبق كثيراً. وعاد بعد يومين أيضا كاسراً حاجز العزلة. ثم جاءت صديقتي “نورا” التي رفضتُ لقاءها. ثم في المرة الثانية قابلتها بابتسامة مطمئنة.

تحدثنا كثيراً. أغترب عنها وأسألها عن ابنتها ذات الشهور الثمانية. وأتذكر يوم ولدت (ترى هل ولدت ابنتي حقاً ؟) ويوم حملتها بين ذراعي للمرة الأولى. ثم جاء أصدقاء آخرون كثيرون. حين مر الوقت وأصبح من الممكن أن أنظر في عيونهم دون أن يكون في ذلك دعوة للتذكر.

أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن… أقرأ: “وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة”.

بكيت كما لم أفعل من قبل. لم تعش خارج هذا الرحم المقبرة. كذبوا جميعهم. وصدقت لأني أردت لها الحياة يوما، أضاعفه سنينا في الذاكرة. خرجت من مقبرتي إلى مقبرتها ولم تترك لي سوى ذكرى وجه أزرق اللون. أراه فوق صفحة السماء في الصباح. وفي تموج أغطية الفراش إلى جواري حين يحل المساء. وجه نائم مختنق وجميل.

قال زوجي: كنت أنوي أن أخبرك حين تشفين.

لم أكن قد شفيت منها بعد. وكان عقلي يعمل بانتظام. تعود الصور الواحدة تلو الأخرى. وتحتل مساحات متباينة من رأسي. أعيد إنتاج الأحداث وأسأله عمن كانوا يعرفون. كل هؤلاء الذين جاءوا لزيارتي ولم يسألوا عنها. كل هدايا الأطفال لم تصلني قط. والكل ينظر إلى وجهي الباسم في قلق. على المنضدة، زجاجات عطر وورد كثير وفي الأركان نباتات ظل (لا تزين بحال قبر ابنتي).

 

عند خروج زوجتي من غرفة العمليات تيقنت أني أفقدها. وعند خروج ابنتي من المستشفى في سلة الورد تأكد لدي إحساس الفقد. صورتان لوجه زوجتي ولوجه ابنتي الساكن مزروعتان في قلبي كالصبار. دائم التحدي. قلت لنفسي: أكتب عنها قصيدة. لكني لم أفعل. وقلت: كيف أستبقي اللحظة وأستعيدها أنا الخائف المهزوم؟ وكنت قد دربت نفسي منذ سنين على الاختزان. قلت: اللحظة تفرض حزنها على الذاكرة، وتحفر لنفسها طرقاً ملتوية في الرأس  وسوف تعود إن أردت استحضارها (فهل أريد ؟).

عندما جاءت أمينة ( صديقتي ) بكت زوجتي بين ذراعيها. ثم بكت بين ذراعي زوجها. كنت أشعر باحتياج طفولي لكل الأصدقاء والعائلة. وحتى بعض المعارف المتفرقين. احتياج حقيقي لأن يربت أحد ما على يدي ويمسح عن جبيني صور الموت القريب والموت الممكن والموت المحدق.

كانت زوجتي تسألني متعجبة : لماذا لا تبكي ؟

وكانت تقول: ربما لم أعرفك بعد.

استعيد لحظات الألم الأولى. كالمحارات. وأكتشف أني نسيت طعم وشكل ورائحة الألم. ولم تبق لدي سوى تلك الرغبة في إعادة تشكيل العالم، وفقاً لقانون الغياب.                                                    

عدت إلى زوجي وابني الوحيد وبيتي الوحيد وبعض أصدقائي. ولم أجد بعد نفسي التي تصورت أني أعرفها.      

كثيرا ما كنت أشعر أننا أربعة أفراد في الأسرة فلا أجد غير ثلاثتنا. منذ تسعة أشهر، كنت أعد العدة لاستقبال هذا الكائن الرابع الذي نما بداخلي، بتفاصيله اليومية.

اليوم أفتقده وأستعيد حياتي بصورتها الأولى. عاد جسدي إلى سيرته الأولى. وعاد كل شيء إلى نقطة البدء.                       

لكني أجاهد لا زلت كيلا أنسى. وأسمي الأشياء من جديد كل حين.

كانت إذن “دنيا زاد” أو لن تكون بعد اليوم سوى تلك الأسطر القليلة. أتذكر الآن صورتها حين رأيت للمرة الأولى عظمة الفخذ على الشاشة عند الطبيب. تلك التي يقيسون عليها عمر الجنين. ثم رأيتها ثانية. ونقط كثيرة تمتد لقياس طولها. كل شيء كان كما ينبغي له أن يكون. أتذكر  أيضاً أشياء كثيرة لم أقلها.

الآن يتدلى ثديي بلا فائدة. وأخلع ثوبي مديرة ظهري للمرآة.

…………………

*رواية دنيا زاد، دار شرقيات، القاهرة، 1997

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون