سعد القرش في «أول النهار»… محاكاة نجيب محفوظ

موقع الكتابة الثقافي writers 101
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فيصل درّاج

 إلى أين تذهب أقدار البشر جميعهم؟ تذهب إلى الاندثار والحكايات. يتكفّل الزمن إطفاء ما يبدو ملتهبا، وينشغل الروائي بسرد حكايات الأموات، أو هؤلاء الذين في طريقهم إلى الموت. حاور نجيب محفوظ في «ثلاثيته» الاندثار مرتين: مرة أولى وهو يستدعي إلى فضاء الكتابة رجلا وسيما متأنقا مملوءا بالتناقضات (أحمد عبدالجواد)، ويتأمل مساره المستقيم الذاهب إلى العجز والشيخوخة، ومرة ثانية وهو يرى إلى ثورة كبيرة واعدة (1919) يتطاير ريشها شيئا فشيئا إلى أن تسقط في براثن العادة والتكرار، حالها حال الرجل الوسيم، الذي أقعده عجزه. انطلق الروائي من سيرة رجل وسيرة ثورة، وانتهى إلى تأمل الزمن، الذي يرحّل الفرح من موقع إلى آخر ويسوق الجميع إلى المقبرة. وواقع الأمر أن الروائي وضع في روايته الطويلة أكثر من خطاب: خطاب حارق عن استبداد الزمن، الذي يحوّل القوي إلى رماد، وخطاب بارد عن تبادلية المواقع المتساوية بين الحياة والموت، إذ الحياة وجه للموت والموت وجه عادي للحياة. ولكن لماذا هذا الكلام؟

 أصدر الروائي المصري سعد القرش أخيرا رواية عنوانها «أوّل النهار» تثير الفضول لسببين: فهي تحاكي، من ناحية أولى، ثلاثية محفوظ محاكاة صريحة، على رغم اختلاف الحجم (300 صفحة) وهي تنجز هذه المحاكاة، من ناحية ثانية، في شكل مبدع يستدعي التأمل. فقد جرى البعض على التفريق بين الإبداع والمحاكاة، معتبرا الإبداع «أصلا»، وناظرا إلى المحاكاة كظلٍ شاحب لأصل لا تمكن محاكاته. برهن سعد القرش عن اضطراب التفريق المفترض، مبيّنا أن المحاكي قادر على الإبداع بدوره. أخذ هذا الروائي من محفوظ مقولات كثيرة: رواية الأجيال التي تجعل الأب يستمر في ابنه وتسمح للابن الوليد بأن يكون جد أحفاده القادمين، وسطوة الزمن التي تمحو ذاكرة وتوقظ أخرى، وتناوب الميلاد الباعث على الفرح والموت الذي يثير حزنا مضاعفا، والأب المؤسس الذي انبثق من ذاته وتشجَّر إلى عائلة متناتجة يسقط عليها الفرح سريعا ويعبث بها الحزن كما يشاء. وهناك توالد الحكايات الذي هو من توالد البشر وانتهاء حكاية من لا نسل له… لم ينسَ القرش أن يواجه الزمن الإنساني، الذي لا جديد فيه، بصلابة التاريخ، الذي تصوغه عناصر إنسانية مبدعة، تتجاوز كثيرا الموت والميلاد، وهما يتحققان من دون مهارة. فالزمن الإنساني الراكد يحتفظ بتجانسه الرتيب، إذ الميلاد يتلوه الموت والمسرّة يعقبها الوجع، على خلاف التاريخ الذي يهزم زمنا جامدا بزمن متطور، ويخبر المجتمع الراكد أمورا لم يتوقعها. عثر محفوظ على التاريخ في ثورة 1919، التي وضعت أمام جيل قديم جيلا جديدا يغايره، وذهب سعد القرش إلى حملة نابليون على مصر، التي يرى فيها كثير من المؤرخين بداية لـ «نهضة مصر».

ثلاثة مستويات

 أدرج الروائي في نصه ثلاثة مستويات: مستوى أسطوري، يُذكِّر بمستهل «الحرافيش» ويتقاطع مع شخصية الأب في «الثلاثية» معا. ظهر الأسطوري في موقعين: الشخص الذي انبثق من ذاته، فـ «الحاج عمران» هلكت عائلته وهو طفل لم يكمل عامه الأول، أنقذته وتعهدت تربيته خادمة أهله: «حليمة». تجلّى الموقع الثاني في فعل التأسيس، ذلك أن الرجل الذي أنقذته الصدفة أسس، لاحقا، بلدة جديدة. ولعل هذا البعد الأسطوري هو الذي مكّن الرجل من أن يخترق، قويا، أجيالا متعددة، وأن يبدو إنسانا فاضلا وحاميا للفضيلة. غير أن البعد الأسطوري لن يمنع حكاية «الذكر الوحيد» الذي أنجب عائلة وتحمّل مآسي الحياة، راحلا من حال الإنسان المفرد إلى حال الإنسان المحوّط بالأبناء والأحفاد. استدعى التكاثر أو الاستمرارية البيولوجية المستوى الحكائي، الذي يتحدث عن اتصال البشر وانفصالهم، حيث التزاوج الذي يقرن ذكرا بأنثى، والانفصال الذي يأمر بنتا صغيرة بفراق أمها، ويفرض على أخ أن يدفن أخاه… تتشكّل الحياة من علاقات الحب والموت، أو من علاقات الحضور والغياب، وذلك في تكرار فاجع، يكشف عن استمرارية الحياة من ناحية، وعن عجز الإنسان واغترابه من ناحية ثانية. تتقاطر الحكايات المتماثلة، كاشفة عن ركود حياتي في مجتمع زراعي لا جديد فيه، تعبّر عنه حكايات موروثة لا تعرف الجديد. ومع أن شيئا يشبه التاريخ، وما هو بالتاريخ، يأتي من علاقة السلطة المملوكية بالفلاحين، التي قوامها النهب وتدمير البشر، فإن التاريخ الحقيقي يأتي مع جنود «الفرنسيس» المزودين بالمدافع والبنادق وبلغة جديدة. يضيء المستوى التاريخي، الآتي من الخارج، المستويين الأسطوري والحكائي، المتميزين بزمن فارغ يدور حول ذاته. لكن التاريخي لا يضيء الأسطوري والحكائي إلا ليذيبهما في زمن روائي، يقرأ الواقع ويؤوله ويرفضه، ذلك أنَّ الزمن الفرنسي الخارجي هو الذي أجبر الزمن الحكائي البسيط على التحوّل إلى زمن روائي، هو زمن «الحضارة المنتصرة»، الذي يروّع مجتمع الحكايات المتناظرة.

   أفرد نجيب محفوظ لـ «المفارقة» مكانا واسعا في «الثلاثية». والمفارقة عبث بمصائر البشر وسخرية من البداهات الإنسانية السائرة. فالعجوز المتداعي الذي جاوز المئة، فقد عائلته وأولاده منذ عقود، والشاب اللامع الذي هو صوت مصر القادمة يموت وهو سائر إلى حلمه. تتمازج السخرية والفجيعة وتحوّلان الإنسان إلى هامش معطوب. لجأ سعد القرش إلى المفارقة أكثر من مرة: العذراء التي ترملت على ولد أنجبته غيرها، والابن الوحيد العالي المقام الذي تزوج ابنة خادم أبيه لليلة واحدة وأنجب توأما حسمه والموت، وابنه الذي تزوّج بدوره ليلة واحدة وقُتل تاركا جنينا وحكاية…

   تشير المفارقة، في أشكالها المختلفة، إلى حدث واقعي يتجدّد بغيره، وتكون تعليقا ساخرا عليه. والمفارقة، في الحالين، هي الصدفة العاثرة التي لها شكل القانون. ساوى سعد القرش، وهو يحاكي محفوظ، بين المفارقة والمأساة، وواجه الوجع الضروري بالتناسل والمحبة والعشق، كما لو كانت المرأة، في أحوالها المختلفة، نقيضا للمفارقة وردّا عليها.

   لهذا تحتل المرأة مكانا رحيبا في الرواية: العذراء الأرملة، الأرملة الشقراء التي فقدت عقلها، العاشقة الحلبية الأصل التي تلد توأما وترحل، المغربية الوديعة الجميلة الصوت… لا يستطيع الذكر، أهلكته المفارقة أم صفحت عنه، أن يؤسس لاستمراريته إلا بأنثى خصبة كريمة، تحمل في أعطافها الأزمنة جميعا. ولعل عاطفة الأنثى المتقدة هي التي تتيح لها دائما إلغاء قانون السيد والخادم المتوارث، وتؤكد الحب رابطة تلغي كل الفروق. مع ذلك، فإن لرواية «أول النهار» مفارقة خاصة بها، تنوس بين مفاجأة الرحم الخصيب ومأساة الموت غير المتوقع، على مسافة من محفوظ، الذي يسخر معابثا، قبل أن يعلن أن المفارقة هي الشر، وأن الشر قانون ثابت من قوانين الوجود. عبّر القرش عن لغز الوجود بحكايات متوالدة متناظرة، إذ كل راحل على غير توقع يخلّف ولدا يحمل اسمه. سعادة تتأسس على الأسى وأسى يترك آثارا من السعادة. محفوظ في ثلاثيته ساوى بين السعادة والأسى، قائلا بـ «المجاز المأسوي»، الذي موضوعه إنسان طيب جميل تعاقبه الحياة، بلا سبب، عقابا شديدا.

   لا يسعى هذا الكلام، بداهة، إلى مقارنة بين نص وآخر هو مرجع له، إنما يتأمل روائيا طموحا يحاكي، باجتهاد، روائيا – نموذجا. يدور الكلام، بهذا المعنى حول المحاكاة المبدعة، التي تدرك أن الإبداع حوار بين نصوص مختلفة، وأن صورة المبدع الجديد من صورة المبدعين الذين اختارهم مرجعا له. على خلاف روائيين مصريين جدد يعتقدون بأن نصهم الجديد لا يحتاج إلى نصوص تسبقه منتهين غالبا إلى شيء قليل، آثر سعد القرش أن يبني نصه على معرفة جادة تعرف أن الكتابة الروائية انتساب فاعل إلى الشجرة الروائية، وأن الكتابة الجديدة حوار مع أشكال من المعرفة المختلفة.

   أنتج القرش في روايته «أول النهار» عملا روائيا متكاملا، ملتمسا الأسطورة والحكاية وحدثا تاريخيا دالا يذيب العناصر الفنية كلها في فضاء روائي، يؤمّن متعة القراءة والتأويل. تضمن العمل الذي كتب بنثر مقتصد محسوب خطابا فكريا ثنائي البعد يقول في وجهه التأملي: إن الحب شرط استمرار الحياة وطريق مواجهة فجائعها التي لا تنتهي. ويقول، في تأويله للتاريخ: لا يصدر تخلّف المجتمع الراكد عن الاستعمار، فالتخلّف هو الذي استقدم الاستعمار وجعله ممكنا. فإضافة إلى الجوع والجهل والمرض هناك ثابت متوارث: «إن المذلة في القرى ميراث»، كما تقول الرواية. أراد المبدع المجتهد أن يقول إن المدن العربية اليوم مرايا لقرى قديمة متوارثة لا تنتهي.

…………..

*كاتب فلسطيني

   (“الحياة”/ لندن  – 21/08/2007 )

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم